الشاعر جهاد الزغير: النقد البنّاء هو الذي يصنع الشعراء ويثقف الجمهور

رنا صادق

حديقة الشعر واسعة وموزّعة ما بين الجميل والأجمل، ما بين الحسّ الشعري والعاطفة، وما بين اللحن والوزن والإيقاع، وعلى هذه القواعد يُحدَّد من هو شاعر الحديقة الأبرع. البراعة وحُسن الذوق، كالروح والجسد، لا يفرّقهما سوى الموت. والبراعة وحسن الذوق روح الشاعر وجسده، ما إنّ وُجدا فيه أبدع، وإنّ غابا عنه أخفق.

وإذا توفّرت إلى جانب هذه القواعد الشعرية واللفحة الموسيقيّة، الحسّاسة الممزوجة بالحب، والحنين إلى الأرض، والحكايات والذكريات بشخصية واحدة، أنتجت مبدعاً من طراز رفيع. وهذا ما يُعرف عن شاعرنا، شاعر الغزل والحبّ والحنين، جهاد الزغير، ابن بلدة بنت جبيل.

لم يدخل الشعر من نافذته خلسةً، بل طرق بابه الحديدي بثقة وثبات وخطى واثقة، لأنه شاعر من الصف الأول. ابن بلدة بنت جبيل يتأثّر بالواقع، يعيش انفعالاته مع الأوراق، يصبّ خوالجه على رفوف الأبيات، يكثّفها ويوزنها بحسب ما يراه الأنسب، ليعبّر ببضع أبيات شعرية لا تتعدّى عدد أصابع يديه إلا قليلا، وذلك لأسباب عدّة وأساسية ترجع إلى مبادئه في الشعر.

شاعر تفعيلة وقصائد عمودية، يُرجع قرّاءه إلى لفحات زمن كبار هذه المدرسة الشعريّة، ويأتينا من وسط عالم القواعد والضوابط، التي ترسم خطّاً واضحاً لمسلكه الشعري.

النغم الموجود في أبياته وأوزانها، يشعرك بجماليته كطرب العود بين أنامل عازفه. فالزغير ما أحلاه شاعراً كاتباً وما أروعه يلقي كلمات أبياته المنغّمة. ينفصل العالم عن وقته حين تسمع صوته، كلماته، وإحساسه مع قصائده.

«البناء» التقت الزغير، وتعرّفت إلى مكنونات شخصيته الشعرية وتجربته الخاصة.

من بنت جبيل إلى بيروث ثم الحوش في صور، تهجّر وعائلته، حيث استقرّ بهم الحال. هناك، في ضواحي صور كانت الطفولة والنشأة. طفولةٌ مستقرّة وسط عائلة متماسكة، تتألف من أب قويّ وعاطفي في الوقت عينه، وأمّ اجتماعية ملتزمة بشؤون منزلها، كأية جنوبية. تعلّم وسط هذه العائلة مشاركة الأفكار والمشاكل والحبّ. هذه العلاقة مع طفولته يصفها بالسحر. شَعَرَ وسط هذه العائلة، إلى حدٍّ كبير، بمعنى تحقيق ذاته وإثبات وجوده، من خلال مساحة التشارك والتفاعل في ما بينهم.

كبر على مشهد تلك الأمّ العطوف التي لم يفارقها شغف القراءة، إضافةً إلى صوتها الجذّاب، داومت على نصحه وأخوته على مزاولة القراءة وحبّ الكتاب. تأثّر الزغير بمشهدية الوالدة المثقّفة الجالسة على كرسيّها تتصفّح أوراق من كتاب أدعية وما شابه، وتخطر في ذهنه كلّما حمل كتاباً يقرأه.

خلال سنين التعلّم، تعرف إل أستاذ لغة عربية من الطراز الأول حسين صالح حمادة ، كانت تصل ثقافته إلى حدّ الفلسفة، وفعلاً هو فيلسوف، بحسب الزغير، في رصيده الكثير من الكتب ما بين خمسة عشر وعشرين مؤلّف. أثّر بشاعرنا، علّمه، نصحه وشجّعه على سلك هذا المجال.

ويقول الزغير عن أستاذه: هذا الرجل كان يمسك بيد كلّ من يستحق أنّ يأخذ حيّزاً في الكتابة الشعرية أو الأدبية، ويوجّهها نحو الصحّ. من هنا، أثّر أستاذه به، حتى توجّه نحو الكتابة.

دهشةٌ وسحر

علاقته مع الكتابة، كما يصفها الزغير، من دون مقدمات، هي علاقة دهشة.

جريدة الحائط في المدرسة كانت تعطي التلاميذ دوراً في المشاركة الكتابية، والعمل على تحسين هذا الجانب لديهم، من هنا بدأ مشوار الزغير والكتابة. وأغلب المواضيع كانت تنبع من المؤثرات الخارجية، كأهمية الأرض، والوطن، المقاومة والجنوب. وهذه الكتابات تتحول مع الوقت من كتابات كلاسيكية تقليدية إلى كتابات رموزية حديثة.

ليس هناك لحظة يقرّر فيها الشاعر أن يصبح شاعراً كما يعتبر الزغير، حيث يشير إلى أنّ كلّ الناس شعراء بالفطرة ـ كما يعتقد نزار قباني ـ لكنّ الظروف هي التي تصنّف الشاعر شاعراً، ومتفوّقاً في الشعر، خصوصاً في المجتمع العربي.

ويقول في هذا الصدد: إذا أردت إرجاع كلمة الشعر إلى الشعور والاستشعار، فالناس جميعاُ يشعرون ويحسّون، وليس بمقدور الجميع التعبير عن الشعور، أو وضع هذا الشعور في قالب فنّي لإيصاله إلى المتلقّي.

وجد الزغير نفسه وسط زحمة الكتابة، لما تلباه من الترحاب والاستحسان من الناس، الأمر الذي شجّعه على ذلك أكثر. أي بات مصدراً للاهتمام من قبل المحيطين فيه، ما أعطاه دفعة نحو العمل والاجتهاد، وسنحت له رؤية أنّ تجربته ببساطتها هي فاعلة ولها رسالة أولئك المتعمّقين في الشعر والمصنّفين شعراء.

الشاعر لديه القدرة على التقاط ومضة الأحاسيس والمشاعر، والتعبير والتفاعل معها بطريقة لائقة.

صانع مدرسته الفنّية الخاصة

هو شاعر يكتب القصيدة الموزونة، حيث يشير إلى أنّ ديوانه الأول كان نثرياً، فقال له أستاذه حينذاك: «إذا أردت أن تصبح شاعراً افعل ما شئت، لكن أولاً وأخيراً عليك أنّ تكتب القصيدة الموزونة التقليدية». وكذا، بدأ الزغير كتابة الشعر الموزون مع تلقّي نصائح أستاذه وتعليماته. هذا النقد البنّاء، كما يقول الزغير، هو الذي يصنع الشعر والشعراء.

لا يتّبع مدرسة شعرية معيّنة، هو صانع مدرسته الخاصة. إذ يعتبر أنّ التقيّد بمدرسة معيّنة عملية تكرار للذات، فالشاعر كالنهر لا يكّرر نفسه مرّتين. فالشاعر لا تصنعه مدرسة شعرية ما لم يكن شاعرًا حقيقيًا. والشاعر الجيد، كما يعتبره الزغير، عليه أنّ يلمّ بقواعد اللغة، وموسيقى الشعر وخصائصه. المفارقة بين الشعرية والشعر، وتكوين ـ على أساس هذه القواعد ـ الهوية والشخصية الشعرية.

ينطلق الشاعر جهاد الزغير من الغوص في المعنى قبل المبنى للقصيدة، ويحاول التوفيق بينهما، إذ يقول: لا يمكنني أن أرسم صورة، ومعنى هامّاً، على أساس مبنى ركيك، والعكس صحيح. يجب أنّ يكون هناك تآلف بين الاثنين، أي أن يحمل المبنى المعنى، والمعنى يوصل إلى المبنى، ولا تغلب ناحية على أخرى، وإذا ما حصل ذلك، فالشعر عندها يسقط ويضيع.

ويتابع: ثمّة إشكالية اليوم، حول مدى صلاحية الشعر وكيف يكون قادراً على أن يصل إلى المتلقّي.

الكتابة والفكرة تأخذان الشاعر، لا الشاعر من يستحضرهما، لا وقت وزمن لهما. ففعل الكتابة ليس فعل تخطيط، هو ليس عملاً كالنجارة والنحت.

ويقول: للمرأة حيّز كبير في كتاباتي الشعرية، فصورة المرأة عموماً لا تفارق الشاعر، إن كانت حقيقة أو من نسج خياله.

وردّاً على سؤال عمّا يريده الشاعر، يجيب الزغير: يريد الشاعر إثبات أنّ الإنسان كائن جدير بالحياة بكرامة، والإنسان هو متلقّي عناصر هذا الكون ومتأثّر بها بشكلّ إيجابي أحياناً وسلبيّ أحياناً أخرى. إذ إن الشاعر لا يرصد القيم الإنسانية الإيجابية فقط.

ثلاثية الشعر

هناك ثلاثية للشعر، أوّلها، إمتاع القارئ من خلال نغمية الشعر والموسيقى وبناء الجُمل، والسعي من خلال ذلك إلى الترويح عن نفسه. ثانيها، تثقيف القارئ من خلال جعله يعيش تجارب الآخرين، ولو من بعد، فالاحتكاك بتجارب الآخرين، يعلّم. أما ثالثها، فالتنوّع في القراءات والمواضيع التي تهمّ القارئ وتشدّه.

يعتبر الزغير أنّ الشعر غزل أولاً وأخيراً. وأوّل من حاول كتابة الشعر كَتب للمرأة. فالمرأة نقطة الارتكاز في دائرة الشعر. والشعر حالياً بألف خير، على عكس ما نسمع، إذ إننا نرى اليوم صحوة شعرية لدى محبّي الشعر والشعراء. وسبب ذلك أنّ شعراء اليوم هم جيل القراءة، وهم منفتحون على الجوانب والمناهج العالمية، ويتابعون التطوّر والتجدّد.

قديماً، كان الشاعر إذاعة القبيلة، ووسيلة لنشر الأخبار. هذا الدور الذي كان يؤديه الشاعر ما زال موجوداً، لكنه يعاني من مشكلة كيفية انتشار الشعر وسرعة وتيرة الحياة. حيث بات الناس يجنحون نحو الأمور التي فيها منافع مادية أكثر، فصار الشعر بصورة غير مباشرة لترفًا ثقافيًا.

الزغير ليس راضياً على جوّ شعر المنتديات، فالمنتديات تلعب في هذا الصدد دوراً سلبياً. وذلك بالسماح للمستشعرين أن يصبحوا شعراء بالاسم.

ويقول: صحيح أنّ الشعر بأمان، لكن ثمة تعدّيات كثيرة عليه، فالزمن غربال.

«حين تمطر السماء رملاً»، عنوان هذا الديوان هو عنوان قصيدة فيه. أما ديوانه الأسبق ألوان وألوان فقد اختار له الزغير هذا العنوان لأن ديوانه مليء بالألوان والأضواء ولكثرة العناصر فيه. إذ يشير إلى أنّ الشاعر عليه أنّ يختار العنوان الذي يراه يتماشى ورسالته التي يريد قولها.

بالانتقال إلى علاقة النقد بالشعر، يقول: النقد بشكل عام وُجد ليرفع من شأن العمل حتى ولو كان العمل ضعيفاً. النقد يوجّه ويصوّب من دون أن يجرّح بصاحب العمل. فهدفه الأول هو التقويم. لكنّنا في العالم العربي نجد في أحيان كثيرة أنّ النقد سباب وشتائم. الشاعر له تجربته الخاصة، وليس مقيّداً بشكل معين، بل هو مقيّد بالنوعية التي يقدّمها، فيجب على النقد التركيز على الإيجابيات قبل السلبيات، ويجب أن يبنى النقد على النظريات النقديّة الحديثة، والمناهج والدراسات العمليّة. والنقد هو نهج له خطوات، والناقد هو من يقوم بهذا الدور، أي تطبيق النظريات على نصٍّ ما. فالنقد لدينا باختصار هو نقد ذاتيّ، غير موضوعي، فيه تجريح أو الكثير من المجاملات.

إصداره القادم

ديوانه الجديد الذي ما زال قيد التحضير، أثارت المرأة معظم قصائده، كتبها بطريقة جديدة، علاقته بالله والأب والكون، كما كتب فيه الطبيعة والموت، بشكل قريب من النفحات الفلسفية، كلّ هذه المقومات استخدمها في ديوانه الجديد، الذي سيبصر النور قريباً.

مختارات

حُفرت بدمع العين والدمع فضّاحُ

فلا أنت مرتاح، ولا الدمع يرتاحُ

وكنت كمن أهدى المسيح جراحه

فطعنك إصرارٌ، وذبحك إلحاحُ

تمزّق صدري، لست ترحم خافقي

وكيف يداوي الجرح في القلب ذبّاحُ

وكيف لذئب أدمن الدم أن يرى

دموع الضحايا أو عذابات من ناحوا

فها نابك المغرور ينهش غفوتي

ليجتاحني صحوٌ كما الموت يجتاحُ

أنا يا صغيري عتمة هربت إلى

يديك، وكلّ الظنّ أنك مصباحُ

وأنك للرعشات جسر عبورها

وأنك سكر للذهول وأقداحُ

وأذكر كيف الليل صار جريمة

وغيماً من الأوجاع ما كان ينزاحُ.

جمر على الرقص، أم رقصٌ على الجمرِ؟

ليعلق اللفظ بين الصمت والجهرِ

لا تعزلوه، له كون يهيم به

إذا الحبيب أراد الوصل للهجرِ

فعاشق الدهر لا ينفك يأسره

شوق لأنثى ترشّ الملح في الدهرِ

شوق لخصر يطال الغيم مرتجفاً

ليحبس الماء في تكويرة الخصرِ

يعود يطلقه إن جاءه خبرٌ

بأن غصناً يمدّ الكف للخيرِ

فالماء يدري أنّ الغصن يعشقه

والغصن يدري أنّ الماء لا يدري

العشق كأسٌ، ونار الشوق خمرته

والهجر سُكرٌ وما أحلاه من سُكْرِ

ويسأل الكأس سكرانَ به قلقٌ:

جمرٌ على الرقص، أم رقصٌ على الجمرِ؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى