العمل الإذاعي القوميّ في ستّينات القرن الماضي 2/3

ل.ن

يتابع محمد بعلبكي محاضرته حول الفكر القوميّ في جامعة اليسوعية:

«لقد كان العقل كما قلنا سابقاً أيها السيدات والسادة سبيل سعاده في الاهتداء الى هذه النظرة. العقل الذي هو «فعل مجابهة»، وموقف العقل الذي هو «خلاصة التجربة التاريخية الخلاقة التي تحمل في طياتها صعود الإنسان من حالة اللاوعي الى درجة الوعي والحضارة الإنسانية».

«العقل الإنساني لم يوجد ـ كما يقول سعاده ـ ليتقيد وينشل بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميّز، ليعيّن الأهداف وليفعل في الوجود. العقل الذي هو موهبة الإنسان العليا، هو التمييز في الحياة، فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والإدراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحط الى درجة العجماوات المسيرة بلا عقل ولا وعي».

بقوة هذه الأداة المميزة الخلاقة التي يتمتع بها الإنسان تقود الحركة القومية الاجتماعية المواطن أول ما تقوده في مراحل الوعي لنظرتها العميقة الشاملة الى الإنسان والمجتمع، تقوده الى التساؤل: الى أي حد أنا إنسان؟ وتكون النتيجة المنطقية لهذا السؤال المنطلق، أسئلة أخرى: ما هو الإنسان؟ متى يكون هذا الذي يدعى إنساناً «إنساناً» بالفعل ومتى لا يكون؟ ما هو محله من الوجود الإنساني، ما هو حظه من العدم أو الوجود، من الفناء أو الخلود؟

وفي لحظة، يجد المواطن نفسه تابعاً خطى الفلاسفة في مواجهة هذا التحدي الفكري الخطير. فإذا كانت له القدرة على تجريد النفس من كل الأفكار السابقة المتراكمة في ذهنه وعلى قلبه بمختلف العوامل، وكان لعقله وحده سلطان النظر الى الأشياء وتمحيصها وإخضاعها لما يقتضيه التدليل الصحيح والبرهان القويم، وجد نفسه منقاداً الى الخطوة الأولى من خطوات المعرفة: الخطوة التي خطاها ديكارت، وكان قد خطاها قبله بمئات السنين الإمام الغزالي الذي لم يرضَ حتى في الله إلاّ بالمعرفة اليقينية التي جعلته من بعد إماماً من أكبر الأئمة. ومن لا يذكر «المنقذ من الضلال»؟ «أن الظن كما تقول الآية القرآنية الكريمة لا يغني من الحق شيئاً».

اجتماعيّة الإنسان

إزاء هذه الأسئلة الكيانية الخطيرة، تنطلق نظرة الحزب من الإيمان باجتماعية الإنسان، بخضوعه دون أن يكون له في هذا الخضوع أدنى اختيار، لأثر هو أعظم الآثار الأساسية في كيانه: أثر الاجتماع الذي هو خاصة الطبيعة الإنسانية أو احتكارها في مراقي تطورها. فالشخصية الإنسانية لا يمكن أن تتحقق إلا ضمن نطاق شيء اسمه الاجتماع. وأنت كفرد منفصل كل الانفصال عن الاجتماع لا يمكن أن يكون لك من الوجود الإنساني حظ إلا حظ الإمكانية من الوجود.

ولا تصبح الإمكانية حقيقة، ولا يصبح الفرد الذي هو إنسان بالقوة إنساناً بالفعل إلا بالفعل إلا متى أصبح مجتمعاً.

«المجتمع يقول سعاده هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية». ومن لا يحتاج الى الاجتماع ولا يصلح له يقول أرسطو إما آلة أو وحش ولكنه ليس إنساناً.

هذا التشديد على المفهوم الاجتماعي للفرد يخرج بالإنسان فوراً من الفردية القتالة التي سادت مجتمعنا، ويثبت الخصائص والصفات والخطوط النفسية والروحية للمجتمع التي يستمد منها الفرد نفسيته الاجتماعية وخصائصه القومية التي تميزه عن أبناء الأمم والمجتمعات الأخرى. وبهذا المفهوم تنجو نفس المرء من ذلك الشعور الذي لا بد أن يستحوذ على نفوس الفرديين في بعض ساعات التأمل، إذ يتحقق أحدهم بأنه يرى ولا يرى، يسمع ولا يسمع، يحس ولا يحس، وكأن الله قد ختم على قلبه وسمعه وبصره غشاوة، وينعدم لديه كل إحساس صميمي بدفء الحنين وحرارة اللهفة وجمال الحب ثم لا يجد في ذهوله المسيطر إلا طريق العيش الحيواني الرخيص مستسلماً لما هو فيه من فناء محيق. بذاك المفهوم الاجتماعي للفرد تتضح له طريق الشفاء من هذا الشقاء المميت الذي لا بد أن تنتابه الرغبة الملحة للخلاص منه، فينشط للحياة ويحسن منه السلوك ويتقن العمل الذي يصبح لا مجرد وسيلة للارتزاق أو أسلوب من أساليب الاحتيال بل جهداً اجتماعياً يتحتم أداؤه ليزدهر المجتمع فيشمل الخير الذي يعمه الفرد هو منه.

اجتماعيّة القيم

واذا كان الإنساني هو الاجتماعي بالضرورة، فإن القيم الإنسانية هي قيم اجتماعية أيضاً بالضرورة، بمعنى أنها لا توجد ولا يمكن أن توجد إلا في المجتمع، ولا تكون إلا به وله.

وهذا النظر ينتهي بنا الى أن كل اختزان للقيم أو احتكار لها خروج على الإنسانية الصحيحة. وإذا ذكرت القيم في الحياة الإنسانية كان الحق في طليعتها. «اعرفوا الحق والحق يحرركم».

هل انتابك مرة داء القعود عن الثورة لما تعتقد أنه حق، وعدم الاندفاع لانتصار أفكارك في المجتمع؟ إذن هو فساد نظرتك الى الإنسان والقيم الإنسانية، فساد لا تعرف معه بعدئذ معنى من معاني الصراع ولا معنى من معاني الحرية. والحق يقول سعاده «لا يفنى بفناء الفرد ولا يموت مع الفرد. الأفراد يأتون ويذهبون ويكملون آجالهم ويتساقطون تساقط أوراق الخريف. أما الحق فلا يذهب معهم. ولكن شرطه في الإنسانية ليكون حقاً أن لا يعلن نفسه ويختفي، بل يمتد امتداداً لا يعرف الحدود على تعاقب الأجيال». لذلك نؤمن نحن بحق الإنسان في البحث عن الحق والدعوة إليه والصراع من أجله في أتم حرية فتلك كلها من أهم عوامل اكتمال الذات الإنسانية في الإنسان، وإذ تصبح مواهبه كلها للمجتمع ينفسح لنموها المجال فتزدهر وتثمر وتفيد، ويصبح مقام الحرية عنده حرية الأفكار وصراع المثل مقام الحياة نفسها، ولا معنى دونها للحياة. في سبيلها ترخص كل تضحية ويهون كل عزيز ومن أجلها يحلو كل أذى ويلذ النضال ويطيب الاستشهاد.

المفهوم القوميّ ومضامينه

وإذا كان الإنساني هو كما قلنا الاجتماعي بالضرورة، فإن نظرة الحزب الى الواقع الإنساني هي، أيها السيدات والسادة، إنه واقع مجتمعات متعددة متنوعة، عملت على تعددها وتنوعها عوامل كبرى مستمرة عبر الأجيال المتطاولة حتى أصبح التعدد والتنوع أمراً قد يستحيل الخروج عليه. الى أي مجتمع من هذه المجتمعات المتباينة النفسيات، المختلفة المصالح المادية والمطالب الروحية والثقافات والحضارات، أنتمي؟

ما هي حدود المتحد الاجتماعي الذي يضمني وفيه قد حصل عبر أجيال التاريخ المتطاولة الاشتراك الأتم في الحياة بين الناس الذين أعايشهم؟

ما هي حدود هذه الوحدة الإنسانية الخاصة المميزة عن سواها من الوحدات الإنسانية التي لم يكن لي في الانبثاق منها اختيار ولا في الانتماء اليها إرادة؟ ما هي حدود هذا الكائن الأزلي المستمر الوجود المستمر الفعالية الذي له فيَّ من الآثار ما قد أعلم وما لا أعلم ولكنني لا أستطيع مهما حاولت أن أنكره أو أنفلت منه؟ من نحن؟ ما هي ـ باختصار ـ أمتي، الأمة التي أنا إبنها كما أنا إبن والدي؟

بهذه الأسئلة تواجه عقيدتنا الاجتماعية المواطن، وههنا تبرز ما ندعوه قومية هذه العقيدة التي لا انفصال لها عن اجتماعيتها لأنهما مترابطتان ترابط المقدمة والنتيجة. وههنا يبرز ما قصد اليه سعاده في كتابه الى الأستاذ حميد فرنجية حين أشار الى انصرافه لتعيين معنى الأمة، وانتهائه بدروسه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الى تعيين أمته تعييناً مضبوطاً بالعلوم المتقدمة، وانفراده بذلك عن الذين اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين واشتغاله هو «لحرية أمته واستقلال شعبه في بلاده».

لا يتسع المجال في هذه الدقائق للخوض التفصيلي في مبحث الأمة، معناها وكيفية نشوئها وتطورها على إطلاقه. حسبنا أن نقول إن صاحب الدعوة القومية الاجتماعية قد قام في هذا الموضوع بالمحاولة العلمية الجليلة الأولى في اللغة العربية إذ أخرج كتابه العظيم «نشوء الأمم»، وحسبنا أن نقول إن نظرة الحزب في هذا الموضوع تقوم على أن البيئة الطبيعية المميزة عن سواها من البيئات الطبيعية على هذه الأرض، هي ذات الأثر الأكبر في تحديد المجتمع بحدوده الجغرافية بما قد ضمنته عبر أجيال التاريخ المتطاولة للذين يعيشون في داخلها من الاشتراك الواسع العميق في حياة الجسد والعقل، في الحياة المادية والروحية وبما أنها حالت دون اشتراك المجتمعات الأخرى التي تعيش خارجها، في حياة الذين يعيشون ضمنها. وهذه البيئة الطبيعية المميزة، هذا الوطن، يطبع المجتمع بآثار مادية وآثار معنوية خاصة لا يمكن أن تمحى إلا حين يتم التواصل البشري الكامل وينتفي تنوع المجتمعات مما لا سبيل الى تحقيقه إلا في أمد بعيد للغاية. ومهما بلغ من الصحة القول بالتيارات الفكرية العامة الجامعة للبشرية وانهيار الحواجز الجغرافية الطبيعية وتضاؤل أثرها بازدهار المواصلات فإن أحداً لا يستطيع الادعاء أن من شأن ذلك ملاشاة كيان اجتماعي في كيان اجتماعي آخر، ملاشاة أمة في أمة. إن الآثار المادية والروحية التي عمل تعدد البيئات الجغرافية في الأرض على ترسيخها في المجتمعات المختلفة باختلاف البيئات لا تزال رواسبها في نفسيات الأمم بالغة العمق، فضلاً عن استمرار التنوّع والتصادم في مصالح هذه الأمم.

قوميّتنا حاصل الدرس والتنقيب

هذا المفهوم للأمة، على أنها حاصل وحدة حياة الجماعة المادية والروحية في بيئة طبيعية مميزة عبر أجيال متطاولة، يؤدي الى رفض العرقية في تعيين الأمة لأنه يأخذ بنظرية، بل بواقع المزيج السلالي والحياتي ضمن البيئة. وهو أيضاً يؤدي الى رفض «اللغوية» اذا صح التعبير في تعيين الأمة لأنه يأخذ بأن الأصل هو فكر الإنسان المجتمع، فكر الأمة، المعبر عنه بواسطة اللغة، لا اللغة بحد ذاتها.

مهما بلغ تفاعل الفكر مع اللغة وارتباطهما، تبقى الأهمية لفاعلية فكر

العقل الرائد

لقد كان العقل كما قلنا سابقا أيها السيدات والسادة سبيل سعاده في الاهتداء الى هذه النظرة. العقل الذي هو «فعل مجابهة»، وموقف العقل الذي هو «خلاصة التجربة التاريخية الخلاقة التي تحمل في طياتها صعود الانسان من حالة اللاوعي الى درجة الوعي والحضارة الانسانية».

«العقل الانساني لم يوجد كما يقول سعاده ليتقيد وينشل بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميز، ليعين الاهداف وليفعل في الوجود. العقل الذي هو موهبة الانسان العليا، هو التمييز في الحياة، فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والادراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الانسان الاساسية وبطل ان يكون الانسان انسانا وانحط الى درجة العجماوات المسيرة بلا عقل ولا وعي».

بقوة هذه الاداة المميزة الخلاقة التي يتمتع بها الانسان تقود الحركة القومية الاجتماعية المواطن أول ما تقوده في مراحل الوعي لنظرتها العميقة الشاملة الى الانسان والمجتمع، تقوده الى التساؤل: الى أي حد انا انسان؟ وتكون النتيجة المنطقية لهذا السؤال المنطلق، اسئلة اخرى: ما هو الانسان؟ متى يكون هذا الذي يدعى انسانا «انسانا» بالفعل ومتى لا يكون؟ ما هو محله من الوجود الانساني، ما هو حظه من العدم أو الوجود، من الفناء او الخلود؟

وفي لحظة، يجد المواطن نفسه تابعا خطى الفلاسفة في مواجهة هذا التحدي الفكري الخطير. فإذا كانت له القدرة على تجريد النفس من كل الافكار السابقة المتراكمة في ذهنه وعلى قلبه بمختلف العوامل، وكان لعقله وحده سلطان النظر الى الاشياء وتمحيصها واخضاعها لما يقتضيه التدليل الصحيح والبرهان القويم، وجد نفسه منقادا الى الخطوة الاولى من خطوات المعرفة: الخطوة التي خطاها ديكارت، وكان قد خطاها قبله بمئات السنين الامام الغزالي الذي لم يرضَ حتى في الله إلا بالمعرفة اليقينية التي جعلته من بعد اماما من أكبر الأئمة. ومن لا يذكر «المنقذ من الضلال» ؟ « ان الظن كما تقول الآية القرآنية الكريمة لا يغني من الحق شيئا «.

اجتماعيّة الانسان

ازاء هذه الاسئلة الكيانية الخطيرة، تنطلق نظرة الحزب من الايمان باجتماعية الانسان، بخضوعه دون ان يكون له في هذا الخضوع ادنى اختيار، لأثر هو أعظم الاثار الاساسية في كيانه: أثر الاجتماع الذي هو خاصة الطبيعة الانسانية أو احتكارها في مراقي تطورها. فالشخصية الانسانية لا يمكن ان تتحقق إلا ضمن نطاق شيء اسمه الاجتماع. وانت كفرد منفصل كل الانفصال عن الاجتماع لا يمكن ان يكون لك من الوجود الانساني حظ الا حظ الإمكانية من الوجود.

ولا تصبح الامكانية حقيقة، ولا يصبح الفرد الذي هو انسان بالقوة إنسانا بالفعل إلا بالفعل إلا متى اصبح مجتمعا.

«المجتمع يقول سعاده هو الوجود الانساني الكامل والحقيقة الانسانية الكلية». ومن لا يحتاج الى الاجتماع ولا يصلح له يقول أرسطو إما آلة او وحش ولكنه ليس إنسانا.

هذا التشديد على المفهوم الاجتماعي للفرد يخرج بالانسان فورا من الفردية القتالة التي سادت مجتمعنا، ويثبت الخصائص والصفات والخطوط النفسية والروحية للمجتمع التي يستمد منها الفرد نفسيته الاجتماعية وخصائصه القومية التي تميزه عن أبناء الأمم والمجتمعات الاخرى. وبهذا المفهوم تنجو نفس المرء من ذلك الشعور الذي لابد ان يستحوذ على نفوس الفرديين في بعض ساعات التأمل، إذ يتحقق احدهم بأنه يرى ولا يرى، يسمع ولا يسمع، يحس ولا يحس، وكأن الله قد ختم على قلبه وسمعه وبصره غشاوة، وينعدم لديه كل احساس صميمي بدفء الحنين وحرارة اللهفة وجمال الحب ثم لا يجد في ذهوله المسيطر إلا طريق العيش الحيواني الرخيص مستسلما لما هو فيه من فناء محيق. بذاك المفهوم الاجتماعي للفرد تتضح له طريق الشفاء من هذا الشقاء المميت الذي لا بد ان تنتابه الرغبة الملحة للخلاص منه، فينشط للحياة ويحسن منه السلوك ويتقن العمل الذي يصبح لا مجرد وسيلة للارتزاق او اسلوب من اساليب الاحتيال بل جهدا اجتماعيا يتحتم أداؤه ليزدهر المجتمع فيشمل الخير الذي يعمه الفرد هو منه.

اجتماعيّة القيم

واذا كان الانساني هو الاجتماعي بالضرورة، فإن القيم الانسانية هي قيم اجتماعية ايضا بالضرورة، بمعنى انها لا توجد ولا يمكن ان توجد إلا في المجتمع، ولا تكون إلا به وله.

وهذا النظر ينتهي بنا الى ان كل اختزان للقيم او احتكار لها خروج على الانسانية الصحيحة. واذا ذكرت القيم في الحياة الانسانية كان الحق في طليعتها. «اعرفوا الحق والحق يحرركم».

هل انتابك مرة داء القعود عن الثورة لما تعتقد انه حق، وعدم الاندفاع لانتصار افكارك في المجتمع؟ إذن هو فساد نظرتك الى الانسان والقيم الانسانية، فساد لا تعرف معه بعدئذ معنى من معاني الصراع ولا معنى من معاني الحرية. والحق يقول سعاده «لا يفنى بفناء الفرد ولا يموت مع الفرد. الافراد يأتون ويذهبون ويكملون اجالهم ويتساقطون تساقط أوراق الخريف. أما الحق فلا يذهب معهم. ولكن شرطه في الانسانية ليكون حقا ان ان لا يعلن نفسه ويختفي، بل يمتد امتداداً لا يعرف الحدود على تعاقب الاجيال». لذلك نؤمن نحن بحق الانسان في البحث عن الحق والدعوة اليه والصراع من أجله في أتم حرية فتلك كلها من أهم عوامل اكتمال الذات الانسانية في الانسان، واذ تصبح مواهبه كلها للمجتمع ينفسح لنموها المجال فتزدهر وتثمر وتفيد، ويصبح مقام الحرية عنده حرية الافكار وصراع المثل مقام الحياة نفسها، ولا معنى دونها للحياة. في سبيلها ترخص كل تضحية ويهون كل عزيز ومن أجلها يحلو كل أذى ويلذ النضال ويطيب الاستشهاد.

المفهوم القوميّ ومضامينه

واذا كان الانساني هو كما قلنا الاجتماعي بالضرورة، فإن نظرة الحزب الى الواقع الانساني هي، أيها السيدات والسادة، انه واقع مجتمعات متعددة متنوعة، عملت على تعددها وتنوعها عوامل كبرى مستمرة عبر الاجيال المتطاولة حتى اصبح التعدد والتنوع أمرا قد يستحيل الخروج عليه. الى أي مجتمع من هذه المجتمعات المتباينة النفسيات، المختلفة المصالح المادية والمطالب الروحية والثقافات والحضارات، انتمي؟

ما هي حدود المتحد الاجتماعي الذي يضمني وفيه قد حصل عبر أجيال التاريخ المتطاولة الاشتراك الاتم في الحياة بين الناس الذين اعايشهم؟

ما هي حدود هذه الوحدة الانسانية الخاصة المميزة عن سواها من الوحدات الانسانية التي لم يكن لي في الانبثاق منها اختيار ولا في الانتماء اليها ارادة؟ ما هي حدود هذا الكائن الازلي المستمر الوجود المستمر الفعالية الذي له فيَّ من الاثار ما قد أعلم وما لا أعلم ولكنني لا أستطيع مهما حاولت ان انكره او انفلت منه؟ من نحن؟ ما هي باختصار أمتي، الأمة التي انا ابنها كما انا ابن والدي؟

بهذه الاسئلة تواجه عقيدتنا الاجتماعيـة المواطـن، وههنا تبرز ما ندعوه قومية هذه العقيدة التي لا انفصال لها عن اجتماعيتهـا لأنهما مترابطتان ترابط المقدمة والنتيجة. وههنا يبرز ما قصد اليه سعـاده في كتابه الى الاستاذ حميد فرنجية حين أشار الى انصرافه لتعيين معنى الأمة، وانتهائـه بدروسـه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الى تعييـن امته تعيينا مضبوطا بالعلوم المتقدمة، وانفراده بذلك عن الذين اشتغلوا للحريـة والاستقلال مطلقين واشتغاله هو «لحرية امته واستقـلال شعبـه في بلاده».

لا يتسع المجال في هذه الدقائق للخوض التفصيلي في مبحث الأمة، معناها وكيفية نشوئها وتطورها على اطلاقه. حسبنا ان نقول ان صاحب الدعوة القومية الاجتماعية قد قام في هذا الموضوع بالمحاولة العلمية الجليلة الاولى في اللغة العربية إذ أخرج كتابه العظيم «نشوء الامم»، وحسبنا ان نقول ان نظرة الحزب في هذا الموضوع تقوم على ان البيئة الطبيعية المميزة عن سواها من البيئات الطبيعية على هذه الارض، هي ذات الاثر الاكبر في تحديد المجتمع بحدوده الجغرافية بما قد ضمنته عبر اجيال التاريخ المتطاولة للذين يعيشون في داخلها من الاشتراك الواسع العميق في حياة الجسد والعقل، في الحياة المادية والروحية وبما انها حالت دون اشتراك المجتمعات الاخرى التي تعيش خارجها، في حياة الذين يعيشون ضمنها. وهذه البيئة الطبيعية المميزة، هذا الوطن، يطبع المجتمع بآثار مادية وآثار معنوية خاصة لا يمكن ان تمحى إلا حين يتم التواصل البشري الكامل وينتفي تنوع المجتمعات مما لا سبيل الى تحقيقه إلا في أمد بعيد للغاية. ومهما بلغ من الصحة القول بالتيارات الفكرية العامة الجامعة للبشرية وانهيار الحواجز الجغرافية الطبيعية وتضاؤل أثرها بازدهار المواصلات فإن أحدا لا يستطيع الادعاء ان من شأن ذلك ملاشاة كيان اجتماعي في كيان اجتماعي اخر،ملاشاة امة في امة. ان الاثار المادية والروحية التي عمل تعدد البيئات الجغرافية في الارض على ترسيخها في المجتمعات المختلفة باختلاف البيئات لا تزال رواسبها في نفسيات الامم بالغة العمق، فضلا عن استمرار التنوع والتصادم في مصالح هذه الامم.

يتبع جزء ثالث أخير الثلاثاء المقبل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى