الحرب الثالثة والتحوّل العالمي في نظام العولمة
سومر صالح
المساعي الروسية لتغيير بنية النظام الدولي السائد أو تعديلها، بدأت تتخذ بعداً غير تقليديّ، بعداً عميقاً مع الجذور الهيكلية لفلسفة هذا النظام القائم، عبر تقديم إطارٍ مرجعيّ فلسفيّ جديدٍ لهذا النسق الدولّي المتغيّر، إنهّا لحظةٌ تاريخيةٌ لموسكو تدشن معها متغيّراً بارزاً في المشروع الروسيّ البديل لعالم جديد، ولكن قبل ذلك لنراجع الأحداث بدايةً ونرتبها زمانياً ودلالياً لفهم هذه المواجهة العميقة…
في العام 2011 كان الفيتو الروسي الأول في مجلس الأمن إيذاناً بتعطيل الأداة السياسية للأمركة كنظامٍ دوليٍّ بعد العام 1991 ، وفي العام 2014 مثلّت استعادة روسيا للقرم من أوكرانيا الرؤية الروسية للجيوبولتيك الروسيّ، وفي العام 2015 كان الدخول الروسي إلى سورية هو قرار مواجهة مع الأطلسي منهياً حقبة التفرّد العسكريّ، وفي ذات العام تمّ تشكيل بنك نيو ديفلوبمنت بنك المنبثق عن فضاء شنغهاي، كإجراء متقدّم في المواجهة مع النظام المالي الدولي، والذي يُعدّ العمود الفقري للنظام العالمي الجديد، الأمر الذي يعني دخول روسيا في مواجهة مع النظام الدوليّ على عدّة مستوياتٍ سياسيةٍ/ جيبولولتيكية وهي المواجهة الأولى واقتصاديةٍ/ مالية وهي المواجهة الثانية ، ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ روسيا نجحت في التحوّل إلى قطبٍ دولي بمشروعها الأوراسي، ولكن من الصعوبة إثبات العكس، فروسيا تقدّم نفسها كنموذجٍ جديدٍ في العلاقات الدولية، مستغلةً عاملين: الأول، هو ضعف الأمركة كنظامٍ سياسي واقتصادي للعولمة، والعامل الثاني: هو انهدام الأيديولوجيات الكبرى في الغرب في مرحلة ما بعد الحداثة والتشكيك بمقولاتها الكبرى، بالنسبة للعامل الأول لم يكن فقط بسبب السياسات الروسية فهذه مبالغة ليست في مكانها، بل سببها الأساس انحسار العولمة بصيغتها النيو ليبرالية Neo Liberalism في الداخل الأميركي والبريطاني، والتي أدّت لمتغيّرين هامّين دولياً، نجاح التيار الشعبوي في إيصال ترامب إلى سدّة الحكم في قمة الهرم الدولي لنظام العولمة في سابقة تاريخية، أيّ أن يحكم مناهض للعولمة النيوليرالية قائد هذا النظام المعولم دولياً، والمتغيّر الثاني هو «بريكست» أيّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي يمثّل مشروع «النيوليبرالية» بمعنى خروج بريطانيا أحد قادة العولمة عن فقه العولمة السائد، أمّا بالنسبة للعامل الثاني انهدام الأيديولوجيات فهو أتى نتيجة إشكاليات المجتمع الغربي ما بعد الصناعي وأهمّها الضعف الروحي الذي حصل في المرحلة الحداثوية وهذه النقطة في ما بعد ستكون مرتكز العولمة الروسية، فنتيجة لدخول العالم عصر ما بعد العولمة الراهن، أيّ بعبارة أدقّ عالم ما بعد الأمركة كنظامٍ مهيمنٍ دولياً، ومع النجاحات المبدئية الروسية على مستويات المواجهة الثلاث مع الأمركة وذراعها العسكرية الأطلسي والمالية البنك الدولي، بدأ النموذج الروسي البديل يزداد تبلوراً في عالم العولمة ذاته وبذات الأدوات التقليدية للعولمة الثورة الرقمية، الاتصالية ، ولكن لغاياتٍ معاكسةٍ، فما هي مرتكزات هذه العولمة البديلة؟!
«الروسنة» في مواجهة «الأمركة»
المشروع الروسي لعالم متعدّد الأقطاب مجسّداً بالنزعة الأوراسية، ينطلق من أساسٍ ثابتٍ شرطيّ وهو قدرة روسيا على إنتاج رؤية ثقافية لذاتها، عبر إعادة إنتاج الوعي الروسي، ليغدو الإنسان الروسي كائناً انطولوجياً يأخذ كينونته من ذاته الروسية بروحها الأوراسي وليس من المرجعية الغربية، وهذا يتطلب أن تنتهج روسيا ليبرالية محافظة تتماشى مع الخصائص الروسية، ووحدها الفلسفة الأوراسية وعبر العولمة كنظامٍ عالميّ راهنٍ يمكن أن تنتقل إلى بقية الشعوب في مواجهة الأمركة الحاصلة، ففكرة العولمة مرتبطة بمفهوم العالمية وأي ثقافة تخرج من إطارها الوطني والقومي إلى مجالها العالمي، يمكن أن تتحوّل إلى ثقافة المركز بالنسبة لهذا العالم المعولم، وهو ما يعوّل عليه الروسي، فالفكرة الروسية للروسنة وإقامة النظام العالمي بصيغته الروسية يقوم على تجاوز خطايا الحداثة الأوروبية، وتصحيح مسارها بإعادة الروح إلى الفرد والفرد إلى الجماعة، وتفكك فكرة التقدّم الحصرية الاتجاه في الثقافة الغربية، لتفتح الأفق لتعدديةٍ معرفية، ما بعد حداثية وما بعد بنيوية… قائمةٍ على فكرة تصدير مفهوم الهوية القومية والحضارية للشعوب عبر أدوات التثاقف الدولي بما فيها أدوات العولمة نفسها، بما يتيح إنهاء مفهوم صدام الحضارات وهو أحد الأسس الفلسفية للأمركة كنظام للعولمة، أيّ أنّ جوهر العولمة الروسية «الروسنة» هو معاكسة الجذر الأميركي للعولمة وهو تجاوز الهويات الوطنية لسببٍ بسيطٍ وهو فقدان الولايات المتحدة الهوية الحضارية فأتى النموذج الروسي ليعيد بناء هذا الجذر كأساسٍ للعولمة المعاكسة، عولمة تقوم على تعددية حضارية، وفلسفة العولمة الروسية البديلة تستغلّ ذات السياق المعولم لإعادة تشكيل البنية الثقافية للنظام الدولي من خلال مكوّنات ثقافتها القومية الجديدة «الروسنة»، والتي تعمل النخبة السياسية الروسية وعبر أدوات القوة الناعمة على ترسيخها في العلاقات الدولية، والتي يمكن إجمالها باطار عام وهو إعادة بناء المرجعية الفلسفية للنظام الدولي أي إعادة بناء الأيدلوجية الليبرالية ذات الطابع النيوليبرالي Neo وإعادتها إلى الليبرالية المحافظة، وبعبارة أدق تقويض الأساس الاقتصادي القائم لهذه العولمة مع المحافظة على القيم السياسية كالحرية والديموقراطية… ولكن مع اختلافات جذرية في الرؤية إلى العلاقات الدولية تتأسّس هذه الرؤية من الطبيعة الفوضوية للنظام الدوليّ ويمكن إجمالها برؤيتين الأولى أولوية الاستقرار على الديمقراطية في حلّ النزاعات الدولية أيّ تحويل الاستقرار إلى القيمة المركزية التي يجب الدفاع عنها في العلاقات الدولية وليس نشر الأنظمة الديمقراطية عبر الحروب وخلق الأزمات، الرؤية الثانية وهي اعتبار القانون الدولي هو المعيار الأساسي لإدارة العلاقات الدولية بشرط تحرّره من الانحياز الأيديولوجي لليبرالية الغربية.
هذا وتعتبر النظرية الرابعة لألكسندر دوغين بمثابة المرجعية الفكرية لنظام العولمة الروسي البديل الذي يؤمن بعالم تعدّدي وأخلاقي عالم يعترف بالشعوب الأخرى وبحريتها بعيداً من قيم المركزية الغربية.
«سوتشي» اختبار الفرضيات وتقديم النموذج
قد يبدو مؤتمر سوتشي للحوار السوري حلقة متصلة في سلسلة مترابطة من الحلقات لما يسمّى مسار الحلّ السياسي، التي تعدّدت حلقاته بدءاً من سياق جنيف وفيينا ولوزان وصولاً لسوتشي، وهذا التوصيف هو صحيح شكلاً ولكن في العمق ثمة أبعاد أعمق لما تبدو عليه الصورة، فالإصرار الروسي على عقد المؤتمر هو حدث ذو دلالة موضوعاً وزمنياً، فالصورة المرئية لهذا المؤتمر هي انعكاس لواقع أشدّ تعقيداً من حيثيات الأزمة السورية رغم تعقيداتها، إنها المواجهة الروسية مع «الجذر العميق للنظام الدوليّ» وهي بنية الأفكار وأيديولوجية الوجود لهذا النظام، فكما ذكرت سابقاً فروسيا تحاول تصدير نموذجها الأخلاقي المعولم لعالم متعدّد القطبية قائم على الاستقرار والهوية الوطنية واحترام القانون الدولي، حيث يُعاد إلى الشعوب مركزيتها في مسارات الأحداث التي تعصف ببنى هذا النظام، من هنا أهمية مؤتمر الشعب السوري في سوتشي، وأهميته ليست في قدرته على ابتداع حل فوري لأزمة معقدة، بل أهميتها في انعقاده، التي تعني عودة الثقة إلى الثقافة القطبية الروسية في إدارة الأزمات التي تهدّد النسق الدوليّ، بعد أن انتهت فعلياً بسقوط الاتحاد السوفياتي السابق، ومن الشعارات التي رفعتها روسيا لعقد هذا المؤتمر هي ذات الرؤية الروسية للروسنة كنظام معولم أيّ السيادة وحق الشعوب في تقرير مصيرها والقانون الدولي كأساسٍ وإطار لحلّ داخلي للأزمات يتبنى «الديمقراطية السيادية» وهي أحد أركان النموذج الروسي الذي يُراد تصديره للعالمية، والديمقراطية السيادية تعني تبني الديمقراطية كنموذج دولتي من دون السماح للقوى الخارجية دولية وإقليمية بأن تتدخل فيها، عن طريق جمعيات ديمقراطية تراقب نزاهة الانتخابات، أو عبر مراقبين، أو حتى الأمم المتحدة ذاتها…
وسواء نجح المؤتمر في تحقيق اختراقٍ في العملية السياسية لسورية أو فشل، إلّا أنّه بالحالتين مؤتمرٌ مفيدٌ لأنّه يؤسّس لنموذجٍ جديدٍ في حلّ الأزمات قائمٍ على حصر نطاق القوى الفاعلة في الأزمات في إطار الداعم للحلّ المتفق عليه داخلياً وليس المؤسس له وفق مصالحه… وهو بالطبع ما سيدفع قوى العولمة النيوليبرالية إلى تفشيل هذا المؤتمر وعدم السماح لانعقاده ثانيةً أو عقد مؤتمرات مشابهةٍ له في أزمات أخرى، لذاك يمكن القول إنّ نجاح روسيا في تقديم نموذجها مرتبطٌ بقدرة روسيا على عقده ثانية بغضّ النظر عن المكان، ويبقى الأمل مرهون بإرادة السوريين على تغليب المصلحة السورية كأساسٍ للحلّ… يوقف نزيف الدم ويحول دون نزيف الجغرافيا.