كيف قرأت وسائل الإعلام الأميركية الاحتجاجات الإيرانية؟
من غير المستغرب أن يكون معظم الإيرانيين راضون عن أداء حكومتهم حتى لو كانوا يتوقعون إنتاجية أفضل في بعض المسائل، إلا أنّ تقارير الأمم المتحدة تؤكد انّ التحسّن في مؤشر التنمية البشرية لم يبدأ إلا مع الثورة الإسلامية. لكنها النرجسية الأميركية التي تعوّدنا عليها، حيث يستحيل على الولايات المتحدة ان تقتنع أنّ أياً من الدول المعادية يمكن أن تكون أكثر وعياً أو قلقاً حيال مصير شعوبها كما تكون هي…
في ما يلي مقالة تحليلية كتبتها الباحثة شارمين نارواني لصحيفة The American Conservative تشرح فيها عدم ارتباط السياسة الخارجية لإيران بالاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها البلاد، وذلك في استطلاع جديد للرأي أجرته شركة «سي أس أم» الإيرانية لاستطلاع الرأي.
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
الإيرانيون الذين تمّ استطلاعهم بعد الاحتجاجات يروون قصة مختلفة جداً حول مظالمهم. لا، لم يكن الأمر متعلقاً بسورية أو العراق أو حزب الله أو الحرس الثوري الإيراني، فالاحتجاجات بالدرجة الأولى تتمحور بمجملها حول الاقتصاد.
قبل ما يقارب الشهر من الزمن، كان الإيرانيون يتجمّعون في الشوارع للاحتجاج على حكومتهم، وكانت مظالمهم الرئيسية وفقاً لوسائل الإعلام الغربية وسياسيّيها الاقتصاد، السياسة الغربية، التوسّع وحقوق الإنسان.
أما اليوم، فقد انتهت الاحتجاجات. إنما وفقاً لدراسة حديثة أجراها مركز الدراسات الدولية والأمنية في ماريلاند ومقرّها جامعة ماريلاند واستطلاع إيران، فإنّ واحدةً فقط من تلك المظالم قد أوقدت الشرارة فعلاً: الاقتصاد.
ووفقاً للاستطلاع، فإنّ أكثر من 72 من أصل ألف واثنين من المستطلعين الإيرانيين وافقوا على أنّ حكومتهم لا تفعل شيئاً لمساعدة الفقراء، و86 لم يوافقوا على زيادة أسعار النفط، و95 أرادوا وقف ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ومثلهم من وافق أنه على قادتهم أن يقوموا بالمزيد حيال محاربة الفساد المالي والبيروقراطي.
ورداً على سؤال حول اختيار أهم ّ مشكلة أو تحدّ يواجه إيران، اختار المستطلعون بأغلبية ساحقة البطالة بنسبة 40.1 ، مداخيل منخفضة 6.9 ، الفساد المالي/ الاختلاس 6 ، وهكذا دواليك.
ومن المثير للاهتمام، أنّ «غياب الحريات المدنية» كان أقلّ الخيارات من قبل المستطلعين، حيث حققت ما نسبته 0.3 فقط، في حين نال «الظلم» 1.4 . فيما يرى الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلاف ذلك: «فقد حصل قمعٌ رهيب للشعب الإيراني العظيم على مدى سنوات عديدة مضت… هم جائعون للغذاء والحرية. والى جانب حقوق الإنسان، يجري نهب الثروة الإيرانية». ويعود ترامب ليغرّد مضيفاً «تراقب الولايات المتحدة عن كثب الاحتجاجات الكبيرة في إيران وانتهاك السلطة لحقوق الإنسان!»
وفي الواقع، فإنّ استطلاعات الرأي، تشير الى أنّ أكثر من 66 من المستطلعين يؤمنون أنّ قوات الشرطة تمكنت من التعاطي بشكل جيد مع الاحتجاجات 34.5 أو جيد الى حدّ ما 31.8 مقارنةً بـ 23.7 ممن قالوا إنّ إدارة المظاهرات جاءت سيئة للغاية. وأكد حوالى 63 من المستطلعين أنّ الشرطة استخدمت كمية مقبولة ومناسبة من القوة، بينما قال 11.4 منهم أنّ استخدام القوة كان «قليلاً جداً. في حين أجاب 64.5 من المستطلعين أنّ «المتظاهرين السلميين الذين كانوا يردّدون شعارات تندّد بسياسات الحكومة»، ينبغي الإفراج عنهم، وقال 42.3 منهم أنّ «المحتجّين السلميين الذين كانوا يطلقون هتافات ضدّ الإسلام أو القوانين الإسلامية، يُفترض معاقبتهم، إنما ليس بشدّة، إضافة الى 31.9 مهم يفضلون إخضاع هؤلاء لمعاقبة شرسة».
