تيلرسون يعرضُ المقايضة بين البندقية والسياسة!

د. وفيق إبراهيم

هل هناك بندقية جهادية لا تجسّد قضية!؟

فالعلاقة بين القتال والمشروع، مسألة يحملها حزب الله منذ انطلاقته في 1982 حين قاتل «الإسرائيليين» في جنوب لبنان وعينه على كامل فلسطين، محارباً الإرهاب في سورية منذ أربع سنوات مستمرة وهدفه تقليص النفوذ الأميركي الذي يعتقل العالمين العربي والإسلامي. هذا الأسلوب الجهادي، يجهلهُ وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الذي يزور لبنان حالياً في إطار جولة إقليمية، مطلقاً من الأردن «طعمه» الأول الذي اعترف فيه بأنّ حزب الله جزءٌ من الحياة السياسية اللبنانية. لكنه سرعان ما ربط هذا الاعتراف بضرورة انسحاب حزب الله من سورية، عارضاً حلاً لمسألة النزاع الحدودي والبحري بين لبنان و«إسرائيل» في إطار صفقة شيطانية تؤدّي في خاتمتها إلى اعتراف لبنان بالكيان «الإسرائيلي» من دون طبل أو زمر، تساوياً سياسياً مع مصر «كمب ديفيد» و«أوسلو» السلطة الفلسطينية و«وادي عربة» الأردن، ومصطفاً إلى جانب السعودية وبلدان أخرى في تحالفاتها مع العدو سراً وعلناً.

بداية يجب تأكيد أنّ حزب الله جزء من الحياة السياسية في لبنان، ليس بهبة من أحد… وإنما بدوره الجهادي المتواصل منذ 35 عاماً قضاها مقاتلون في جهاد ضروس مستمرّ ومتواصل في جنوب لبنان وسورية، مع أدوار تدريبية واستشارية في معظم بلدان الأزمات إلى جانب قواها الوطنية. لقد انتزع دوره الوطني من قتال «إسرائيل» في جنوب لبنان لمدة 18 عاماً، أدّت إلى فرارها نحو كيانها في فلسطين المحتلة، وهزمها أيضاً في 2006، مشاركاً إلى جانب الجيش العربي السوري في أعنف حروب ضدّ الإرهاب الذي اجتاح بلاد الشام منذ 2013. وجرى دحره بشكل شبه كامل في معارك لن تنساها صفحات التاريخ.

لذلك أصبح قدوة كلّ ثائر في اليمن وفلسطين والعراق ومصر التي رفع مشايخ جامعها الأزهر الشريف صورة أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله، لما أنجزه حزب الله في الدفاع عن المنطقة بعد انهيار النظام العربي العام بانسحاب مصر منه وانكشاف الدور السعودي المتواطئ. ضمن هذا التطور يمكن فهم زيارة تيلرسون للبنان ومقاربته الخبيثة للخلاف مع الكيان «الإسرائيلي» حول الحدود البحرية والبرية. فتبدو حلول شبيهة بمن يحمل وردة في اليد اليمنى وخنجراً مسموماً في اليسرى يخبئه خلف ظهره، فما أن يقبل المستضيف الوردة حتى يتلقى الطعنة المسمومة… ويضيف بأنّ الحلول لمسألة الخلاف حول البلوك رقم 9 الواقع في الجزء اللبناني من البحر قبالة فلسطين المحتلة ممكن.. لكنه لم يدخل في تفاصيل رؤيته للحلّ.. مضيفاً بأنّ الخلاف الإضافي حول الجدار الذي تبنيه «إسرائيل» في الجزء البري من الحدود اللبنانية قابل أيضاً للنقاش.

فأين المشكلة إذاً.. هنا يقفز الوزير تيلرسون نحو الهدف مباشرة متبادلاً دور حزب الله العسكري في الجنوب وفلسطين وسورية والعراق واليمن.. مطالباً بسحب مقاتليه ومستشاريه من هذه الدول، مقابل الاعتراف بحقه في الحياة السياسية اللبنانية.

أما الأكثر خبثاً، فهو ما قاله لرؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة حول إمكانية تحصيل معظم المطالب اللبنانية في البحر والبرّ بمفاوضات سياسية مباشرة بين اللبنانيين و«الإسرائيليين» ترعاها واشنطن بشكل كامل. وهذا يعتبر في حالة تحقيقه اعترافاً كاملاً وناجزاً بـ«إسرائيل».

أما من شروطه التي أعلنها، مقابل تنفيذ مطالب الدولة اللبنانية فتبدو وكأنّ حزب الله أنجز دوره الإقليمي بـ «عدم انتباه أميركي» أو في غفلة عن قوى أميركا الاستخبارية.

لكن الراصد العادي للقتال الدائر في سورية والإقليم يعرف أنّ الحزب انتزع دوره الإقليمي بقوة بندقيته ووجهتها الصحيحة نحو «إسرائيل» والنفوذ الأميركي والإرهاب المتسربل به.. نعم، كان هناك استثمار أميركي في الإرهاب ولا يزال، وكانت هناك استفادة إرهابية من الأميركيين والترك والسعوديين والقطريين والأردنيين.. ولا يزال.

هذا يؤكد أنّ الدور الإقليمي للحزب منتزعٌ من قلب النفوذ الأميركي والصراع المفتوح مع «إسرائيل».. أيّ انه ليس منّة من أحد. بالاستنتاج، فإنّ لكلّ دور جهادي مشروعه السياسي الملتصق به والهادف إليه..

مشروع بندقية الحزب يتركز في أنها لبنانية أولاً وجاهدت لطرد «إسرائيل» من جنوب لبنان، بعدما عجزت الدولة عن مثل ذلك نتيجة لتشتت قواها وتأثر معظمها بالسياسة الأميركية ـ الغربية السعودية.

ويتبيّن لهذه البندقية أنّ الدفاع عن بلد كلبنان تنقسم دولته حول أتفه الأمور وتعجز عن بناء سياسات تحمي مناطقها، بالإضافة إلى استمرار الخطر «الإسرائيلي» عليه، لذلك ظلت هذه البندقية مستنفرة.. وكيف لا تفعل ذلك، في ظلّ وجود دولة تنفذ أوامر أميركية تمنعها من امتلاك سلاح مضادّ للطائرات في بلد تجول فيه المقاتلات «الإسرائيلية» عشرين مرة وأكثر في اليوم الواحد.

وما جعل الخطر على لبنان أكثر خطورة هو انتشار إرهاب وهابي اجتاح سورية والعراق وكاد أن يسيطر على لبنان لولا مسارعة حزب الله إلى قتاله والتحالف مع الجيش للقضاء عليه. وهذا ما كان، وما كان ليصبح تاماً لولا مشاركة حزب الله في قتال هذا الإرهاب في سورية، فمن كان بإمكانه أن يمنع الإرهاب من الانتقال في سورية إلى لبنان لولا هزيمته في بلاد الشام.

أما الخنجر المسموم فيتعلّق بقبول تيلرسون بدور سياسي لحزب الله في لبنان مقابل انسحابه من سورية. وهذا عرض مضحك، لأنه يفصل بين البندقية والسياسة محاولاً إعادة النفوذ الأميركي المتقلص من النافذة بعد دحره من الباب الكبير الإقليمي. فتبدو العروض الأميركية للحزب، جزءاً من السيطرة الأميركية على شرق الفرات عبر الدور الكردي من جهة، ودور الهيئة العليا للمفاوضات في إضفاء لمحات سورية على هذا المشروع الاستعماري من جهة ثانية، بالإضافة إلى نشر القواعد الأميركية بمناطقها الحدود العراقية قبالة سورية من جهة ثالثة، بالإضافة إلى محاولات إنشاء كانتونين «إسرائيلي» متعاون مع النصرة وداعش في الجنوب الغربي من سورية وكانتون أردني ـ أميركي من الحدود الأردنية حتى مشارف درعا مروراً بقاعدة التنف التي تسيطر عليها قوات أميركية.

وهكذا تبدو المقايضة واضحة بين البندقية المجاهدة والسياسة على الطريقة اللبنانية المرتكزة على الصفقات والارتماء في أحضان قوى الإقليم.

لقد فوجئ الأميركيون بأنّ انتصار حزب الله في الإقليم كبح الخلافات التقليدية بين قوى السياسة في لبنان. فللمرة الأولى منذ التسعينيات تتفق مؤسسات النظام السياسي التنفيذية والتشريعية والأحزاب على التمسك بحقوق لبنان في البرّ والبحر وعدم القبول بأيّ مساومة حول هذه المواضيع. أما السبب فهي موازنات القوى الجديدة الناتجة عن الانتصارات في سورية والعراق والتخوّف من انتصارات أكبر على النفوذ الأميركي في المنطقة.

هذا ما يفرض على الوزير تيلرسون العودة خالي الوفاض من جولته اللبنانية متحسّباً من أن يؤدّي تشبّث اللبنانيين بحقوقهم في موارد الطاقة وترسيم الحدود إلى انفجار حرب لا تريدها لا «إسرائيل» ولا أميركا في الوقت الحاضر، ليس لأسباب عسكرية بل لدوافع استثارة تحشيد عربي وإسلامي ضدّ أيّ عمل عسكري قد تقوم به «إسرائيل». لأنّ تجربة الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» أثارت رفضاً شعبياً كبيراً منع الأنظمة العربية المتواطئة من تأييد هذه الخطوة الأميركية على الرغم من مشاركتهم في صناعتها…

كما أنّ التحام المؤسسات الرسمية والشعبية والدينية في لبنان حول حقوق بلدها يثير دهشة الأميركيين الذين يتحرّكون لإثارة انقسامات جديدة من طريق الانتخابات النيابية المقبلة، التي يأملون أن تعطيهم ما عجزوا عن نيله بالتهديد والإغراءات، أيّ المزيد من الانقسامات والتفتت أيّ الآليات التي تعيد لبنان إلى حالة الضعف. وهكذا يتبيّن أنّ البندقية المقاومة هي التي تضع توازن القوى وتمنع تيلرسون من تحويل هزائمه انتصارات عن طريق الفتن المذهبية والانقسامات السياسية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى