«العراق الإقليمي»… دونه عقبات

د. وفيق إبراهيم

العراقُ المتخلّصُ من معظم الإرهاب، على عجلة من أمره، يريد طمس «المرحلة الأميركية» التي خلخلت منذ 2003 بنيانه الاجتماعي والوطني والإقليمي. وحجَّمته اقتصادياً وبعثرت أهله في أصقاع الأرض.

هدفه الآن إعادة بناء الداخل والخروج مجدّداً إلى الإقليم. فهل هذا ممكن؟ ينشد أيضاً ترميم أوضاعه الاقتصادية، فيتبيّن له مدى الصعوبات، التي تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والسياسة النظيفة. ويكتشف أنّ القوى الدولية والإقليمية التي أسهمت بتدمير العراق، لا تزال تستثمر في الإرهاب على أراضيه بأشكال مختلفة. إنهم بالطبع الأميركيون والسعوديون والأتراك، الذين تراجعت أدوارهم بشكل فعلي، لكنهم يتمسّكون بقوى وشخصيات عراقية تؤجج الفتن المذهبية والعرقية حتى الآن.

فما الذي يعزّز أمل أهل العراق بوطن قوي؟ إنه نجاح جيشهم متعاوناً مع الحشد الشعبي في تحرير معظم أراضيه، بدءاً من المناطق المحاذية لكردستان حتى حدوده مع سورية والأردن، ولم يتبق أمامه إلا بؤر داعشية في صحراء الأنبار حتى الحدود مع السعودية… وربما في داخلها.

والحشد الشعبي الذي تأسّس بقرار من المرجعية الدينية العليا في 2014، جاء رداً على انهيار معظم المناطق أمام داعش. مؤدّياً دوراً بطولياً في الانتصار على الإرهاب والعراقيل الأميركية المتعمّدة التي كانت ترتدي أشكال قصف أرتال «الحشد» من طريق الخطأ، كما كان يتذرع الأميركي.

ولطالما كان هذا الخطأ الإرهابي بالقصف يتكرّر.

بالتشريح المنطقي يتبيّن أنّ هناك عراقاً يحتوي على 35 مليون نسمة، يعيشون فوق آبار نفطية هائلة ومياه غزيرة وأراضٍ خصبة وشعب قابل للعلم، يحاذي معظم دول الأزمات في المنطقة من السعودية إلى إيران فتركيا وسورية، رابطاً الخليج وبلاد فارس ببلاد الشام.

لذلك فإنّ لأرض الرافدين دوراً إقليمياً ينبع من تاريخه وإمكاناته.. لكنه معطّل بديكتاتوريات أنظمته السابقة صاحبة الشعارات الخادعة، وبسبب الاجتياح الأميركي لأراضيه منذ 2003… الذي دمّره سافكاً دماء أبنائه ومعطلاً أدواره ومخلخلاً وحدته الاجتماعية. وعندما سحب هذا الأميركي قواته بعد 13 عاماً من الاحتلال ألزم العراق بـ 20 قاعدة عسكرية وآلاف الخبراء والمستشارين ومعاهدات تبقيه تحت المظلة الأميركية إلى أمد طويل.

أرض الرافدين اليوم، موضوع مؤتمرين ينعقدان في الكويت الجارة: الأول لإعادة إعمار العراق بحضور 70 دولة وشركة، أهمّها الاتحاد الأوروبي المتوثب لأداء دور، والهدف تحصيل هبات وقروض عادلة بنحو 22 مليار دولار لتلبية بناء البنية التحتية ونحو 2.3 مليون نازح وحاجات كردستان الذي يرفض خفض موازنته.

أما المؤتمر الثاني فهو في الكويت أيضاً لوزراء خارجية أربعين دولة يشكلون التحالف الدولي ضدّ الإرهاب بزعامة أميركية ـ سعودية ـ أوروبية وتركية..!! الأمر الذي يثير القلق من احتمال عودة هذه البلدان إلى لعبتها القديمة في دعم الإرهاب بطرق ملتوية وبلغة معادية له تشبه عمل المنافقين.

وبعيداً عن المؤتمرات، التي لم تقدّم يوماً حلولاً فعلية، يدخل العراق مرحلة ما بعد داعش بعقلية الباحث عن توطيد وحدته الداخلية، لأنها الطريق الفعلية إلى الاستقرار والأدوار. وهذا يتطلّب توفير حركتين: داخلية وأخرى أميركية.

القسم الداخلي متشعّب بين تأمين الأموال لإعادة النازحين وإنجاز البنى التحتية باتفاقات شفافة، مع العمل الحثيث على إنتاج طبقة سياسية ذات أفق وطني تستوعب الفئات الوطنية من أطياف العراق في إطار منسجم. وهذه مآلها انتخابات شهر أيار المقبل، التي يجب أن تبدأ بتحالفات عميقة ومتساوية بين القوى العراقية المتنوّعة بما فيها كردستان. لأنّ نظاماً سياسياً جامعاً هو الآلية الوحيدة التي تؤمّن أكبر عدد ممكن من تأييد العراقيين ودحر الجهات المرتبطة بالمشاريع الخارجية واستنزاف الأدوار السعودية ـ التركية، اللاعبة على أوتار الانقسامات المذهبية والعرقية.

وهذا لا يكون بمجرد إلقاء خطابات رنانة عن وحدة العراقيين، بل بمدى إيلاء جميع ممثلي المكوّنات أدواراً فعلية في حركة إنتاج القرار العراقي وعلى المستويات كافة. فهل هذا ممكن؟

إنّ هذا الأمر مطلوب بشكل استراتيجي، لأنه يلبّي الحاجة إلى وحدة العراق بالوسيلة الوحيدة المناسبة لاسترجاع الاستقرار وكسب الأدوار.

وللمزيد من توطيد الداخل، تبدو مهمة القضاء على آخر بؤر داعش في صحراء الأنبار محورية لأسباب عدة: أوّلها أنّ المنطقة تنتهي بخطوط حدودية مع سورية والأردن والسعودية. والإمساك بها ضروري لأهلها أولاً وللسيادة العراقية على المستويات الثابتة، ولأنها تمنح العراق أدواراً «سياسية» ما وراء الحدود في مراحل لاحقة.

لذلك تولي بغداد أهمية لتحرير الأنبار وكلّ منطقة أخرى احفتظ فيها داعش وآخرون بنفوذ أو مخبأ.

بالتوازي، يبدو تنظيم علاقة العراق بأربع قوى حدودية مجاورة له إلى جانب الاحتلال الأميركي المباشر لأراضيه والمسائل تحتاج إلى تعاملات دقيقة.

فالترك يحتلون أراضي عراقية محدودة بذريعة تطويق الكرد، ومنشغلون بإجهاض مشروع كردي في سورية يدعمه الأميركيون، لذلك هم اليوم مع حكومة بغداد في وجه أيّ حركة كردية في كردستان، لكن هذا غير كافٍ، لأنّ المطلوب هو انسحابهم من العراق وتعطيل دورهم الراعي لأحزاب وقوى عراقية تعمل على تأجيج الفتن المذهبية والعرقية.

وكذلك فإنّ الدور السياسي السعودي، يزيد خطورة عن الدور التركي لأنه يلجأ إلى الأهميات الدينية للسعودية الراعية للحرمين الشريفين والوهابية وللعلاقات بين عشائرية تنتشر في المناطق المتقابلة بين البلدين، خصوصاً في الأنبار لجهة الضخ المالي السعودي في العراق، تقول جهات دولية إنه كبير جداً ويشمل مرجعيات دينية وسياسية وعشائرية، لأنّ للرياض استراتيجياتها في العراق. فهذا بلد مجاور أكبر منها وأكثر تاريخية ويستطيع تشكيل أحلاف إقليمية أوسع مدى من القدرات السعودية.

هذا ما يجعل آل سعود يعملون على تقسيم العراق مذهبياً، وإلا فإجهاض قوّته بخلق تنافسات بين قواه المذهبية والعرقية وصولاً إلى حدود محاولات السيطرة على نظامه السياسي بوسائل شتى، منها الدور الأميركي الموالي لهم وصولاً إلى حدود دعم مطالب كردستان التي تبدو كثيرة الغلو في معظم الأحيان، بسبب الدعم السعودي. على مستوى إيران، المجاورة، فهناك علاقات تاريخية بين البلدين يمكن تنظيمها بشكل أفضل على مستوى التحالف السياسي والتكامل الاقتصادي، خصوصاً أن ليس لطهران مطامع تاريخية في العراق.

ومثل هذه العلاقات تؤدّي فوراً إلى تقليص النفوذ الأميركي في المنطقة. يكفي القول إنّ بغداد وطهران متحاورتان منذ آلاف السنين ولم تستسلم واحدة منهما للأخرى. خصوصاً منذ مرحلة ما بعد الفتوحات الإسلامية التي شكّل البلدان جزءاً طليعياً متعاوناً فيها.

ضمن هذه المعادلة، تظهر سورية الظهير الطبيعي القادر على نسج تحالف عميق مع بغداد، للترابط العربي والتاريخي.. وهذا يؤدّي فوراً إلى ولادة نظام عربي عام قادر على الإمساك بالمشرق العربي ويحدُّ من تسلط آل سعود على العالم الإسلامي… الأمر الذي يقلّص من النفوذ الأميركي في معظم العالمين العربي والإسلامي، والأسباب الواضحة، فهذا التحالف يربط بين البحر المتوسط والخليج في مناطق سهلية كثيفة السكان والمياه وتحاذي معظم دول الأزمات في تركيا وإيران والسعودية وفلسطين المحتلة ولها القدرة على مجابهة النفوذ الأميركي باتكائها على مدى روسي يرتبط بدوره بتنين صيني متوثّب يترقبُ الظروف المناسبة.

يتبقى الدور الأميركي الجاثم على صدر العراق بالاتفاقيات المعقودة والوجود العسكري المباشر والقواعد المبعثرة على أراضيه حتى حدوده مع سورية. وتستفيد واشنطن من هذه الامتيازات وتستضيف الجهود السعودية بهذا المجال، لكن إمكانات العراق المتحالف مع سورية ليست بقليلة وتستطيع تجريد النفوذ الأميركي من عناصر قوته، بتلبية حاجات الداخل العراقي أولاً، وعندما تتحقق قناعات داخلية متنوّعة، يتراجع الدور الأميركي بمعدلات عالية. وهذا ثمنه اتفاقات على تحويل الصراع المذهبي مشاريع وطنية بالنمو الاقتصادي والسياسي واستيعاب كردستان المحبطة والعائدة إلى الجلباب الوطني بتأمين آليات تعبّر عن تنوّعها القومي.

العراق في مرحلة مصيرية يستطيع فيها أن يجسّد دور محرّر النظام العربي من المعتقل الأميركي ـ السعودي ـ «الإسرائيلي»، لكنه يحتاج إلى صبر ساعة داخلية، عنوانها الوحدة الوطنية الداخلية والتحالف مع سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى