لماذا الغوطة الشرقية ضحيّة جديدة للإعلام؟
د. وفيق إبراهيم
يستحضر الإعلام في الغرب والخليج وتركيا و«إسرائيل» كامل مواهبه لتصنيع مواد وأفلام مفبركة في أمكنة بعيدة عن الأحداث، تدين مجازر مزعومة يقترفها الجيش العربي السوري في الغوطة الشرقية، بالقصف جواً وبراً.
الفارق بين هذه المواد الإعلامية والأفلام الهوليودية الكبيرة يرتبط بمده العرض منها. فالأولى قصيرة تمُّر بسرعة وتركّز على جثث أطفال ونساء وعجائز يبكون ويولولون، وأبنية تتهاوى، أما الثانية فهي أفلام طويلة تمسّكت منذ الحرب العالمية الثانية بتصوير قصص تزعم أن الأوروبيين نقلوا الحضارة إلى الهنود الحمر والعالم، وان الجيش الألماني مجرم وقاتل ومبيد الحضارة، لذلك فالمضمون واحد في كل وقت ويتعلّق بخدمة السياسات الأميركية عموماً. وفي الغوطة الشرقية خصوصاً.. فلماذا هذا الاهتمام بالغوطة الآن؟
تربض الغوطة الشرقية عند الخاصرة الشرقية للشام بسكان يزيدون عن 300 ألف نسمة، غادر قسم منهم نتيجة سيطرة تنظيمات إرهابية عليها، فيما يدير الآخرون أمورهم بأسلوب التعايش القسري، لأن لا موارد لديهم للانتقال إلى مناطق أخرى.
وخطوط الغوطة الشرقية مفتوحة نحو الأردن من خلال مناطق حوران، وباتجاه المناطق الحدودية المتاخمة للجولان السوري المحتل.. هذا يعني ارتباطها بجهتين معاديتين للدولة السورية هما «إسرائيل» والأردن اللذان يشاركان منذ بداية الأحداث في دعم المنظمات الإرهابية بالسلاح والتموين والتذخير والتمويل.
هذا ما شجّع التنظيمات الإرهابية فيها على استعمال أسلوب «قصف متقطع» هو أشبه بـ«القنص المدفعي». غير الدائم، وهذا يتسبّب عادة بخسائر بين المدنيين في دمشق أكثر مما ينتجه القصف الدائم الذي يفرض على الناس الاحتماء في الأماكن الحصينة.
اعتماد هذا الأسلوب في الرمي، يهدف إلى توتير الحياة اليومية في دمشق التي يقطنها نحو ستة ملايين سوري، وتشكل عصباً مركزياً للدولة السورية برئاستها وحكومتها وأجهزتها الخدمية والأمنية والاجتماعية.
ضمن هذا المدى الجغرافي، يُمكن اعتبار الغوطة بهذه السيطرة الإرهابية عليها، مركز تهديد خطير بوسعه شلّ التفاعلات في قلب سورية الوطني والسياسي والاجتماعي، وقاعدة للاستعمال في شن غزوات مباغتة على أحياء مدنية، كما حدث أكثر من مرة. ما يعني أنها هراوة مرفوعة فوق رأس العاصمة، قابلة للاستخدام في كل وقت.
لجهة الأزمة السورية عموماً، تشكل الغوطة واحدة من مناطق قليلة لا يزال الإرهاب يلعب فيها بحرية. فباستثناء شرق الفرات حيث الأميركيون مباشرة مع بعض حلفائهم من الكرد، والشمال السوري الذي تنتهكه تركيا، تشكل إلى جانب إدلب مرتعاً لتنظيمات إرهابية خالصة يوالي قسمٌ منها السعودية فيما يرتبط الثاني بتركيا وقطر.
فإذا كان جيش الإسلام فيها سعودياً يوالي الرياض ومعه بعض فلول داعش، فإن جبهة النصرة وفيلق الرحمن وأحرار الشام ومعظم التنظيمات المنبثقة من الاخوان المسلمين مرتبطة مباشرة بالدوحة وأنقرة.. إلى جانب تنظيمات أخرى يقودها متزعّمون محليون متموّلون بدورهم من الطرفين السعودي والقطري بإشراف المراقبة الأميركية الجوية الدقيقة.
إدارياً، تطبق هذه التنظيمات، إدارتها للغوطة الشرقية حسب المفهوم الوهابي والاخواني من جهة. وهذا كافٍ لتبيان مدى حرص هذه التنظيمات على وضع هذه المنطقة في القرون الوسطى بالتسلط والإرهاب وتحويل النساء جواري للمتعة، ومنع العلم الحديث عن نحو 300 ألف مواطن مقابل تعميم خرافات أسطورية لا تنطلي على العقول الحديثة.
هذه هي الجوانب الداخلية لأزمة الغوطة الشرقية، فماذا عن جوانبها المرتبطة بالقوى الإقليمية والعربية والدولية المتورطة؟
إن متابعة الإعلام الأميركي والأوروبي والخليجي والتركي في تحليلاته عن الغوطة الشرقية تكشف عن وجود إصرار من دول هذا الاعلام على المحافظة على هيمنة الإرهاب على هذه المنطقة لأسباب أولها الإبقاء على هذه الهراوة المسمومة فوق رأس العاصمة السورية.
وإلا فمَنْ يصدّق ما تقول الدولة الفرنسية من شكوك قوية لديها بأن الدولة السورية تستعمل السلاح الكيماوي في الغوطة، لكن لا دلائل قاطعة لديها حتى.. وحين تتأكد فإنها لن تتورّع عن مهاجمة أهداف للجيش السوري.. وتعتمد السياسة الأميركية الرواية نفسها والأسلوب عينه.
والسؤال هنا، هو متى تتثبتُ هذه القوى أن الجيش السوري «يستعمل الكيماوي».. ومن البديهي القول إنه لن يتأخر في التزامن مع بدء الجيش السوري بتحرير الغوطة الشرقية من الاحتلال الإرهابي لها.
لذلك فإن الإعلام هو الوسيلة التي تعمّم نهجاً غربياً استعمارياً يتغطى بلبوس إنساني حريص، كما يزعم، على الأطفال والنساء والعجائز.. ترى لماذا لم يدافع عن أكثر من مليون قتيل من العرب والأيزيديين والمسيحيين ذبحتهم التنظيمات الإرهابية وأحرقت قسماً كبيراً منهم بنقل تلفزيوني فضائي مباشر من وسائل إعلام غربية؟
ولماذا تعايشت القوات الأميركية مع منظمة داعش نصف عقد.. وكانت تزعم أنها تقاتلها.. بينما كانت توفر لها الحماية لنقل النفط العراقي والسوري المسروق من خلال البوادي إلى مرافئ تركيا وأسواقها؟
وكيف سمح الغرب للسعودية وقطر وتركيا بالرعاية الكاملة لمئات آلاف الإرهابيين الذين حوّلوا نساء العرب أدوات للمتعة الرخيصة بتغطيات دينية مزوّرة؟
والسؤال هنا هو، لماذا يريد الغرب والخليج وتركيا إطالة امد الأزمة السورية من خلال حماية الإرهاب في الغوطة الشرقية وإدلب والشمال السوري وشرق الفرات؟
لا تحتاج الإجابة إلى كبير جهد. فبعد نجاح الجيش العربي السوري مدعوماً من حلفائه الروس وحزب الله والمستشارين الإيرانيين إلى حدوده مع لبنان والأردن والعراق متمكّناً من إدارة ثلثي سورية.. ارتفع منسوب القلق الأميركي من ثلاث مسائل مترابطة: الانتصار الكامل للدولة السورية، تمدّد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط العربي وتوسّع الدور الإيراني في العالم الإسلامي. بالنسبة لأهمية تحريرها عند الدولة فهذا لا لُبس فيه على الإطلاق، لارتباطها بسلامة أهل الغوطة نفسها ودمشق العاصمة، وإمكانية انتقال الجيش السوري إلى مناطق أخرى لتحريرها.
أما على المستوى الروسي، فإن كل قطعة أرض سورية تندمج في إطار الدولة، فإنها تزيد من مناعة دولة عربية سورية حليفة لها بشكل كامل ولديها على أراضيها قواعد عسكرية وجوية.. وسورية المستقلة هي المعبر الروسي إلى العراق واليمن ومصر ومجمل المنطقة.. بالإضافة إلى أن موسكو التي حافظت على شيء من حدائقها الخلفية المباشرة في القوقاز وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية، أصبحت على وشك تهشيم الاحتكار الأميركي للقوة، بما يؤدي إلى إنتاج مرجعيات دولية متعددة.
كما أن متانة الدولة السورية، تزيد من قوة إيران الإسلامية خصوصاً لجهة فتح خطوط من موسكو إلى طهران وبغداد ودمشق وصولاً إلى بيروت.. فهذا المعبر ذو الخلفية الصينية قد يصبح أقوى خط سياسي اقتصادي عسكري وبالتالي عالمي.. وهذا من شأنه حماية الجمهورية الإسلامية مما يتهدّدها من محاولات غربية وسعودية لإسقاطها.
هذه المقاربات تكشف مدى أهمية الغوطة الشرقية بالنسبة لأطراف الأزمة السورية. وهي تكشف أيضاً كيف يتحوّل الإعلام الغربي والخليجي والتركي «سلاحاً كيماوياً» يقذف «أخباراً مسمومة» تتستّر على القاتل التاريخي وتصّر على إبقاء المنطقة في إطار القرون الوسطى الوهابية.
إن الجيش العربي السوري مُصرٌ على تحرير الغوطة الشرقية بدعم حلفائه لإنقاذ أهله من «الكيماوي الإرهابي»، مهما كلّفَ الأمر من تضحيات، فهي خطى ينتهجها أبطال الجيش لإنقاذ قلب المشرق من الجحيم الأميركي، السعودي والإسرائيلي العامل على تفتيت بلد غير قابل للتقسيم مهما تعاظمت الأساليب والأحابيل.