«النور والمعنى»… كتاباً جديداً لناصيف نصّار
صدر مؤخّراً عن «دار الطليعة» في بيروت، كتاب جديد في الفلسفة، لمؤلّفه ناصيف نصّار. وقد جاء في توطئة الكتاب بقلم المؤلّف، ما يلي:
يتناول هذا الكتاب مسألة المعنى، وتحديداً معنى الحياة في عالم الإنسان. ويطرح تصوّراً فلسفياً محدّداً حول مراتبها والمبادئ التي تخصّ كلّ مرتبة منها، ويأمل في أن يساهم في إلقاء مزيد من الضوء العقلانيّ عليها، لأنها وإن لم تقع في النسيان في أيّ يوم من الأيام، إذ إنّ كلّ تصوّر للإنسان والعالم يتعرّض لها بصورة أو بأخرى، إلّا أنها تحتاج، على إيقاع المراحل والعصور وبخاصّة في هذه المرحلة المضطربة جدّاً من تاريخ البشرية، إلى إعادة نظر أو إعادة بناء حتى يأتي تصوّرها النظريّ على ما يليق به من الحقيقة والجدوى.
وقد قصدت إلى أن يكون عنوانه متوشّحاً بالنور دالّاً على أنه مدخل إيجابيّ إلى فلسفة المعنى، من موقع مطلّ على الجهات الأربع. واستعدت لهذا الغرض مفهوم التأمّل، مع علمي بما يلقاه من تحفّظ في بعض الدوائر الفلسفية، لأنني مقتنع بأنه يتّسع لكلّ العمليات العقلية التي يستخدمها التفكير الفلسفي، وأراه متوافقاً مع شروط المكان الذي يتم فيه. أعني «ضفاف الأمل» ولماذا «ضفاف الأمل»؟
لأنّ تناول مسألة المعنى في هذا الكتاب يأتي استكمالاً لفلسفة الوجود التاريخي التي طرحتُها في كتاب «الذات والحضور»، والفصل الأخير منه يدور على مسألة الأمل. وهل ثمّة معنى لحياة الإنسان لولا الأمل؟ ولكن علاقة الأمل بالمعنى ليست علاقة شرط فحسب، فالأمل يتقوّى ويتمكّن ويتجدّد ويغذّي الحياة بقدر ما يمتلئ من المعنى. ولذلك وجب الاعتناء بفلسفة المعنى من داخل مقتضيات الوجود التاريخي بلا تردّد في توظيف مفهوم التأمّل توظيفاً جديداً.
وهكذا، يواجه الفرد مسألة المعنى في التأمل الأوّل من تأملات هذا الكتاب مرفوع الرأس، وعيناه شاخصتان إلى الشعلة اللامرئية التي تضيء كيانه تحت أسماء الغاية والأصل والتكوين والوظيفة. إذ إنّ هذه الأسماء تتّحد في اسم واحد ولا تتحمّل وحدتها أن يتلاشى أيّ واحد منها، ولا أن يهيمن أيّ واحد منها على الأسماء الأخرى هيمنة كلّية. ومن هنا صعوبة اختبار المعنى في مرتبة الوجود الفرديّ، وكذلك في ما فوقها من المراتب، وضرورة الكشف عن مبادئ هذا الاختبار انطلاقاً من تحليل دقيق لوضع الأنا التي تقوم به. فالفرد جسد يقول أنا، وبقوله هذا يفارق جميع أنواع الكائنات الحيّة التي هو واحد منها. ففي «أنا أحيا» إذاً مضمون المعنى ومرتكز الرهان على المعنى. ولذلك نتأدّى باطمئنان إلى مبادئ الاختبار الفردي/ الشخصي لاختبار المعنى بطريق استخلاصها من وضع الجسد المتعيّن الذي ينبض ويشعّ كأنا. فإذا قلنا إن الاختبار الفردي/ الشخصي لمعنى الحياة محكوم بمبدأ الجهاد المتواصل ومبدأ الانتظام الوظيفي ومبدأ الانبساط الكياني، فإننا لا نفعل سوى بناء مفهوم اختبار المعنى بوساطة الثوابت التي نلاحظها لدى جميع الأنوات في معاناتها المعنوية. ولا ضير في هذا السياق بل بالعكس، من تأويل جديد لرسالة سقراط وتأصيل واجب الاهتمام بالمعنى في روحانيتها.
وفي التأمّل الثاني يتم الانطلاق من رفض الفردانية لا للرجوع إلى ما قبل العصور الحديثة، بل لوضع الفرد المتمتّع باستقلاليته في المجتمع الذي يرمي ويسعى إلى تجاوز التناقض بين هوية الكلّ ووطأته، وبين هويات أفراده وحقوقهم. أعني المجتمع المنفتح. الأمر الذي يتطلّب بالطبع إقامة المجتمع المنفتح بدلاً من المجتمع التوتاليتاري، ويتطلب أيضاً تحصينه ضدّ التأويلات المتطرّفة للفكرة الليبرالية.
ومن أجل ذلك، ينتقل التفكير النقدي من الحوار مع كارل بوبر إلى الحوار مع تشارلز تايلور، لكي يتوصّل إلى استخلاص الشروط العامة للاختبار الجماعي/ المجتمعي لمعنى الحياة. وهي كما يتبيّن لنا الروابط التوحيدية والوعي المشترك والمؤسّسات الملائمة. إن المرتبة الجماعية/ المجتمعية في اختبار المعنى بوصفه عقدة التأليف بين الأصل والغاية والتكوين والوظيفة مرتبة زاخرة بالمشكلات والتحدّيات، لأن أشكالها متعدّدة وتحوّلاتها لا تهدأ وستزداد هذه المشاكل والتحوّلات تعقيداً في العقود الآتية بسبب الاضطراب المتزايد في إدارتها السياسية. ولذلك، سيحتلّ العمل السياسيّ مزيداً من الصدارة والاهتمام في المستوى الجماعي/ المجتمعي من معنى الحياة، لا سيّما إذا كان صريح التعلّق بفكرة المجتمع المنفتح ومستلزماتها. وقد حاولتُ كما يتطلّب الأمر استخلاص القواعد الرئيسة التي ينبغي له اتّباعها إخلاصاً لقضية المعنى.
وفي التأمّل الثالث يتّسع الموضوع ويمتدّ على البشرية بأسرها فتتحوّل المسألة إلى مرتبة جديدة غير مسبوقة في تاريخ الإنسان. إذ لم يحدث قط أن اتّحدت البشرية وشعرت بالحاجة إلى أن يكون لها معنى لحياتها كما هو حاصل منذ ظهور حركة العولمة بقوة قاهرة. وبعد التثبّت من هذا التحوّل يتناول التحليل محدّدات الاحتياج الشامل إلى المعنى. ويستجلي بصورة خاصة ما يبدو أنه المحرّك العميق لمسيرة العولمة، أعني إرادة تحقيق الإنسان. الأمر الذي يقود إلى فحص ظاهرة الاقتدار والإنسان المقتدر التي ارتبطت بها الحركة الإنسانوية، وذلك في ضوء تحليل نقديّ لموقف هايدغر الجريء من المذهب الإنسانوي، بحيث يتبيّن في نهاية المطاف أنّ مسألة المعنى بالنسبة إلى البشرية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة التعالي، ومسألة التعالي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة الكمال، ومسألة الكمال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة القيم الكونية العليا. فما تختبره البشرية في عملية توحّدها وتقدّمها المتعاظمة إنما هو تمحور متصاعد لإرادة تحقيق الإنسان حول مثال الإنسان الكامل، لا حول أيّ مثال آخر كمثال الإنسان الشيوعي على مذهب ماركس أو مثال الإنسان الأعلى على مذهب نيتشه أو الإنسان الخارق المارد المتألّه على مذهب دعاة ما بعد الإنساونية. وفي اعتقادي أنه بقدر ما تتعمّق البشرية في هذا الاختبار تتخلّص من مأزق المذهبية الإنسانوية النافية للتعالي، ومن مزاعم النزعات النافية لكلّ معنى.
أما التأمّل الرابع والأخير فإنه يرمي إلى استكشاف السند الميتافيزيقي لاختبار المعنى في مراتبه الثلاث المتناوَلة في التأمّلات السابقة، فيبدأ بتوضيح مفهوم الأفق الميتافيزيقي ويستفيض بعد ذلك في مناقشة العدم، إثباتاً لكيفية تعلّقها بالمعنى في صراع الإنسان مع نفسه ومع العالم من حوله، وإفساحاً في المجال لتناول مسألة الوجود بالذات المطلق الذي ليس كمثله مطلق، والأصل الذي ليس كمثله أصل، ومن الوجود بالذات يعود الفكر إلى السؤال عن كيفية تمتّع الكون بوجوده وظهور الإنسان فيه كائناً يبحث عن معنى وجوده وحياته.
وترتسم ملامح الجواب عن طريق منظومة من المفاهيم تستقطبها الأطروحة الكوسمولوجية الكبرى أعني أطروحة تاريخية الكون، وقد شرحتها تحت ثلاثة عناوين: تفتّح الطاقة الكونية، الإيجاد المتعاظم، والتأنسن الحضاري.
وبعد، فإنّي أرى بعد الفراغ من كتابة ما استقرّ عليه الرأي في خطّة العمل وقد تغيّرت مرات عدّة، أنّ هذا الكتاب أقرب إلى المختصر منه إلى المطوّل الذي يستحقّه الموضوع والذي كنت أنوي الشروع فيه ولم تسعفني الظروف . وأعتقد أنه من حقّي أن أطالب القارئ الذي يهمّه الموضوع أن يبذل قليلاً من الجهد حتّى يمارس التأمّل بنفسه وهو يقرأ ويشارك بقسطه في البناء على هذا الكتاب، احتفالاً بفلسفة المعنى.