قصيدة النثر… الناظرة من ثقب الباب

نادية هناوي

هي القصيدة التي تميل إلى النظر إلى الأمور من زاوية واحدة، فلا تتضح بغيتها بسبب الإبهام الذي يكتنفها ما بين اليقظة والحلم، ولا يتضح مرادها بسبب غلالة الترميز التي تحيط بها وعادة ما يوظف فعل النظر فيها لا بقصد الإبصار بل التبصّر.

ويغلب هذا النوع من قصيدة النثر على الكتابات الشعرية التي هي أقرب إلى الخواطر والانثيالات الشعورية ذات النقلات الدلالية، من دون ضابط أو معيار، حيث الأنا تتحرك في شكل شطرنجي من حال إلى حال، متقلبة هائمة حائرة ومتضاربة تتشتت أفكارها وتزوغ مدياتها فلا تكون رؤياها للعالم واضحة.

وعادة ما تشيع هذه الكتابة الشعرية في النصوص التي تحمل صوتاً نسوياً، سواء كتبها الرجل أو كتبتها المرأة ما دام للأنثى فيها حيّز مركزي.

والقصيدة الناظرة من ثقب الباب، قصيدة تغاير المنطق في إدراك الأشياء وفهمها، وهي تجد للمحسوسات بعداً يقلب المرئيات إلى لامرئيات، بمعنى أن النظر كفعل فيزيقي تواصلي يتحول من تداوليته الإشارية المباشرة الدالة على الإبصار والرؤية إلى دلالة أبعد غوراً تتعلق بفعل تجريدي يحمل أبعاداً تفكرية تأملية تنساح في الماورائيات. ومن أمثلة هذا المبنى في كتابة قصيدة النثر مجموعة «أحاول دحرجة الأيام» للشاعرة فرح الدوسكي فتقول مثلاً في نصّ «بغداد»:

أنظر إليك بارتباك

من ثقب عباءة الغرباء

أرى ممالك الفقراء مفتونة برواية

لا تستيقظوا

والفراغ عندها هو المؤنس والمطلب ويظل الاختفاء هو اللعبة الأثيرة التي بها تتلمس الذات حقيقة وجودها في قصيدة «أراجيح متكئة» التي تتوسل فيها الذات بالسماع كوسيلة توصيل لإدراك ما حولها، لكن الإصغاء لنداء الذات نفسها هو الذي يخرج الإنصات من وظيفته السماعية الحسية إلى وظيفة تفكرية تدبرية لاحسية، تتجرد فيها الذات من أي شعور بالـ ما حول لتنشغل بالتأمل الذي يحمل الإنصات على بلوغه وإدراكه والبغية الظفر بكنه الروح الحقيقي: أين كانت؟ وما تكونه؟ وما الذي تتأمل في تكوينه؟ لعلها تجد ذاتها وتحس بما حولها فتعرف موقعها من نفسها ومن الآخرين.

إن الخيبة من الزمان ومكابدة لوعة الفراق والحنين تجعل القصيدة نسوية تسير نحو اللازمان واضعة ثقتها بالمكان الذي يستبدل الزمان الغد ويحل محله. وقد تهادن الذات ما حولها حالمة بيوتوبيا من النجوم والفراشات على أديم من ورود وندى، لكن كآبة الأنا الفردية تجعلها رهينة سجن ليس فيه إلّاها، مشتتة ميتة وحية معاً، باحثة عن ملاذ ينقذها من عزلتها، فلا تجد بداً من النظر من ثقب الباب.

وقصيدة النثر ذات المبنى الناظر من ثقب الباب هي في الأغلب قصيدة نسوية، لكنها لا تقتصر على الشاعرات وحدهن بل يمكن أن تنطبق على ما يكتبه الشعراء أيضاً كون التوصيف بالنسوية، ليس رهناً بالكاتب كمذكر أو مؤنث، إنما هو رهن بالقصيدة نفسها وما يحويه نصّها من دلالات تتموضع في سياقات أنثوية. وقد نلمح في قصيدة النثر تقولبات شعرية لها شكل انزياحي دال وموح، والسبب أن الذات سابحة في عالم يوتوبي حالم، حيث لا زمان لها ولا مكان. وعلى رغم أن الذات الشاعرة لا ترى إلا من ثقب الباب، وقصيدة النثر لا تتجاوز عندها التعامل مع ما هو مرئي، إلا إن هذا الجزء الواقعي المرئي هو ممر الى رؤية ما هو تخييلي لا مرئي، بما يوصل الذات الى رؤية العالم.. فيتحول تشظيها إلى الآخر الذي تراه ناقصاً إن لم يكن متلاشياً، ولن تشعر بحضوره إلا مستلباً بكينوتها، مصادراً وجودها وبسبب هذه الأسلبة تصبح قصيدة النثر ناقمة على الآخر الذي ستتعدد صورته وقد تتسرب في ذاكرة الأنا المؤنثة كغائب غير حاضر.

وما بغية القصيدة الناظرة من ثقب الباب إلا التصالح مع العالم متوخية الاعتناء بنفسها مع عدم الاكتراث بغيرها، متلفعة بالغياب ومتوارية بالغموض صانعة لها صرحاً من المثالية، وعالماً من اليوتوبيا، فيه الأشياء موصوفة ومرتبة بحسب ما تريد تلك الذات، في عالم خاص ليس فيه للادلجة أي مكان. وعادة ما تتشكل قصيدة النثر الناظرة من ثقب الباب نصّاً سردياً كل شيء فيها يتحرك وينبض وينطق ويهتف، أما تفاصيل اليوم المعيش فإنها صالحة للشعر ما دامت العين الراصدة تلتقط تفاصيل مكانية تسيح فيها اللحظة السردية في رؤية هلامية، حيث لا تتوضح أبعاد المشهد إلا من زاوية واحدة، والسبب أن الأنا ترى من ثقب الباب.

وهذه القصيدة لا تنتجها إلا ذات ترى حالها بالانزواء وهي تخاتل الآخر مفرداً وجمعاً، بوعي يشوبه الغموض وعقل يتدارى خشية ووجلاً. والزمن المقبل كابوس أليم، وعادة ما لا تفارق حدود هذه القصيدة حيز المكان المعيش كالغرفة مثلاً، أو أي حيز تعتاده بشكل مكرر، مسجلة يوميات الشاعر كلحظات يقظته ونومه أو طبيعة حركاته وسكناته، ملتقطة صمته وسكونه راسمة هدوءه وعربدته، تعقله وجنونه.

ولا تخلو كتابة هذه القصيدة من واقعية، لكنها واقعية موهومة أو واهمة بسبب سوء الفهم الناجم عن اللااكتمال في الرؤية التي تبصر الأشياء من جانب واحد. هذا ما يجعلها بالنسبة للذات الشاعرة كياناً حياً نابضاً ومتحركاً، تحاول الذات أن تبني معه شراكة أو صداقة، أو لعل هذه الذات تتمكن من أن تتبنى القصيدة كوليد أو ربيب تعاهده بالرعاية وتتكفل بكل متطلباته.. والهدف ألا تضيع الذات وأن يكون لها ما يربطها بالوجود ويشعرها بالأبوة أو الأمومة، فتركن إلى واقعها وتتفهم منغصاته بلا عصاب أو توتر.

وهكذا يبدو هذا النوع من قصيدة النثر لا كنصّ من كلمات وبنى.. وإنما ككائن أثير وهلامي وجزء صميم من تكوين الذات. وهذا الكائن الحميم حدوده البيت ومرتعه الغرفة فهو الطفل أو المرأة أو الابنة، ولأن القصيدة تظل تنظر من ثقب الباب، لذلك لا يتعدى الإلهام فضاء الذات وحضنها، وحدود الكتابة فيها لا تتجاوز الغرفة التي تظل المكان الأثير لولادة القصيدة ولعل تسميتها بالقصيدة الغرفة سيكون ملمحاً من الملامح المميزة لقصيدة النثر ذات المبنى الناظر من ثقب الباب، لتنغلق على نفسها داخل فضاءات كتابتها، منشغلة بخصوصيات صغيرة وشخصية تجد فيها الذات إرهاصات إبداعها التي تنصهر فيها شعرية النصّ ضمن حميمية المكان، ليكون المنتج وليداً فتياً لكنه أصيل، فهو جزء من فضاء البيت وأثاثه وموجوداته.

ناقدة وأكاديمية من العراق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى