الجنون فنون: الوقت… الفراغ…
بلال رفعت شرارة
لا أخفي عليكم أنني ذهبت إلى الدكان المقابل لمنزلي ثم إلى السوبر ماركت المجاور، وسألت عما إذا كانوا يبيعون الوقت! وكيف؟ بالمتر؟ بالكيلو؟ هل ثمنه بالعملة الوطنية أم الأجنبية؟
بصراحة، لم أسمع أيّ جواب شافٍ سوى أنّ البائع في المكان الأول، وكان من عمري تقريباً، تبسّم، وقال لي ليس عندي من ذلك. أما الموظف على الصندوق في السوبر ماركت المجاور فقد ضحك منّي حتى كاد يقلب على قفاه، وقال إنّ الوقت ربما يباع في الصيدلية أو محلّ المفروشات أو الملابس أو الأدوات الكهربائية، ولكن ليس عنده بالتأكيد.
رجل عجوز كان يقف قربي أشفق على شبابي من الجنون المبكر، وانتحى بي جانباً وهمس في أذني: يا إبني الله يساعدك… الوقت لا بينباع و لا بينشرا . قلت: ولكني قرأت عن ذلك في الجريدة إنّ بعض الأطراف في لبنان تريد تأجيل الانتخابات، وهي تشتري الوقت لتحسين موقعها الانتخابي، وإنهم في العراق أخذوا وقتهم قبل إقرار إجراء الانتخابات، وإنّ نائب الرئيس الأميركي أعلن انّ بلاده ستنقل سفارتها إلى القدس بحلول نهاية عام 2019 أيّ أنه باعنا الوقت حتى ذلك التاريخ ، كما أنّ الانتباه الإنساني لليمن تصاعد مع تدفق المساعدات الإنمائية الى مأرب في هذه اللحظة السياسية هو لكسب الوقت في الإعداد لحملات عسكرية جديدة لبناء التوازن اللازم لإجراء محادثات سياسية، وأنه في هذا الوقت سيتقرّر الثمن التركي للسلام السوري وأنّ التنافس على الانتخابات في مصر ينتظر الوقت المناسب لفتح شهية المرشحين وأننا نحن العرب سنردّ على الاعتداءات وعلى تصاعد الاستيطان «الاسرائيلي» في الوقت المناسب .
الناس عندنا تختار أو يختارها الموت في وقت غير مناسب غالباً لها ولنا لموتها لحضور دفنها… للمشاركة في جنازتها… لأخذ بخاطر الأهل والأقارب… لحضور ذكرى مرور أسبوع أو أربعين يوماً على الوفاة أو ذكرى غيابها السنوي لاحظوا ميتنا لا يموت بل يشرّش في حياتنا ونحن لا ندع له سبيلاً لاستراحة جسده . أيضاً احتفالات الزفاف تتمّ في المواعيد الممكنة لاستئجار صالات الأفراح أو عند عودة المحروس من بلاد برا أو عند شراء أو استئجار فستان العرس المناسب ومن ثم يفرض علينا التوقيت…
هل أنت في المنزل؟ متى تطلع إلى الضيعة؟ متى تنزل إلى المدينة؟ من قرّر اتجاهات الصعود والنزول؟
هل أنت نازل على الانتخابات؟ بصراحة أنا ربما لا أصعد حتى انتخب… أنت لم تفعل أيّ شيء للناس… بماذا انتفعنا منك؟ النيابة ليست مجرد فرصة عمل… شنص … الحمدلله أنّ شنصي عاطل، وإلا كيف كنت سآخذ راحتي في الوادي… في الكتابة؟
هل لديك وقت لردم الفراغ الذي تسبّب به الوقت ؟ هذه الجراح الغائرة التي لا تندمل؟ تقول إنه ليس لديك وقت لمعالجتها… طيب سأشتري لك وقتاً لقد وعدوني في الصيدلية المجاورة أن يرسلوا طلباً خاصاً ليستحضروا لي بعض الوقت من بلاد برا باعتبار أنّ جوا لا يوجد من هذه البضاعة والناس هنا تعيش كلّ يومٍ بيومه.
أنا في يوم الخميس المقبل سأكسب الوقت وأذهب إلى الوادي وأحاول أن أتباسط مع نفسي… أسر لها ما بقلبي… أحدثها عن الدوخة وأنني أدور وأفتل وأبرم على نفسي كلما قمت من مكاني.
كيف يصبح الإنسان كذلك؟ كيف يتغيّر عليه الوقت ولا يعود هو نفسه؟ كيف بإمكانه أن يلتفت الى الوراء ويتمنى أن يعود صبياً… شاباً… رجلاً ليفعل كذا…
فكرت بتجارة مربحة أن أبيع وقتاً للأفراد من الجنسين هناك وقت نسواني ووقت رجالي أن أبيع وقتاً للمجتمعات… للطوائف… للمذاهب… للفئات… للأحزاب… للجهات…
الذين يتربّعون على سدة أعلى أنماط السلطات ليسوا بحاجة ليشتروا من بضاعتي… هم لديهم وقتهم : سنة… عشرة… أربعون… مدى حياتهم وليس حياتنا القصيرة…
العجوز الذي كان بجانبي في السوبر ماركت انتبه إلى اين ذهبت افكاري المجنونة فبادر إلى نصحي بأن أبيع الفراغ بالمتر، وأتوقّف عن محاولات شراء الوقت .
قال لي العجوز الذي يبدو أنه ملاكي الحارس: انتبه لمساحات الفراغ فساحات الفراغ المشاطئة أسعارها تختلف عن تلك البرية الجبلية أو السهلية القاعدة او الواقفة… العالية أو المنخفضة.
سألته بصوت مرتفع: هل أستطيع مبادلة الوقت بالفراغ ؟