اللوحة التشكيلية بين الحياة والموت
لحسن ملواني
وأنت أمام لوحات تشكيلية، إما أن تشعر بما يعتمل في ما تقدّمه مفرداتها فتتعاطف مع واضع ألوانها ووضعياتها وتراكباتها، وإما أن تظلّ أمامها دقائق ثم تمضي لحالك وكأنها صماء بكماء يستحيل التواصل معها أو بصددها. فتلك لوحة نابضة وهذه لوحة خامدة لا يمكن توقع الحياة بين معطياتها. فاللوحة كالقصيدة الشعرية سواء في قالبها القديم أو الحديث، فهي تشعل في أعماقك ما ينير دهاليزها المظلمة، فيعيد إليها الاستنارة المفقودة بفعل رتابة اليومي، ورتابة المشهدي المعتاد الذي لا يضيف أمراً نوعياً ينجينا من تبلد الإحساس وخمود المشاعر.
اللوحة وعالمها الرحب
نتحدّث عن اللوحة العالمية الإنسانية التي تخاطب الناس على اختلاف ثقافاتهم، ونتحدّث عن اللوحة محدودة الأفق، وهي العاجزة على مبارحة مكانها الضيق، بل نتحدّث عن لوحة مغلقة عقيمة لا شيء يزكي تواجدها. في جميع المنجز التشكيلي في العالم نقف على هذه الثنائية المتمايزة، لوحة حية متلألئة لا يذبل ألقها أمام سطوة الزمن وتغير الأذواق، فهي تحمل قضيتها وتحضنها إلى الأبد، ولوحة نعتبرها إجهاضاً للون والخطوط بما يحوّل مفرداتها إلى ما يشبه الطفل الخديج الميت، الذي لا ملامح تميّزه بين الكائنات، ما يجعلها تستحق الدفن والإزاحة مع البحث عن البديل.
أعمال ودلالات
نجد في لوحات إسماعيل شموط أنها تعانق قضية شعب كابد ويكابد تحت الاحتلال البغيض، فهي بذلك تقاوم إلى جانب المقاومين مع اختلاف العدة والوسيلة. كذلك لوحات فتحي غبن التي ترصد رصداً ملحمياً القضية الفلسطينية، راسمة تاريخ النضال من أجل الحرّية والانعتاق، مسجّلة صفحات مشرقة من هذا التراث الجميل الذي يأبى الانمحاء رغم ما كان وما سيكون.
وفي لوحات المصري أشرف عبد القادر، تجسيد لرؤاه المبرزة لمكامن الجمال في المفردات، عبر تقنية الضوء والظل، السُّمك والشفافية لتحيل أعماله إلى سحر الحضارة العربية بمعمارها وطرازها الفني الجميل. والعراقية ثائرة المياحي تطلّ عليك المرأة حاملة معها همومها ومعاناتها وأفراحها، هادئة أحياناً، ومقيدة اليدين والرجلين شاردة النظرات أحياناً، وقد أكرهت على الانتظار والترجي من هذا وذاك لفكّ قيودها المنهكة لروحها وجسدها.
وفي أعمال السوريّ سلمان عبود تبرز العلاقات الإنسانية مثيرة لما نتشاركه إزاء بعضنا من المشاعر الإنسانية النبيلة. وفي أعمال السعودي عبد الله البارقي جمالية ورونق خاص مثير للفضول والتساؤل والتأمل. في المقابل تجد أعمالاً لا تضيف شيئاً ولا تحرّك إحساساً، فهي باردة جامدة، لا حياة ولا روح فيها، حيث لا تجاوب ولا تساؤل ولا تأمل. ويمكن تحديد فكرة اللوحة وقيمتها الإبداعية حين يجيب مبدعها عن سؤال ما الذي أوحى لك بها، ولماذا جاءت على هذه الصيغة، رغم أن السؤال يعتبره البعض غير مشروع ما دام المبدع يتحدّث ويقول الكثير عبر الريشة واللون، ولا يعقل أن يشرح خطاباً بخطاب.
غير أن جدوى الفنّ في ارتباطه بما يمسّ مشاعر الناس وحيواتهم، يفرض البحث بين ثنايا اللوحات الإبداعية عن رهافة الحسّ التي تبنى عليها، وعن عناصر الملامسة فيها قضايانا الكائنة والمصيرية. وبهذه الصيغة يصبح الخطاب الفنّي التشكيلي رفيقاً حميمياً يقاسم الإنسان همومه وقضاياه الراهنة والمصيرية.
كاتب وتشكيليّ مغربيّ