«العنيدة والذئب»… تشبيهات اليومي بأصابع العطور والسفور

د. فايزة حلمي

عنوان الرواية أو أولى عتبات النصّ، وقبل أن تدلف نظرات المتلقّي للداخل، بصفة عامة إمّا أن يكون العنوان منبئاً بفحوى المضمون، فتتبلور صورة شاملة في الذهن، عمّا سيقرأ، وإمّا أن يكون العنوان مخادع, فيوهم عكس علق في المتخيل.

وفي عنواننا هنا «العنيدة والذئاب» للأديب صلاح شعير والتي صدرت عن «دار نش»، تُسطّر كلمتان رغم ما يبدو من تباعدهما، إلّا أن الكلمتين تتضمّنان صفات مشتركة تدعو خيال متصفّح العنوان للإبحار في امتدادات لم تلامسها أفكاره قبلاً، محاولاً اكتشاف احتمالات تنبّؤية بمقاصد الراوي الإبداعية، فيحاول المتلقي الخروج من منطقة الركود بكسر الروتين الفكري والخروج من المسار المألوف لتوقّعات ما وراء العنوان علي باب الغلاف الذي ما زال مغلق بعد، دون ما بعده.

«العنيدة والذئاب» صنفان أحدهما من البشر والآخر من غيره، ومع ذلك تجمعهما صفات، رغم تضادهما الظاهر، أليس لكلّ منهما أنياب؟

فقط العنيدة أنيابها فكريّة مجازيّة والذئاب أنيابها حقيقية، أليس لكلّ منهما ضحايا؟ أليس لكلّ منهما أعداء؟ أليس لكل منهما معارك خاسرة؟ أليس؟ أليس؟

وتتوالى التساؤلات يستدعيها للذهن الرغبة في سرعة استنباط مراد الكاتب أو الراوي من هذا العنوان، فيجد المتلقّي نفسه دون أن يدري واقع في شباك حب الاستطلاع التي أعدّها له الكاتب ببراعة إبداعية، تجرفه كدوّامة محيطية ليعبر فيض أوّلي، يسبح بعد ذلك طوعاً لما وراء الأبواب.

الإهداء: إلى الباحثين عن حلم السعادة. ما أبدع هذا الإهداء، يشبه رؤية السراب سرمدي المدى، يشبه الغواية في ثوب الفضيلة، الإهداء دعوة ظاهرها رحمة بوعد إرشادهم إلى السعادة، وباطنها العذاب بأنها حلم، والحلم وليد غفوة سرعان ما يوقظون منها، دعوة تمثّل نداء عام للأغلب الأعم من البشر. وهل هناك من لا يبحث عن السعادة؟ مهما تباينت الأساليب والمناهج، فالكل باحث عنها، لذا فالكاتب بهذا الإهداء يشعر كلّ من يقرأ الإهدا بأنه المعني به، وبأن كلاً منهم سيجد طريقه إليها، فقط لو قرأ الرواية، ورغم احتمال معرفة المتلقي، بل وأحيانا يقينه بأنّه إهداء يتضمّن دعوه ساحرة لاكتشاف طرق السعادة بقراءة الرواية، إلّا أنه يمضي تحت تأثير هذا الأمل الوهمّي، آملاً أنّ يجد الحقيقة في نهاية المطاف، فيمسك بأطرافها لذا يبدأ القارئ القراءة بسعادة.

وها نحن مع كاتبنا نطرق أبواب عناوين الفقرات التي اتخذها مهجاً لروايته.

أطلال الطفولة

أول ما يتبادر إلى الذهن بهذا العنوان هو ذكريات الطفولة، وهي ليست فقط أطلال، فذكريات الطفولة هي الحلم الذي يظلّ معنا حتى بعد أن نستيقظ. إنّها البوتقة التي تحتوي كل ما يتعرّض له الطفل، بها آثار لكل من هو كان موجود علي خريطة حياة الطفل ولكل من هو في خلفية حياته، إن ذكريات الطفولة لها بصمة وشمية الأثر تكوّن ذاكرة الراشد.

لذلك حاول الكاتب أن يرسم خطوط سريعة عريضة لما تعرضت له بطلة الرواية من أحداث في طفولتها ورسم بهذه الأحداث بروفيل كروكي للشخصية المحورية، مبرّراً التكوين الداخلي لها الذي أصبحت عليه، وإن كان يحتاج للمزيد من السرد بهذه الزاوية التي تناولها، ليوضّح للقارئ مزيد من أسباب التناقض الموجود بالشخصية، لأنها إن مالت ناحية الرجال لحنان أخيها فقد كان أبيها مصدر قسوة كافية لأن تمنعها الميل لهم، ولكن للنفس في عالمها شؤون، وغالباً تكون هنا الفرصة مواتية للكاتب لتوضيح مزيد من المواقف التي تقود القارئ لفهم سرّ التناقض، إلّا أنّ هدف الكاتب هنا كان مجرد وضع أساس سريع به يوضح ويقدّم لنا معالم شخصية ستصاحبنا ونصاحبها في رحلتنا التي برع الكاتب في تشجيعنا بداية علي القيام بها داخل أروقة الرواية.

وقد نجح الكاتب في إظهار بعض هذا التناقض في الفرق بين تيقّظ ليلي في المرّة الأولى مشرقة بالأمل ويمامات قلبها صادحة ثم غفوتها وتيقّظها ثانية ومداهمة ذكريات طفولتها ليومها وخروجها من مكمنها من بين مقتنيات ذاكرتها المغلقة أبوابه، ولكن من الواضح أن ذكرياتها ليست طوع عقلها، بدليل خروجها دونما استدعاء كضيف متطفّل علي أيامها.

أجنحة الأحلام

ما زال الكاتب مصرّا علي أن يعد القارئ من خلال العنوان، بأن يحمله إلى حيث لم يذهب من قبل، بأجنحة الأحلام ورغم أن هذه الأجنحة واهية إلّا أنها قوية بما يكفي لأن تحمل من يطير بها لأبعد مدى، ثم يكتشف القارئ أن الأجنحة حملت «كمال»، الذي يبدو أنه سيكون شخصية محوريّة في الرواية، ويضع على لسان تفكيره مقوله فلسفية: «ما أحلى الأيام المنصرمة عندما تمضي تطوي جزءاً من حياة الإنسان لا يتبقي منها إلّا الذكريات». ودوماً يبثّ الكاتب الأمل والتفاؤل في نفوس قارئيه، لأنه ليس بالضرورة أن تكون هذه الأيام المشار إليها تتّسم بأنها حلوة، لكنها نظرة الكاتب الذي يحاول دفع تفكير القارئ لتذوّق الجمال بجميع الاحتمالات القائمة.

يحاول الكاتب أن يرسم بقفزات تصوّرية، لذكريات طفولة كمال، صورة موازية ومغايرة ومناقضة تماماً لصورة طفولة «ليلى»، وكأننا أمام قطارين من الصور الذهنية يمضيان بسرعة ثابتة معاً جنباً إلى جنب في خطّين متوازيين، فبالتالي التوقّع ألّا يتلاقيا أو أن الكاتب يمهّد لأن التقاءهما سيكون مدويّاً.

صوّر الكاتب إحساس كمال بالصدمة بأنّه يمضي بلا ثياب بزعم أن الأجساد لا يسترها إلّا المال والنفوذ، وأحسب أن الكاتب أراد أن يصوّر صدمته النفسية بعدم اختياره للوظيفة التي كان يحلم بها، أي أن النفوس لا يقوّيها إلّا المال والنفوذ، لذا كان في إحساسه متهاوياً.

الحادثة

عنوان يوحي بكارثة يقينية، ومع ذلك يبدأ الكاتب من أول كلمة «نسج القدر خيوط الأمل»، وكأنّه يسرع بإضاءة تفاؤلية تغيّر مسار فكر القارئ، قبل أن يظلم بالتشاؤم, وظلّ وصف جمال «ليلى» يحتلّ مساحة تستدعي استخدام مسمّى آخر بدلاً من الحادثة التي هي ليست تماماً حادثة وأتت أحداثها في آخر سطور الفقرة، وكانت لرجاء قريبة وزميلة «ليلى».

حاول الكاتب أن يسوّق بالدليل العملي تناقض طباع «ليلى»، فكتب: «كثيراً ما كان يؤلمها أن ترى العيون تذرف أنهاراً من الحسرة والسهاد».

وبعدها بموضع آخر: «كانت لا تبالي بالشهداء والغرقى في بحار حبها، متّعتها كانت في لفت الانتباه والتأثير، فتغزو الآخر دون رحمة أو هوادة».

يستطرد كاتبنا ويسهب في وصف جمال ليلى, كأنّه يحاول أن يبرّر النرجسية والهستريا الاستعراضية والنشوة التي تنتابها من رؤية القلوب المحطّمة معنوياً لضحاياها.

القيّد

عبّر الكاتب عمّا شعر به «ناجي» من امتلاك حبّ «ليلى» لقلبه، بمقابلة سرديّة بالقيّد الذي ساومه العسكري على إعفائه منه فلم يعره التفاتاً، وكأنه ما شعر بالقيّد الحديدي في يده لقوة القيّد الحريري على قلبه وروحه… كما أفسح المجال لاستيقاظ ذكريات الطفولة في ذاكرة «ناجي» واستعراض الصور الذهنية التي توضّح منهجيته في الحصول علي ما يريده ولو بعد حين، وأوضح متى نبت الصبر كأهم أسلحة حياته.

المساومة

دوماً يسعي كاتبنا لاستدعاء ذكريات الطفولة لكل شخصية جديدة تدخل المجال القرائي، مثل هذه الفكرة التي رصد فيها طفولة «فواكة» ابنة خالة «ناجي»، وكذا رصد موقف بطفولة «رضوان» صديق «ناجي» باعتباره موقف رئيسي بحياته رسم له قيمه الحياتية، وكأنه يعطي جلسة نفسيّة مستترة لكل قارئ قد يكون موجوداً بصورة أو بأخرى على خريطة حياة طفل، لينبّهه من خطورة التأثير لسلوكيّاتهم علي حياة الراشد التي سيكونها فيما بعد، وهي حقيقة يقينية مؤكّدة.

وتنبيه ضروري وإرشاد ضمنّي رائع من الكاتب، ولو لم تكن للرواية من فوائد إلّا هذا التنبيه المجسّد، لكفى به فائدة للرواية، تنبّه آلاف القرّاء لتعديل سلوكيّاتهم مع أطفالهم، والإقتداء ببعض السلوكيّات السويّة الإيجابية التي أتى ذكرها.

والكاتب مستحضر ما يدور بخلد القارئ من أسئلة، وسرعان ما يردّ عليها قبل أن يعلو صوت الاستفهام في عقله، فها هو يسرع بذكر أن «فواكه» رأت قبل ذلك رشيقات كثر، قبل أن يتساءل القارئ عمّا إذا لم تر على مدار عمرها منذ طفولتها إلّا رشاقة «ليلى» لتشعر ببدانتها وبالتالي تتصاعد نيران غيرتها.

للمرة الثانية يوضح الكاتب طغيان أصحاب النفوذ وسلب الحقوق من أصحابها، فها هو «رضوان» لم يستطع أن يحصل على قطعة أرض بعد تخرّجه من كلية الزراعة، تماماً كما لم يتمّ تعيين ناجي بالنيابة والتي كان يستحقّها لتفوّقه.

رنين الذهب

حرص الكاتب علي ذكر العناوين بأسماء الشوارع وأرقام المباني والشقق، كأنّه يريد الإيحاء أو التأكيد للقارئ أنها رواية من الواقع بكلّ أبطالها، وقد تكون بالفعل كذلك حتى ولو بعناوين مغايرة.

أسهب في وصف سوء حالة والد «رجاء» التي أصابها «ناجي» بكسر في يدها، حتى أنه على وشك دخول السجن وذلك تمهيداً للقارئ بقبوله المساومة للتنازل، وللمرة الثالثة يشير الكاتب لأن «سيد» الأخ الأصغر من «رجاء» لم يعين معيداً في الجامعة لأنه ليس من أهل الحظوة، ليؤكّد أنها ظاهرة عامّة وليست صدفة، وفي النهاية يوضح كاتبنا أنّ التلويح بالمال لم يزغ عقل والد «رجاء» وطلب القليل لسداد ديونه، هنا إشارة مهمة لنزاهة الأب الفقير وقناعته.

الجيوب الخاوية

تصوير رائع للكاتب عن تصوّر «ناجي» لكيفية إنبات حبّه في قلب «ليلى». هذه واحدة من الصور الجمالية المستخدمة بكثرة في النصّ، لتساهم في إبهاج مشاعر المتلقي بالقدرة على الأحلام في أشدّ اللحظات حلكة وهي جيوب «ناجي» الخاوية، فالأحلام براعم الحقيقة، وكأن الكاتب في حالة يقظة وعي بضرورة بثّ التفاؤل لنفس وعقل القارئ، أثناء الكتابة المفترض بها تدفقية تلقائية، مما ينمّ عن يقينية ورسوخ الأمل والتفاؤل ضمن مقتنيات روح وعقل الكاتب حتى أنّها تسري بالكلمات كالدماء بالشرايين.

الاستدراج

استطاع الكاتب تصوير موقف «ليلى» بين المطرقة والسندان ببراعة تجيب على أية تساؤلات بذهن القارئ عن الصورة المرسومة لشخصية «ليلى» بأهدافها وطموحها وبما يناسب تناقضها.

الصعاليك والمال

برع الكاتب في وصف تفصيلي، لكنه سريع لانحدار تلك الفئة الضالّة في المجتمع وغيرها كثيرين، نجح في استدعاء نفور القارئ منهم بغير جهد، وإن لم يوضح كيف لابن أحد جامعي القمامة أن يكون في كلية الشرطة. إلّا أنه وضّح إحدى وسائل غسيل الأموال وكان في ذلك يرسم الصورة من أطرافها مجتمعة كرسّام كريكاتور بارع وسريع. بعد ثواني تجد أمامك صورة واضحة المعالم بصرف النظر عن قبح حقيقتها.

شرارة الحبّ

برع الكاتب في سجال الكلمات الوصفيّة بين محاولات «ناجي» إشعال الفتيل بالغرام وإسراع «ليلى» بوأد الشرارة، الصور الجمالية من أبرز أدوات الكاتب في جذب القارئ لمتعة المتابعة، وقد لخّص في جملة أهم عامل جذب «ليلى» لـ«ناجي» يصنع لنفسه موقعاً في عالم تقلّصت فيه فرص النجاح بشرف، ونجح في حمل القارئ معه أثناء تأرّجح «ليلى» ذات اليمين تجاه «ناجي» ثم عودتها ذات اليسار بعقل طامع في أموال سامي وترك الصراع بدون حسم ومعه القارئ يترقّب لمن سيكون الفوز.

المأزق

أخذ الكاتب بأنفاس القارئ معه وتصاعد بها مع تصاعد مواقف الصراع وكأنّه يدعوه للوقوف مع بطلته في مواجهتها للموقف وظلّت علامات الاستفهام عالقة بذهن القارئ تدفعه لمتابعة القراءة، الكاتب يعرف تماماً كيف يمسك جيداً بخيوط مشاعر قارئيه.

ثمار الخريف

تنوّعت هذه الفقرة في إظهار ما للقلوب من سلطان، وما زال الكاتب يسوّق الأمثلة علي سلطان أصحاب النفوذ على أقدار البشر في مواقف احتياجهم وكيّفية استغلالهم لأطماعه، وأوضح مع ذلك بعض القلوب النقيّة في صورة الخالة التي لم تتعرّض لـ«ناجي» رغم معرفتها بعدم حبّه لابنتها… إنّها نقطة ضوئية نقيّة في ظلام الفساد المنتشر، كأن الكاتب يحاول أن يحافظ علي التوازن البيئي النفسي والعقلي والوجداني.

الخلاص

في هذه الفقرة قد يثار تساؤل للقارئ عن التناقض الموجود في مواقف والد «ليلى»، فهو الجاد الحاسم الحازم الذي لا يرضى بأي قصور في عمله، ويعترض على لبس «ليلى» ويمزّقه لها، وتشتري مثله مرة أخرى، ولا يمنعها ويكون فقط معترضاً علي لبسها الذي سبق ومزّقه، وتبدو صورة الأب كأنّه عاجز عن حصوله على احترام ابنته له ولكلمته ورغم ما أوحت به الأحداث من قسوة الأب أحياناً على ابنته لدرجة ضربها لمجرّد تمسّكها بعروستها وهي صغيرة، وبالقياس كان يمكن القول أنه استمر في مسلسل الضرب لمخالفات أكبر لكلامه ترتكبها الابنة، وإن لم يأت ذكر ذلك لكنّه منهجه الذي يتبعه في توجيه أبنائه، ومع ذلك تعبّر الابنة عن حبّها لأبيها، لا عجب فالنفس البشرية عجائبها وتناقضاتها، التي لا تدع مجالاً للعجب منها، وواضح أن الكاتب ملمّ بالكثير من خبايا النفس البشرية.

الاختيار

استطاع الكاتب ببراعة أن يوجز ويبلور صورة نفسيّة لما يعتمل بنفس «ناجي» من مشاعر متضاربة ومتصارعة معاً، وكأنّه يصف حال الأغلب الأعم من شباب هذه الأيام، فكلّ منهم ينبهر بالجمال الصارخ المكشوف المستهتر مظهرياً ويريد أن يستأثر به، ويمنّي النفس بقدرته فيما بعد علي تغليف هذا الجمال وحجبه عن الآخرين والاحتفاظ به رهين محبسه له وحده، وكم من تصدّعات أسريّة تحدث نتاج ذلك، والمجال غير متّسع لتحليل الظاهرة التي أوجزها كاتبنا. وبرع الكاتب في التنقّل بالصورة بين ما كان من حالهما قبل الزواج وحالهما الآني، وأوجز فيض من المعاني بين ضفّتي كلمات قليلة كمثال: «ما زالت بقايا الحبّ تغلّف التوتر بسياج من حرير تمزّقت أطرافه»، «كقتيل في الهوى يوقّع صكوك الغفران»، ومن الصور البلاغية: «يحرّض الأشواق على الانتحار» وغيرها من المعاني المغزولة بالأحرف إنه السهل الممتنع.

الانكسار

جاء هذا الإنكسار غريباً وسريعاً، تماماً كما جاء انسياق «ليلى» إلى مطالب «ناجي» بالتواجد بالمنزل بسهولة وسرعة لا تتناسب مع طبيعة الأحداث لأن لديها استعراض هستيري لجمالها وجسدها حتى يوم زفافها لحبيبها، وكيف يطلب منها الكل الطاعة وهم يعرفون طبعها، ومع ذلك لخّص الكاتب حكمة حياة تائهة: «الكثير من الرجال حين يتعاملون مع النساء يقهروهن بالعضلات»، ولا يدري الرجال أنّ ذلك دليل على صغر زوايا الرؤية بعقولهم وانخفاض تقديرهم لذواتهم، تماماً كما لخّص مبدعنا هنا كساد الحياة بينهما، «لا تذوب لحظات الجمود إلّا عندما تشرق شمس الشوق» كدليل على ضحالة الحياة وما آلت إليه وكأن هذا ما أصبح يجمعهما فقط، إن هو إلّا رباط واهي ما يلبث أن ينقطع… وهذا ما حدث.

وهنا نرى أنّه يجب مناقشة هذا العمل، لما يحمل من دروس ورسائل وعلامات استفهام تحتاج إجابات من مختلف زوايا التناول، أوضح ما فيها ومثله منتشر بالمجتمع، تحليل نوع حبّ ناجي، نعم هو حب إمتلاك، لكن ببساطة يستغنى عن وجود من يحبّها بجانبه. لوجود بعض التجاوزات، أفضل من تحمّل هذه التجاوزات ومحاولة تغييرها، أو تغيير نفسه مقابل وجودها معه وهو من يدّعي ولهه بها أحبّها بجنون، وتنازل عنها بجنون. هذا النوع من الحبّ يحتاج مسمّى آخر.

حافّة الضياع

«ما زال متعلّقا بـ«ليلى» وجسمها» دلالة الجملة توضح الكثير أو تصحّح مفاهيم كثيرة، يحاول الكاتب أن يضع تحت الميكروسكوب، مفاهيم المجتمع المغلوطة، بأن جعل تغيّر حالة ليلى الاجتماعية مبرّراً لقبولها هي أو من شابهتها، الزواج من كبّار السنّ كاعتياد نظرة المجتمع، يسلّط كاتبنا منظار ليزري في سرعة الأداء والإتقان لرصد الظاهرة، ثم يتجاوزها فوراً وكأنّه عفوي الإشارة.

تساؤل «ليلى»: «هل كانت علاقتها بـ«ناجي» علاقة حب»، وبقية التساؤل يجيب على غرابة تصرّف «ناجي» غير المحسوب.

أوضح مبدعنا أن جل همّها أصبح وجود الرجال صرعي كنوع من الانتقام، رغم أنّ هذه طبيعتها الأساسية، كل ما حدث هو تماديها عن ذي قبل، فهل الخلل الذي أصبح لديها في المبادئ والقيم والعلاقات الخاصة بالعمل والتي تستغل فيها كل الحيل… هي أيضاً من باب الانتقام؟ تساؤل يحتاج إجابة تحليلية لتركيبة شخصيتها التي تراكمت بها وتداخلت عوامل متناقضة فأوجدتها على ما هي عليه.

تذكّرنا الفكرة التي تدور برأسها، هناك امرأة تستطيع أن تستحوذ على الرجال بدرجة تفوّقها، بالقصة في الأساطير «يا مرايتي… يا مرايتي… فيه واحدة أجمل مني؟» ويؤكّد حرصها على تغيير مظهرها ذلك.

إنّها مهشّمة نفسياً وهشاشتها الداخلية من كثرة الشروخ أوشكت على تهاويها، إنّها تمسك بالمعول وتتهاوى به على جنباتها المعنوية، تجلد نفسها بطريقة أشبه ما تكون إيذاء الذات، فقط ليس بأدوات ماديّة إنه ليس انتحار لا مادي ولا معنوي، لأنّها مستمتعة بأدائها في الحياة، ولا تشتكي إلّا أن تكون في واجهة أي مشهد تتواجد فيه.

التحوّل

كثيرة هي المفردات اللغوية الموجزة التي تحتوي الكثير من المعاني «لعن الثراء المسروق من أعمار البشر»، «كالشوك مغروسة في عمري».

كان تحليل كاتبنا لتحوّل شخصية «سامي» منطقيّاً وبتتالي أحداث أدّت لنتيجة. وكثيرة هي الصور البلاغية من حيرة الأم بين زوج الضال والابن التائب، وحيرتها في منتصف النهر ليست بغارقة ولا ناجية، كاتبنا يوثّق المشاعر، ببراعة تشريحيّة.

الهرم المقلوب

أصاب الكاتب بالتسمية وأورد أمثلة تجسّد المعنى، كلّ من بيده مال ونفوذ له سلطة، حتى ليلى، لديها سطوة الجمال وبدأ الكاتب يمهّد ذهن القارئ لجديد في الطريق، بالصراع ما بين قلب «ليلى» في الخير، وعقلها المتمثل في مرافعاتها في الشرّ، التناول أداة جيدة التمهيد.

المعضلة الكبرى

«تمتلك قدرة نادرة على الوفاء لمن تحبّ»، «تريد الهروب من الإحساس القاتل بقتل خصال نبيلة »، ما الدليل العملي على ذلك؟ إنّها حتى لم تضع لاحترام أسرتها مكانة لديها.

مهنة المحاماة مرآة نطلّ منها علي المجتمع الظاهري، كما هناك مهن كالمعالج والمدعّم النفسي نطل منها على أغوار النفس البشرية دون «رتوش»، فنعرف كثير من الأسباب وراء السلوكيّات المشوشة لشخصية مثل «ليلى». وليس مجرّد الموقف السردي ببداية الرواية، غير أنه كثيراً ما يؤثّر موقف ما في جنوح عن الطريق السويّ، يتوقف على شدّة الموقف، وصلابة المتلقي له، ورصيد خبرته الأوّلية.

تتعجّب «ليلى» من أنّ «الأفاقين قتلوا فيها الأمان» ولكن هي من أعطتهم الأداة وسهّلت لهم ذلك.

الإعصار

تصوير رائع للطبيب اللاإنسان الرافض لإنقاذ جنين تتمنّاه أمّ بعد محاولات عدّة لها سابقة للحصول على طفل، مقابل التخلّص من جنين «ليلى» الفوري نظير المال، إنها طباع نوعيّات من البشر، ستظلّ مضي في الحياة بل ملامح.

تصوير كاتبنا للضربات التي توالت على «ليلى»، أشبه ما يكون إمساكه بمطرقة تتهاوى على روحها لتحطّمها بلا رحمة، وكأنّه أراد أن يسلبها في فورة واحدة، سعادتها التي تذوّقتها دفعات باستمتاع، كأنّه يعطي قارئه درس غير مباشر حتى لا يأمن ضربات القدر، ويصوّر «ليلى» مترنّحة بين الصفعات القدريّة، تماماً كما كانت مترنّحة باللذات المتباينة، سواء الثروة أو تهاوي الرجال أو السلطة.

التصدّع والضياع، يتمثّل تأرجح «ليلى» في جحيم تفكيرها ومشاعرها، بسلوك المتقلّب بين الوعي والتيه، والمتأرجح بين الإسراف والاكتناز، تصوير بليغ، كأنها ذبيحة تشوى على جمر أحداث حياتها الآنية، تبّلت جيداً للآكلين الطامعين.

هؤلاء الطامعون الذين صوّرهم مبدعنا وكأنهم ما زالوا يتعلقون بأستار كعبتها يحرقهم الشوق رغم أنّها في منتصف العقد الخامس وما كان لهم أن تجرفهم دوامات محيطها الأهوج حتى وإن كانت رغبتها في الانتقام ما زالت يقظة والملاحظ أنّها إن نعست فترة، فسرعان ما يصحو غفوها فيها.

المصيدة

حاول الكاتب إيجاد مبرّر لوجود كمال في شركة التسويق، فجعل «فهيم» مدير التسويق لا يفهم إلّا قليلاً في التسويق، على غير ما يقتضيه المنطق، ويمكن حذف هذه الجملة والاكتفاء بطلب مساعدته في المساء.

كاتبنا لديه إنحياز تجاه بطلته يصوّرها لقارئه ولأي بطل تتعلّق به أنها ضحية لمن سبقوه لحياتها من الرجال، وحقيقة الأمر أنها هي التي تغزل شباكها مصيدة للرجال من نوعيّات معينة، لا يتوقّع منهم إلّا هذه السلوكيات الصادرة بالفعل.

ولنتساءل هنا، لماذا تمادت في مصاحبة «كمال» وهي متزوجة من «سامي»؟ ولماذا لم يظهر «سامي» في الصورة التي صوّرها الكاتب لها على أنها تتصرّف مع «كمال» على سجيّتها، في النزهات وقضاء وقتها غداءاً وعشاءاً مع «كمال» وكأنّ «سامي» غير موجود؟ ولماذا لم يوقف «كمال» علاقته بها والكاتب صوّره بأنه الإنسان الأمين ذو النزاهة والذي تربّى على القيم والأخلاق؟ لعلّه كان من الشخصيات النقية في الرواية، إلّا أنها تأبى ألّا تصيب لعنتها كل الرجال حتى الأنقياء الأتقياء منهم.

المعركة

يصوّر كاتبنا الصراع بين الاعتراف بالحبّ والإنكار بين «ليلى» و«كمال» كما الصراع الأبدي والمعركة المستمرة بين الرجل والمرأة باستمرار الحياة، وحاول أن يصوّر ببساطة الفارق بين كمال ومن سبقوه، في الهدف فالسابقون باسم الحبّ وصلوا لإشباع رغبتهم كهدف وكفى به، و«كمال» يحبّها كحقيقة.

مرة أخرى يحاول مبدعنا تصوير «ليلى» ويجمّلها بقلمه بأنّها تهتم بألّا تكون موضع نقد أو تشريح من الآخرين خاصة أسرتها، في حين أنّها لاهية عن الجميع ضاربة عرض الحائط بكلّ الآراء وأوّلهم رأى والدها في ملابسها الشفّافة التي كان يمزّقها، فكانت تشتري مثلها مرة أخرى وترتديها متباهية، وحتى في مرحلتها الظرفية والعمرية الآنية تتصرّف بنفس المنهجية دون مواربة وعلى غير مراعاة لزوجها وأختيها وأخيها. وتمضي دون هداية من ضمير، دونما كلام عن دين أو خلق، فما المجال بمتاح هنا لذكرهم.

الحبّ الكبير

في هذه الفقرة التي تقترب من أبواب المفارقة، يميل مبدعنا لإقرار بعض من حقائق، فقط للتذكره، «المرأة تتعرّض لتآكل طبيعي في الجمال والمظهر»، «المرأة لا يمنعها عن الغواية سوى نفسها»، ثم يبعث للقارئ رسائل تبشيرية: «تنفلت من سجن الآلام نحو رحابة الأمل»، «قيمة الحبّ إذا تعثر الارتباط أن تكون طاهراً مع من تحبّ».

إنّها البداية هنا وليست النهاية، «تفتّش عن نفسها»، إن أهم ما يفعله أي إنسان أنه يتجوّل داخل ذاته حاملاً مصباحه الليزري الضوء، ليبحث عن نفسه التي تركها وتاهت منه، وتاه منها، وقد يكون سعيد الحظ حين يعود لنفس المكان الذي تركها فيه، فيجدها قابعة في انتظاره، منتظرة إيّاه ليأخذ بيدها ويصحبها ليستردّها داخله، وهو لن يستطيع أن يفعل ذلك إلّا بمصاحبة معالجه النفسي الذي يساعده على فتح ملفاته وتبديد ظلامه الداخلي بإشراقه جديدة.

الكاتب وبانسيابية تدفّقية، بعث لنا هدية من رقيق الكلمات يهدهد مشاعرنا لكي يحظى بغفراننا لبطلته كل ما مضى، ونسعد بإشراقه نديّة روت جدب أيامها، كأنّه يريدنا أن ننحاز لبطلته وننتمي لها، أن تهتدي لنفسها السويّة. وها نحن نقول: «لعلّ وعسى».

مستشارة نفسيّة وتربويّة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى