قراءة مستقطعة في قصيدة «أعراس الموت» لمحمد علاء زريفة
فتحية دبّش
»La seule vie r ellement v cue c>est la literature»… «Proust, Le temps perdu, TIII, p 895».
بمعنى: «الحياة الوحيدة المعيشة فعليا هي الأدب».
إن تكنولوجيا التواصل اليوم كسرت طوق الجغرافيا وقرّبت المسافات المعرفية، ما أدّى إلى ظهور مستجدّات فكرية لحوحة لا يمكن إغفالها. ومخطئ من يتصوّر لوهلة أن تشديد الرقابة كما الحال في بعض البلدان سيمنع التوق إلى حرقة الأسئلة والهدم، وربما إعادة التأسيس التي ستكون مرحلة لاحقة ولا شكّ.
وإذا صدقت مقولة بروست أعلاه، فإن الأدب هو المجال الأول الذي منه وبه تنبني حياة يراد عيشها على نقيض الحياة المعيشة. فتنقلب الموازين وتصبح الحياة التي تنبعث في الأدب هي الحقيقية، وتلك التي نعيشها خارج الأدب هي الزيف.
وهنا، ومن هذا المنظور العام، سأقرأ قصيدة «أعراس الموت» للشاعر السوري علاء محمد زريفة، وأعنون القراءة بـ«موت الثالوث المقدّس»، والتي ستكون ضمن كتابي المستقبلي الموسوم بـ«الرسائل الرقمية المشفرة للعالم».
هل يكتب الكاتب فقط لمجرد الكتابة؟
وللإجابة على هذا السؤال لا بدّ من الدخول إلى تخوم النفس البشرية وقراءة مرحلتَي ما قبل النصّ وما بعد النصّ.
هي النصوص كلّها على اختلاف هويتها الأجناسية ومرجعيتها المعرفية إبحار في النفس البشرية بدء من الهواجس وصولاً إلى بلورة الحقيقة النسبية .
حين نتناول نصّاً كهذا الذي بين أيدينا، تحضرني مقولة للناقدة الفرنسية سوزان برنار عن كون قصيدة النثر هي «خلق حرّ ليس له من ضرورة سوى رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كل تحديد، شيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية».
وبالتالي، يفتح القصيد للقارئ باب القراءة اللامتناهية وباب التأويل والمخاتلة.
يبني الشاعر قصيدته على مقاطع متفاوتة الحجم، يغلب عليها الطابع الثوري المقوّض حالة الطمأنينة المقدسة التي ساهمت أبداً في قتل الأسئلة، بانياً أو محاولاً بناء حالة من العصف توّاقة إلى الكسر.
ورغم كون التشكيل ومقوّمات التجنيس في النصّ لا تعنيني البتّة، إلا أن استقراء الفكرة لا بدّ فيه من الإشارة إلى السجلّ اللّغوي والمرجعي الحافل بالممنوع والمحرّم سأزني، اللحم المحرّم، الوطن، الراية المقدّسة… .
وهكذا يرنو لنا مطمح الشاعر ومن ورائه الفرد اليوم في موت الثالوث المقدس، ومن هنا يتّخذ العنوان «أعراس الموت» كل طقوسيّته وكلّ شرعيّته أيضاً المغموسة في سجلّ يجمع بين المقدّس والمدنّس.
في هذا الجزء من المقاربة النقدية الثقافية سأتوقف عند مفتتح قصيدة : سأزني بك… لأنك زوج أمي الذي لا أستطيع مناداته أبي .
ويكمن هنا سرّ النص، هذه العلاقة الثلاثية القائمة بين الإبن والأمّ وزوج الأمّ مستبعدة بل لاغية للأب.
وهنا مفتاح أوّل لكسر صورة ذهنية وعاطفية تحدّد الانتماء، إذا كانت الأمّ قد وجدت شرعية تحوّل انتمائها فإن ذلك يستحيل على الإبن لا أستطيع … وبالتالي تنشأ في وعيه تلك الأسئلة عن مدى شرعية هذه الشرعية في العلاقة. وما استخدام الكاتب «أزني» إلا تدليل على هذه الشرعية اللاشرعية.
يحيلنا الشاعر ومنذ المفتتح إلى باب أوّل من المحرّم أو المقدّس وبما أنه لا يمكنه الزنا بأمّه فقد قرّر مستقبلاً الزنا بزوجها على سبيل الحلقة والحدّ الكامن بين الابن وأمّه.
فإذا كانت الأمّ مقدّسة أكثر من الأب، وتنصّبها كل الثقافات تقريباً أعلى الهرم، فإن الشاعر يروم بناء هرمية جديدة يكون فيها الابن هو المقدّس باعتباره هو المعطي للأم هويّتها كأمّ .
وهكذا يلج الشاعر منطقة الثالوث محتفلاً بموته حين يعلن:
«نيّة الزنا بزوج أمه،
بالتهام شريحة اللحم المحرّم،
إنه صوت كلّ أولئك الذين تنكرهم دفاتر سجلاتك الرسمية…
إنها ليست حربنا
اللاوطن،
قصيدة معدة للانفجار…».
«سامحوني، لم أعد جاهزاً للموت… آلاف المرّات».
هذا السطر هو الرسالة التي يوجّهها الشاعر ومن ورائه الفرد اليوم إلى العالم…
ما جدوى الموت المتكرّر؟ ما جدوى الحروب القائمة بِاسم الدين وبِاسم الوطن وبِاسم الجنس والتي لا تخصّ الفرد ويُجبَر على خوضها، ما جدوى المقدّس الأمّ إن هي سلّمت تحت شرعية ما، ابنها للموت واللاجدوى؟
أعراس الموت
سأزني بكَ…
لأنك زوج أمّي الذي لا أستطيع مناداته
أبي!
أحمل جرحي الميت ـ سلفاً
وأمضغُ على عتباتِ حجارتك السلجوقية
هزائمي أجمعها…
سألتهم على عجل شريحة اللحمِ المحرّم…
سأفتح نار رشّاشي الفردي
وأقهقهُ ساخراً:
تبّاً لك!
يا وطني
لستُ حيّاً في خضمك
أنا صوت كلّ أولئك
الذين تنكرهم دفاتر سجلاتك الرسمية
وتحفظهم دور التحقيق
أنا صدى
اللقطاء وباعةِ الأحلام
ونكراتِ الأصوات
فهل يعرفني حرّاسك الطيّبون؟
أبدأ على الأرض
وأنتهي عليها
أليس آدم من تراب؟
فما نفع شقائنا
نحن الفانين هنا أو هناك
لم نخرج إلى الحرب
لكنها دخلت تحت جلدنا…. رغماً!
أسأل الشهيد القادم
ما يفعل الشهداء حقاً، فوق؟
هل يموتون مراراً؟
هل يبترون سيقان أشجارهم؟
كرمى للّاشيء
يصرخ بي طفل مخلدٌ
يأتي من نواحي المطهّر
لا تجدف بالمعنى
اكتفِ لو شئت برجم الاسم
ارتدِ جبتك الخضراء
واصعد معي إلى الجبل!
كاتبة تونسية