ويتواصل هذا الاتجاه مع موافقة 68.3 من المستطلعين على محاكمة المتظاهرين الذين «ردّدوا شعارات ضدّ النظام السياسي في إيران»، ويصرّ 62.5 على أنّ المحتجّين الذين يحرقون علم إيران يجب أن «يُحاكموا ويُعاقبوا بشراسة». وطالبت النسبة عينها بمحاكمة ومعاقبة من تهجموا على عناصر الشرطة وألحقوا الضرر بالممتلكات العامة. وعموماً، فقد وافق 63 من الإيرانيين بقوة أنه «على الحكومة أن تستخدم القوة بشكل أكبر بهدف إيقاف الشغب مع مستخدمي العنف أو الإضرار بالممتلكات».
حالياً، وبالعودة الى مجلس الأمن الدولي، فقد كانت سفيرة الولايات المتحدة نيكي هالي تعبّر عن آرائها وعن طموحاتها الإيرانية. حيث أكدت أنّ الاحتجاجات تعبّر عن «عرض قوي للشعب الشجاع الذي عانى ما عاناه من قمع السلطة ونيتهم المخاطرة بحياتهم في سبيل اتلظاهر». كما طالبت هالي بعقد اجتماعات طارئة للأمم المتحدة للتعامل مع الوضع الداخلي في إيران.
لكن، وعند سؤال المستطلعين عما إذا كانت حكومتهم تتدخل كثيراً في حياة الناس الشخصية، فإنّ 66.85 من الإيرانيين لم يوافقوا على الطرح، مقارنةً بإجابة 26.3 بـ «نعم».
غير أنّ النقاد الأميركيين كانوا يبحثون في الماضي على «أدلّة» حول تلك المرحلة. وكما صرّحت سوزان مالوني لصحيفة «واشنطن بوست»، بالقول انّ ما يبدو مختلفاً حول هذه الاحتجاجات الإيرانية هي أنّ «الناس لا تتظاهر فقط للحصول على حياة أفضل، بل إصراراً منها على الرفض التامّ لهذا النظام بأكمله».
ووفقاً أيضاً لاستطلاع الرأي، فإنّ 16.4 من الإيرانيين وافقوا على أنّ «النظام السياسي في إيران بحاجة الى تغيير جذريّ» فيما لم يوافق على ذلك 76.6 ، مع تأكيد 53.5 على «عدم الموافقة» بالمطلق. وهي نسبة مذهلة بالنسبة الى هذا الاستطلاع، أن يكون ثلاثة أرباع المستطلعين موافقون بشدّة على الإبقاء على النظام السياسي المتبع حالياً في إيران، ما يؤكد «شرعية» هذا النظام الآن أكثر من أيّ وقت مضى.
وفي الواقع، وبعد وقت قصير من نشر الاستطلاع، غيّرت «واشنطن بوست» من نغمتها، حيث اعترفت أنّ الإيرانيين أظهروا «دعماً قليلاً نسبياً لتغيير النظام السياسي الإيراني أو للتخفيف من حدّة القانون الإسلامي الصارم».
إنّ السياسة الخارجية الإيرانية هي جوهر الإحباط الأميركي في المنطقة، فها هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفائها يستكملون تحقيق النجاح تلو الآخر على المسارح العسكرية والتي تؤثر مباشرة على أهداف الهيمنة الأميركية. ما يفسّر قفز وسائل الإعلام الأميركية والسياسيين فوق كلّ الاعتبارات وجميع الهتافات التي أُطلقت بهدف إظهار أنّ الدعم الإيراني يخرج عن سيطرة الالتزامات الاستراتيجية والعسكرية في المنطقة. والجدير ذكره، أنّ هذه الشعارات تناغمت مع تلك الاقتصادية، على الرغم من أنّ العامل الاقتصادي كان المحفز الرئيسي وراء الاضطرابات الإيرانية.
وكان دنيس روس مستشار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وهو الملقب بـ «قيصر إيران»، قد نشر مقالة تحليلة في مجلة «فورين بوليسي» بعنوان «أُصيب الإيرانيون بالجنون حيال سياستهم الخارجية» حيث عمل جاهداً وبشفافية تامة، على إدراك التعادل في مشاكل إيران الإقتصادية مقارنةً بنفقاتها العسكرية في المنطقة، دون أن ننسى طبعاً العقوبات الاقتصادية. بدأ المحتجون بطرح أسئلة عديدة كمثل «أين تصرف أموالنا في لبنان، سورية، وغزة فعلى الإدارة وضع تقديرات حيال ما تصرفه الجمهورية الإسلامية على أرض الواقع»، فقام بتقديم النصح للبيت الأبيض. «فقد أوضحت الجمهورية الإيرانية أنها لن تسمح بعد اليوم بدفع المزيد نتيجة توسعها في المنطقة».
ما هو المغزى من كلّ هذا؟ تشير الاستطلاعات الى أنّ غالبية الإيرانيين 51.1 يرفضون مقولة إنه «على الحكومة أن تصرف مالاً أقلّ في أماكن مثل سورية والعراق»، بينما يوافق على ذلك 41.3 منهم. وقد ازداد هذا العدد عندما طُرح سؤال حول ما اذا كان «مستوى تورّط إيران في العراق وسورية لا يصبّ في المصلحة الوطنية الإيرانية»، فوافق 61.2 على ذلك فيما رفض 32.6 هذه الفكرة. مع الأخذ بالاعتبار انّ هذا الاستطلاع أُجري بعد الهزيمة الواسعة التي لحقت بداعش في سورية والعراق .
ويتساءل الاستطلاع على وجه التحديد، عما إذا كانت المساعدات العسكرية لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد ستتغيّر «خصوصاً بعد إعلان كلّ من إيران وروسيا النصر على داعش». وقد استجاب 14.8 من الإيرانيين على وقف المساعدة العسكرية، و30 أنها يُفترض أن تخفف، و48.5 أجابوا بضرورة متابعة هذا الدعم «حتى تتمكن حكومة الأسد من استعادة السيطرة التامة على كافة الأراضي السورية».
وعلاوةً على ذلك، يعتقد 86.5 من الإيرانيين أنه على إيران الحفاظ على دعمها للجماعات التي تقاتل مجموعات إرهابية مثل داعش».
وعلى صحيفة «وول ستريت جورنال» أن تولي اهتماماً بهذه النماذج. وإبان الاحتجاجات الإيرانية، تمكن المتظاهرون من إدارة حملة بعنوان «إنفاق إيران على الصراعات الخارجية يثير جنون المتظاهرين»، وأكدوا بشكل غير صحيح تماماً أنّ مليارات الدولارات التي أنفقتها إيران على الصراعات الخارجية شكلت نقطة محورية لغضب المتظاهرين في وقت يتضاعف فيه التضخم المالي والبطالة في البلد. تتعالى الهتافات المردّدة أن «اتركوا سورية، فكروا بنا!» في خطوة منهم للضغط على طهران لإعادة تقييم حجر الزاوية في سياستها الخارجية: استخدام الوكلاء لنشر نفوذها وتحدي خصومها الإقليميين، وتحديداً السعودية».
إنه مثال آخر على محاولة الإعلام الأميركي اللعب على وتر المظالم الاقتصادية الإيرانية وربطها بالضرورات الأمنية للأمة. غير أنّ حيلة كهذه لم تعُد تعمل ببساطة في زمن الحرب أو عندما ينظر السكان الى التهديدات الأمنية. حتى أنّ التهديد بفرض عقوبات أميركية أخرى سيؤدّي الى مزيد من الانكماش في الاقتصاد الإيراني، وهذا لن يغيّر من تصوّر الإيرانيين الذي أكد 70 منهم انه «لا ينبغي لإيران أن توافق على وقف تطوير الصورايخ المتقدّمة» حتى لو لوّح ترامب بالمزيد من العقوبات.
تخطت «واشنطن بوست» هذا أيضاً بعدما هتف المتظاهرون في الاحتجاجات الأولى «لا غزة، ولا لبنان، حياتنا لإيران»، فضلاً عن إطلاق شعارات أخرى مثل: «دعوا سورية وشأنها، فكروا بنا»، و»الموت لحزب الله».
ومع ذلك، فإنّ ثلثي الإيرانيين 64.7 منهم قد أخبروا مستطلعي الرأي أنهم يرون الى حزب الله بشكل إيجابيّ، والمذهل في الأمر، أنّ 82.7 منهم اعتبروا انّ أفضل شخصية سياسية إيرانية هو قائد فيلق قوات القدس بالحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني والمعروف أنه المهندس والمخطط لمعظم معارك إيران وحلفائها في العراق وسورية.
إنّ إيران هي واحدة من الدول القليلة المستقرّة في منطقة مزّقتها الحروب والإرهاب، لذا، يبدو من غير الصعب أن نفهم لماذا تمنح نفقات الدفاع التي تعزّز عمق استراتيجياتها وحماية حدودها، حتى تلك المرتبطة بالضغوطات الاقتصادية الكبيرة.
يستحق استطلاع «سي أس أم»/ «استطلاع إيران»، عرضاً شاملاً، كونه يوفر رؤى قيّمة حول ما يفكر فيه الإيرانيون في مجموعة متنوّعة من القضايا، بما في ذلك القضايا الرئيسية المرتبطة بالولايات المتحدة، مثل الاتفاق النووي. والأهمّ من ذلك، أنها تساعد في فصل الحقيقة والواقع عن الخيال في الجمهورية الإسلامية في الوقت الذي تقوم فيه الإدارة الأميركية بتكثيف الدعاية الحربية مرة بعد مرة.