صقيع اللغة وسؤال الكتابة؟

رامي أبو شهاب

يحتمل سؤال الكتابة فيضاً من التأويلات، وربّما الكثير من السذاجة، ولكنني في طرحي لهذا السؤال، أنطلق من تصوّر افترضي، بدأت أستشعره من استقرائي للمشهد الإبداعي، من مبدأ القراءة الباحثة عن المتعة، ومعنى التوهّج.

ومع الوقت بدأت أستشعر تراجعاً في هذا المبدأ المهم، وبالتحديد من حيث قدرة الأدب، أو الكتابة الإبداعية على إثارة مشاعر، أو أفكار يمكن أن تتمكن من عقلي ومخيّلتي، وكانت ثمة تداعيات بدأت تُحدث أثرها على مفهوم الأدب بوصفها فنّاً إنسانياً، بدأ يخرج من هذا التوصيف ليتحوّل إلى ممارسة جافة، تحتمل شيئاً من الغرور، أو لكونها باردة لا تحمل أدنى قدر من الدفء الإنساني.

وهنا أشير إلى قيمة الحسّ العاطفي للمتلقي الذي بدأ يشعر بأن عالمه اللغوي المتخيل بلا مشاعر، ولا ينطوي على دفء، فاللغة فقدت حميميتها، فالكتابة غير قادرة على توليد جملة لغوية تتسمّ بمواصفات الصدق الشعوري، فاللغة خشبية، أصابها الصدأ والتكرار، ربما لأن عالمنا وأفكارنا ومشاعرنا معلّبة وجاهزة، وهذا ما ينقلنا إلى العودة الخاصة بأسئلة الأدب بتكوينه المبدئي، أو البدائي. بمعنى آخر شكله الخام، وأسس وجوده، ولأنتقل إلى منحى نفسي يتصل بأن الارتداد إلى التكوين الحقيقي لمعاني الأشياء، ينتج عند التعرض لصدمة ما، فعندما يصدم العالم أو البشر بكارثة ما، أو عندما يتعرّض الإنسان لصدمات عنيفة، فإننا نفقد كل شيء، إذ تتبدل قيمنا، فنبدأ باستعادة قيمنا القديمة، بما في ذلك أحلامنا، وألعابنا وكتبنا، وحتى لغتنا، وهذا ما يعني أننا في طور النكوص والارتداد، وهي ظاهرة غير صحية، كوننا أصبحنا غير قادرين على تجاوز أزمتنا، فننحصر في اللغة، ونعيد تكوينها بما يجعلها وسيلة للشفاء، حسب تعبير جاك لاكان.

كيف لنا أن نعيد الأدب إلى نبضه الحقيقي ليمسي جزءاً مدمجاً في مخيلتنا وأفكارنا ومشاعرنا؟ أو أن يعود ليتحول إلى صيغة أساسية في تعريفنا للإنساني، أو إنسانيتنا، وهذا ربما يمضي بنا لنطرح أسئلة عن حقيقة تلاشي هذا المنحى الشعوري من الأدب، بحيث تحول إلى صيغ لا متجانسة من الأفكار، وتراجع القيم الشعورية نظراً لأن المشاعر التي يتكئ عليها الكاتب لم تختبر، ولم تعاين، ومع فقدان الصنعة أو الموهبة يتحقق الانتكاس اللغوي، فتجاربنا غير ناضجة، ولغتنا التي نكتبها لا تعنينا، كوننا أصبحنا لصيقي المبدأ المباشر أو الآني للتلقي، وذلك من قبل القراء الذين فرضوا على المبدع حضوراً ثقيل الظل، حيث بدأ الكتّاب يكتبون وهم يتمثلون ميكانيكية التلقي الحدثي والآني، القارئ المُشهر تعليقه على ما نكتب، في حين أننا نسعى لملاحقة معارض الكتب بوصفها حاملة لقيمنا الإبداعية النادرة، كما أننا نقيس حقيقتنا عبر مبدأ الترويج لكتبنا، أو للكتب التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة ما، وهذا في مجمله يجعل من الكاتب فاقدا للجرأة، تابعاً لقارئ ربّما يكون ناضجاً، أو على العكس من ذلك.

وهنا أستعيد على سبيل المثال تلك الصيغ الشّديدة التميّز، والصدق في الرسائل التي تبادلها كل من غسان كنفاني وغادة السمّان، أو رسائل حنة أرندت والفيلسوف الألماني هيدغر، بكل ما يختزنها من نبض إنساني، قوامها قصة حب امتزجت مع الزمن، ونأي المكان، وإشكاليات السياسة والأفكار.

أستحضر في السياق عينه رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان، والضجة التي أثيرت حولها، غير أن هذا الكتاب ربما قد شكّل نموذجاً يندر أن يوجد في الأدب العربي الذي يتسم بالجفاف والتورية، وعدم القدرة على تكريس خطاب واضح، وبوجه خاص عند الاقتراب من منطقة السّيرة وأدب الرسائل. ميزة كتاب رسائل غسان كنفاني أنه يتسم بالعنف اللغوي الإيجابي، أو القائم على تجربة عاطفية شعورية حقيقية، لقد حولت الرسائل غسان كنفاني من المستوى الرمزي النضالي لأديب ملتزم إلى المستوى الرمزي الإنساني بتناقضاته المعلنة، لقد جعلت هذه الرسائل غسان كنفاني بوصفه الإنسان الفلسطيني وضعفه، وحيرته أمام ارتباكات الوجود، والحب، أضف إلى ذلك ضغط الواقع النضالي، لقد صاغت تلك الرسائل صورة مغايرة للتمثيل الرمزي المتخيل في الذهن، وهذا شكل خرقاً للوعي، أو الوعي مسكون بالمؤسطر والمؤدلج، في حين أنه لا يقيم وزناً للعفوي والإنساني، كما أن الرسائل احتفت بنبض إيقاعي يتسم بتجسيد غسان في حضوره، وهو يصوغ وعيه في الأمكنة والأزمنة. رجل نخره مرض السكري، وقتلته السجائر التي جعلت صدره أقرب إلى زجاجة مضغوطة كما يقول، غير أن رسالته التي كتبها لأخته فايزة، ليقرر في ما بعد أن يرسلها لغادة السمان، تعدّ من أعظم الكتابات التي تندرج في هذا النوع من الكتابة، كونها اختزلت لحظة صدق بلا ضجيج، كما أنها حفلت بأسلوب مميز، وأعني المزج بين الإنساني والذاتي، وبينهما قام الضعف الإنساني ليكون سيد اللغة، أو صورة لإنسان تمثلت بلمحة كولاج لغوية. لغة متوترة لإنسان تتنازعه العوالم، ليتجلى النبض الإنساني، ويتعالى الألم، والسخط، شعور لن يغفره القارئ لغسان كنفاني، ولاسيما أنه لم يعتد هذا الدفق الشعوري في نص عربي، ربما لامسه امرؤ القيس، وبعض الكتابات المعاصرة النادرة جداً.

ومن النماذج التي نستشعر فيها موقفاً وجودياً يطال الإنسان بتكوينه الفلسفي المجرّد، رسائل «هيدغر» لـ»حنة أرندت»، التي تمثل ترجمة عميقة لقيم فلسفية آمن بها هذان الفيلسوفان، فانعكست على رسائلهما، كما كتاباتهما، وتفكيرهما. إن قصة الحبّ التي جمعت «هيدغر» و»أرندت» حافلة بالمفارقات، هيدغر المتزوج، وصاحب الإنتماء والإرث النازي، «أرندت» بوصفها يهودية، وامرأة متزوجة، وطالبة سابقة للفيلسوف الكبير، ومغادرتها لموطنها إلى الولايات المتحدة الأميركية، في حين أنها ما زالت متعلّقة بألمانيا و»هيدغر»، هذا التعقيد نراه منعكساً في اللغة التي حفلت بها تلك الرسائل، والتي شكّلت صيغة شديدة الخصوصية، ولا سيما تلك الرسائل التي يتبادلها الكتاب أو المبدعون، فقيمة الامتلاك لن تتحقق على الرغم من الحب، يقول «هيدغر» لحنة ولكن في تعبير رمزي عن تمثلات الإرادة في العلاقة: «لن أستطيع امتلاككم أبداً، لكن ستنتمين من الآن فصاعداً إلى حياتي، وسينمو هذا الأمر فيكم». وفي مكان آخر يتمنّى «هيدغر» لو أنه ألتقى بـ»حنّة»، وهي في الثالثة عشر محاولاً تخمين كيف يمكن أن يعاد صوغ الوجود»، في حين أنه يطلب بشكل أقرب إلى التضرع أن تهدي له بعض الكلمات، هذا الصوت العميق المقبل من روح «هيدغر» شبيه بصوت غسان كنفاني وهو يقول لغادة السمان «أما أنت فقد دخلت إلى عروقي وانتهى الأمر، إنه لمن الصعب أن أشفى منك».

لا شكّ في أن الكتابة عن الإنسان وضعفه سواء تجاه الحب، أو المرض، وفقدان الوطن، وغير ذلك ما هي إلّا ثيمات، وكلّما ازدادت قيمة البحث عن مفاصل، وثنايا هذا الضعف الإنساني ارتفعت حدّة التكوين الفنّي للكتابة، كونها تتداخل مع جدليّة الفكر والعاطفة والشعور، فكلّما بدت الحقائق عميقة والعواطف صادقة بدت اللغة في أفضل حالاتها، والتكوين والهندسة المعمارية للنصّ أو للجنس الأدبي، لعلّها صادمة ككتابات جورج باتاي وميلان كونديرا، التي تظهر أكثر قدرة واحتمالاً للتعبير عن وطأة الكتابة، وبوحها وصدمتها ودهشتها التي بدأت تتسرّب من لغتنا التي بردت، وفقدت الكثير من حرارتها ووهجها.

كاتب فلسطيني أردني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى