انتهاء الصلاحية: الطائف وأوسلو
د. رائد المصري
كلاهما رمّم على أنقاض الهزيمة السوفياتية عام 1989 وبدئ العمل بهما بعد فرض الأحادية القطبية الأميركية نفسها على العالم، والوصول الى ما سمّاه منظرو العولمة الرأسمالية حينها «نهاية التاريخ»، ومن دون كيل الاتهامات بالتعرّض لدستور الطائف بأخذ البلد الى وجهات غير معروفة، لكن على الأقلّ وجب التجرّؤ وقراءة الأمور بموضوعيتها وواقعيتها. فالمجتمعات الإنسانية في نموّ وتطوّر مستمرّين والظروف الدولية والإقليمية التي ولّدت المنتجيْن في لبنان وفلسطين هي غيرها اليوم، لا سيّما أنهما خدما الفترة التي يستحقانها في مدّة زمنية أذاقت الشعبين مرارة العيش والكثير من الجوع والقهر والقمع والتواطؤ، فوضع الأول الشعب اللبناني تحت رحمة البنك الدولي وأدواته المرتبطة عضوياً بمؤسسات المال الأميركية الاستعمارية وهيمنتها، ووضع أوسلو الشعب الفلسطيني تحت ضغط الاحتلالين المباشرين للسلطة وللكيان الصهيوني مع التوسّع في سرطان المستوطنات وقضم الحقوق والقتل العلني المجاني…
فالحديث هنا هو عن استراتيجيا للخيارات السياسية التي باتت تحتّم الانتقال إلى المقلب الآخر من دون رمي تهم المحرّمات بعدم المسّ بالدستور والتقديس لهذه الخيارات المرّة. فلو كانت العبرة في تطبيق دستور الطائف ولم يطبّق الى اليوم بعد 28 عاماً، فمعنى ذلك أنّ الإشكالية في المواطنية ومزارعها المنتجة والمفرّخة لهذه التقرّحات المعْدية والمتمدّدة على الساحة اللبنانية، ونقصد بها الطائفية والمذهبية التي نخرت جسد الوطن والمواطن، فبات واجباً التوجّه نحو عقد جديد يلائم ميثاقية الشعب العنيد في عنترياته ومذهبياته ومزارعه الطائفية، وليس الانتظار بعد أكثر من ربع قرن لتطبيق المادة 95 من دستور الطائف في إلغاء الطائفية السياسية من الوجود للدخول الى النظام العلماني المدني… فهذه مزحة لن تصدّق بعد اليوم…
هناك فجْعنة لم ير اللبنانيون مثيلاً لها في الآونة الأخيرة بعد التقاتل والتناتش على المحاصصات الطائفية والمذهبية في دوائر الدولة، تمثّلت بقوى سياسية وازنة أرادت بناء لبنان العظيم الخالي من الفساد والقائم على الكفاءة والجدارة، لكنّهم فضحوا بعضهم البعض في المحاصصة على تعيينات الحجّاب وموظفي الفئة الرابعة والخامسة، ويريدون إقناع اللبنانيين بضرورة إلغاء الطائفية السياسية أو المذهبية السياسية، بعد أن شبعوا ومُلئت بطونهم وبنوا من خلالها الاستقطابات والاصطفافات الطائفية المذهبية على أبواب الاستحقاق الانتخابي…
حتى لو كان العيب في تطبيق وأسلوب التطبيق للدستور، فهو قد خدم صلاحيته في الداخل اللبناني، أو من خلال التقاطعات الإقليمية والدولية التي تغيّرت اليوم ومعها تتغيّر وقائع وموازين القوى السياسية الداخلية والمرتبطة في الإقليم، وبالتالي ليس سراً الكلام والحديث عن متغيّرات بات لزاماً الحديث والعمل عليها بجرأة، فهذه نتيجة طبيعية وحتمية للمتغيّرات التي أرست قواعد الطائف ومكّنت قوىً سياسية من أنْ تفتك بالبلد وبإنتاجه وبطبقاته الاجتماعية المسحوقة. والحديث هنا ليس عن مزاجية أو رأي سياسي أو محاولة اختبار وجسّ النبض، بل هي رؤية حاضنة للتكتّلات الشعبية وللفئات الاجتماعية التي هلكت وتعبت وشبعت كذباً ونفاقاً ووعوداً وهي الآن على أبواب الانتخابات…
هل يستطيع أحد الإجابة عن التساؤل المطروح مثلاً حول الاقتصاد الأردني ونظام الحكم وتوزيع الكعكة الاقتصادية في هذا البلد، الواقع تحت الضغوط الصهيونية المباشرة نتيجة اتفاق وادي عربة المذلّ، وتحت وطأة التهجير الفلسطيني وإقامة الوطن البديل، وتحت وطأة التهديد بقطع المساعدات المالية الخليجية والأميركية للسير في ركب وفلك سياسات المشروع الرجعي العربي «الإسرائيلي» أو الأميركي الاستعماري… وهل هناك بلد في هذا العالم يعيش ويستمرّ في اقتصاد عماده بعض رجالات الأعمال والمستثمرين الذين يرمون الفتات المالي على شكل ريوع للشعب يقتات عليه خدمة لقضية مذلّة بهذا الشكل؟
بعد كلّ ما جرى ويجري بحقّ فلسطين وشعبها والقدس والمقدّسات، فالحال ليست كما هي اليوم، وليست كما كانت عند البدء بأوسلو وإرساء حلّ الدولتين، فموازين القوى الدولية التي فرضته تغيّرت، والتكتّل الإقليمي في المحيط تبدّل، وانهارت منظومات من الأفكار والنظريات التي اعتمدها المستعمرون الأميركيون والصهاينة في حكمهم ووضع يدهم على فلسطين عبر أوسلو، فما عادت هي ذاتها الأفكار ولا النظريات ولا القوى، وكذلك القوة التي تفرض هذه الحلول التي أذلّت شعوبنا في فلسطين ولبنان والأردن وأفقرته وجعلته ملحقاً بالعولمة الإمبريالية ومؤيداً لثوراتهم المشوّهة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وثورات الاقتراض من البنوك لتعزيز الاستهلاك غير المنتج، وثورات الأراكيل العمياء التي تلقي بالشباب العاطل من العمل على قارعة الطرقات يعبّر عن ذاته بطريقة هزلية لا حول له ولا قوة في أيّ تغيير… وتطلبون الولوج إلى الدولة المدنية العلمانية والكفاءة والجدارة: ادخلوا إليها فمَن منعكم…؟!
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية