الأول من آذار.. انبعاث نهضة بنظام فكري متين

حافظ يعقوب

بإطلالة الأول من آذار عيد مولد سعاده، الذي بجهاد عزّ نظيره، أسّس نهضة بنظام فكري متماسك شكلت فرادة في أمتها وفي العالم، بنظامها وتنظيمها اللذين لم تهزّهما الصعوبات وأزمنة المحن، بل زادتهما واقعية وصدقية وتماسكاً، خاصة استمداد النهضة روحها من مواهب الأمة وتاريخها السياسي والثقافي والقومي. والمواهب لمعات عظيمة يحملها عظماء وقيمتها أن تتجلى نظاماً وتنظيماً وفعل إبداع وتقدم وسموّ.

وكلّ الجماعات والشعوب المتمدّنة تُخلِّدُ عظماءها الذين ساهموا في إعلاء شأنها وتحرص على إبقاء ذكراهم حية في وجدان أجيالها المتعاقبة وعقولها، ولا تشذ عن هذه القاعدة إلا الجماعات الغبية التي تفعل بعظمائها كما يفعل الصغار بلُعبِهم ودُماهُم، يحطّمونها ثم يبكون طالبين غيرها.

إنّ الذاكرة الإنسانية ملأى بأسماء النساء والرجال ممن كان لهم دور كبير في تغيير مجرى حياة شعوبهم، بل في تغيير الحياة الإنسانية في جوانبها كلها: في الفلسفة والأدب والفنون والسياسة والقانون والتشريع والعلوم الحربية والاختراعات العلمية والطبية وغيرها، ومنهم من كنَّ وكانوا بطلات وأبطالاً شهيدات وشهداء قادوا شعوبهم من العبودية إلى عالم الأمم الحية الحرة أو كانوا مثالاً أعلى لأبناء جلدتهم في وقفات العزّ والشرف.

من هنا، هل كان لأحد منا أن يتصوّر، أنه لولا حرص الجماعات والشعوب على تخليد عظمائها، هل يمكن أن نتصور أن يستمر استذكار واستحضار شخصيات معينة لمئات بل آلاف السنوات؟ لولا تخليد الشعوب لعظمائها هل كنا ما نزال نسمع حتى اليوم بسقراط، وأرسطو، وحمورابي، والإسكندر المقدوني، وبيتهوفن، ووليم شكسبير، وفريدريك نيتشه، وزنوبيا، وفيروز، وهنيبعل، ويوسف العظمة، وسرجون الأكادي، ونابليون بونابرت، وإبراهيم لينكولن، وجورج واشنطن، وجان دارك، وتشي غيفارا، ونيلسون مانديلا، وفيدل كاسترو، وسعيد العاص، وجبران خليل جبران، وغيرهم؟ فخلف كلّ إسم من هذه الشخصيات، أحببتها أم لا، وافقتها أم اختلفت معها، سيرة حياة مليئة بالأفكار والأعمال التي كان لها دور كبير في تغيير صورة الحياة في مجتمعاتهم التي ينتمون إليها وربما في العالم أيضاً.

في هذا السياق من المنطق التساؤل: هل كان أنطون سعاده من الرجالات والشخصيات التي يحقّ لأبناء شعبه أن يدرجوا أسماءها في سجل الخالدين؟

إنّ الإجابة على هذا التساؤل تستلزم منّا تجرّداً من المواقف والتصورات المسبقة والالتزام بمنهج علمي أخلاقي هو المنهج الذي يفصل الخصومة الفكرية والسياسية عن سياق الأحكام العاقلة والموضوعية.

إنّ نظرة أولية إلى ما دوَّنته الأقلام عن أنطون سعاده تظهر لنا أنّ أشدّ الخصوم الفكريين والسياسيين له لم يستطيعوا الفرار من الاعتراف أنّ أنطون سعاده كان شخصية فريدة وأبدى تميزاً منذ طفولته.

فمَن هو أنطون سعاده الذي انقسم أبناء الهلال الخصيب حوله بين مؤيد ومعارض وبين مريد وخصم؟

أنطون سعاده الطفل المكافح والمقاوم

وُلد أنطون سعاده إبان الاحتلال العثماني في لبنان في الأول من آذار عام 1904 لأب مفكر وعلامة وطبيب ومناضل وطني هو الدكتور خليل سعاده. اضطر والده للهجرة من لبنان عام 1909 ولم يكن قد تجاوز عامه الخامس، فقد والدته في العام 1913 فعاش برعاية جدّته التي توفيت عام 1915 وكانت الحرب العالمية الأولى على أشدّها وما رافقها من جوع وفاقة وويلات، فوجد نفسه أمام مسؤولية كبيرة وهي رعاية إخوته. وفي العام 1916 كان أنطون سعاده طالباً في مدرسة برمانا عندما قرّر جمال باشا السفاح زيارة المدرسة فرفض أنطون سعاده ابن الاثني عشر عاماً أن يرفع علم الاحتلال التركي في حضرة السفاح، وقال لأستاذه: «شخص هتك أمتي لا أرفع رايته». وعندما انهزم الاحتلال العثماني في نهاية الحرب العالمية الأولى كان سعاده أول من تسلّق السارية وأنزل العلم التركي عنها ومزّقه أمام جنود الحامية التركية التي لم تكن قد غادرت المنطقة بعد. وفي العام 1919 قاد أنطون سعاده إخوته في رحلة قاسية للحاق بوالدهم الدكتور خليل سعاده الموجود في أميركا اللاتينية وبعد سنتين اجتمعوا به في البرازيل. وهناك عمل أنطون سعاده في رصف الحروف في المطبعة التي يملكها والده ويديرها. وإلى جانب عمله في المطبعة اشتغل انطون سعاده على تعليم نفسه فانكبّ على المطالعة والدرس حتى أصبح يتقن لغات أجنبية عدة كالإنكليزية والفرنسية والبرتغالية والروسية والألمانية طبعاً، بالإضافة إلى لغته العربية. ثم بدأ ينشر في الجريدة التي يصدرها والده مقالات معرّبة ترجمها بنفسه وأول مقال نشره كان بعمر السابعة عشرة.

أنطون سعاده الشاب المغترِب المسكون بالهمّ القومي

على الرغم من وجود أنطون سعاده في بلاد الاغتراب بعيداً عن وطنه وشعبه، إلا أنه بقي مسكوناً بالهم القومي ويفكر كيف يمكنه أن يعمل لتخليص شعبه من الويلات التي ألمَّت به فسأل نفسه ذلك السؤال: «ما الذي جلب على شعبي كلّ هذا الويل»؟ حتى لا يكاد يهرب من دبّ الاحتلال التركي حتى يقع في جبّ سايكس بيكو والاحتلال الفرنسي البريطاني والانقسام العرقي والطائفي والمذهبي. ولهذا فكّر سعاده بلمّ شمل السوريين في بلاد الاغتراب وحثهم والعمل معهم لنصرة شعبه في نضاله من أجل نيل الحرية والاستقلال من الاحتلال. ولذلك أسّس مع مجموعة من الشباب المغتربين السوريين الجمعية الوطنية السورية عام 1925 ثم انسحب منها وأسّس حزب الأحرار السوريين الذي كانت أهم مبادئه: سيادة الأمة السورية على نفسها، وتوحيد البلاد السورية ضمن حدودها الجغرافية المعروفة، وفصل الدين عن السياسة والدولة السورية، ومكافحة الطائفية، واعتماد القوة لنيل الأمة السورية حقوقها وبلوغها أهدافها.

وعلى الرغم من الشهرة التي وصل إليها أنطون سعاده في بلاد الاغتراب نتيجة عمله في الترجمة والصحافة والتدريس في أكثر من كلية في البرازيل الكلية السورية البرازيلية والكلية الوطنية للعلوم والآداب ، إلا أنه رأى أنّ العمل الحقيقي الذي يخدم به وطنه وشعبه هو العمل الذي يكون في الوطن نفسه لا في المغترب، ولذلك قرّر العودة إلى الوطن لتأسيس حزب فيه على قواعد علمية ومبادئ تكفل إنقاذ البلاد من الويلات التي حلّت بها. وفعلاً عاد إلى الوطن في العام 1930 متخلياً عن كلّ النجاحات والمغريات التي توفّرت له في المهجر.

أنطون سعاده عالم الاجتماع

«ما الذي جلب على شعبي هذا الويل». كان هذا السؤال الأول الذي طرحه أنطون سعاده على نفسه منذ كان طفلاً عندما رأى الويلات التي حلّت بشعبه والمعضلة السياسية المزمنة التي تدفع شعبه من «ضيق إلى ضيق فلا تكاد تنقذه من دب إلا لتوقعه في جب»، ثم سأل نفسه سؤالاً جوهرياً آخر: «مَن نحن وهل نحن أمة حية»؟ وحتى يتسنّى له تعيين أمته تعييناً مضبوطاً بالعلوم، راح يدرس ويبحث في كيفية نشوء الأمم عامة، وفي نشوء أمته خاصة، وانتهى به البحث والدرس إلى تأليف كتابين: الأول هو «نشوء الأمم» ويُعتبر مرجعاً في علم الاجتماع وتعريف الأمة تعريفاً علمياً، والكتاب الثاني هو «نشوء الأمة السورية». والكتابان ألّفهما سعاده أثناء وجوده في سجون الاحتلال الفرنسي بين عامي 1935- 1936 إلا أنّ السلطات الفرنسية صادرت وثائق الكتاب الثاني ولم تُعِدْها حتى الآن.

أنطون سعاده الفيلسوف

كان أنطون سعاده فيلسوفاً وصاحب نظرة جديدة إلى الإنسان وإلى الحياة والكون والفن وإلى قيم الحق والخير والجمال وأسّس فلسفة جديدة هي الفلسفة المدرحية التي يرى أنها تعبر عن حقيقة الوجود القائم على التفاعل الموحّد الجامع للقوى الإنسانية المادية الروحية. وهي الفلسفة التي تنقذ العالم من الصراع القائم بين الفلسفات المادية التي ترى الوجود وجوداً مادياً فقط وتسعى إلى إلغاء الروح من جهة، وبين الفلسفات الروحية التي ترى الوجود وجوداً روحياً يتجلّى باشكال مادية. هذا الصراع التي أدى إلى كوارث كبيرة، فسعاده يرى أنّ أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مادي – روحي مدرحي فلا المادة تستغني عن الروح ولا الروح تستغني عن المادة.

أنطون سعاده باعث النهضة السورية القومية الاجتماعية:

عندما سأل سعاده نفسه «ما الذي جلب على شعبه هذا الويل؟» و«من نحن؟» ومن ثم حدّد أمته «سورية»، تحديداً مضبوطاً بالعلوم، رأى أنّ سبب الويلات التي حلّت بشعب أمته هو فقدانها للسيادة القومية وغياب الوعي القومي لدى أبنائها، ما أدّى إلى غرقها في حالة لانهضوية – حالة الوقوف بين الحياة والموت – عنوانها الانقسام والضعف والتشتت وفوضى العقائد وتناقض الانتماءات والولاءات والاتكالية والنزعة الفردية وفقدان الإرادة والاستقلال المادي والروحي. لذلك عمل على «اختطاط طريق نهضة قومية اجتماعية جديدة تكفل تصفية العقائد القومية وتوحيدها وتوليد العصبية الضرورية للتعاون القومي في سبيل التقدّم والدفاع عن الحقوق والمصلحة القومية». وحتى يتسنّى له بعث هذه النهضة بشكل عملي ينقلها من حيّز الأفكار إلى حيز العمل ويضمن حمايتها أسُس الحزب السوري القومي الاجتماعي ووضع له مبادئه الأساسية والإصلاحية وحدّد له غايته التي تعبر بشكل مكثف عن الأهداف التي يسعى الحزب إلى تحقيقها وهي: «بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً وتثبيت سيادتها، وإقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها، والسعي إلى إنشاء جبهة عربية».

شكّل أنطون سعاده نموذجاً وقدوة للجيل الجديد في الأمة السورية فهو الشاب السوري الذي لم يركن لمفاعيل حكم التاريخ الذي تفرضه القوى المتسلّطة في العالم على أمته، بل اختطّ لنفسه منهجاً مقاوماً طامحاً للارتقاء بمجتمعه. من هنا فإنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ تأسيسه شكل بمبادئه وغايته ونظامه الفكري والعملي والأخلاقي عامل جذب للشباب المعرّضين للتفرقة بين عوامل الفوضى القومية والسياسية المنتشرة في البلاد السورية الطامحين أن يكون لهم دور حقيقي في الخروج بأنفسهم وبأمّتهم من وضع الانحطاط والسكون والتراجع إلى وضع النهوض والحركة والتقدّم، ومن وضع الفوضى الهدامة إلى وضع النظام البنَّاء.

أنطون سعاده الزعيم والقائد القدوة

يعرّفنا التاريخ المكتوب على الكثير من الشخصيات التي تخلّت عن مشاريعها الفكرية والسياسية تحت الضغط والاضطهاد، إلا أنّ أنطون سعاده شكل حالة فريدة من أصحاب المشاريع التغييرية التي تتحدّى الواقع وتذهب بهذا التحدّي إلى أقصى ما يمكن للمواجهة أن تصل إليه. فهو واجه الاحتلال الفرنسي وتعرّض للاعتقال والسجن والمحاكمة على أيدي الفرنسيين المحتلين أكثر من مرة في السنوات الأولى لتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو ما يزال شاباً يافعاً، لكنه واجه الاعتقال والمحاكمة بشجاعة القائد وحوّل محاكماته محاكمات للاحتلال الفرنسي وسجل انتصارات سياسية كبيرة لصالح شعبه ووطنه. وهو القائد الذي غامر بنفسه، بالرغم من المخاطر العالمية ليجول على الجماعات السورية المنتشرة في المهاجر والمغتربات ليقنعها بقضية حزبه ونصرتها. وهو الزعيم الذي وهب نفسه لأمته وضحى بوقته وماله وصحته في سبيل حزبه. هو أنطون سعاده القائد الذي عملت السلطات الفرنسية واللبنانية على منعه من العودة إلى بلده خوفاً منه، لكنه عاد متحدّياً مخاطر الاعتقال والاضطهاد. هو أنطون سعاده الزعيم الذي زحفت جموع القوميين من البلاد السورية كلها في لبنان والشام وفلسطين والأردن والعراق لاستقباله في مطار بيروت حين عودته في آذار 1947، من الاغتراب القسري، في مظهر أرعب السلطات اللبنانية فقرّرت القضاء عليه والتخلص منه. هو القائد الذي أعلن الثورة القومية الاجتماعية الأولى عام 1949 ضدّ الاضهاد والظلم الذي مارسه النظام اللبناني بحق الحزب السوري القومي الاجتماعي. هو الزعيم الذي اجتمعت عليه الدول المتآمرة على سورية والحكومات العميلة في الكيانات السورية والدول العربية للتخلّص منه وقتله. هو القائد الذي واجه الإعدام بعد محاكمة صورية بشجاعة قلّ نظيرها. هو الشهيد الذي أرعب السلطات اللبنانية بينما هو جثة هامدة في تابوت.

خاتمة

هكذا، ما أن يطلَّ الأول من آذار، حتى تتعالى الأصوات والآراء التي توجّه الانتقاد للسوريين القوميين الاجتماعيين المحتفلين بذكرى مولد مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده، وتذهب بعض هذه الانتقادات إلى حدّ توجيه الاتهام للقوميين الاجتماعيين بأنهم وقعوا في فخ الصنمية وتقديس الشخص لا بل عبادته. وإذ إنني لا أبرّر لبعض المؤمنين بفكر أنطون سعاده مغالاتهم العاطفية في التعبير عن نظرتهم له وعلاقتهم به حتى ليُظَنُّ فعلاً أنهم يضعونه في مقام الأنبياء والآلهة، فإنني في الوقت نفسه لا أفهم اعتراض البعض من غير القوميين الاجتماعيين على إحياء ذكرى مولد سعاده.

إنّ نظرة سريعة وسطحية إلى مسيرة حياة أنطون سعاده، ولإنتاجه الفكري ومؤلّفاته التي تسنّى جمعها في أكثر من ستة عشر كتاباً، وهو إنتاج كبير بالمقارنة مع حياة لم تتجاوز الخمسة والأربعين عاماً، تجعلنا نتساءل: مَن هو هذا المدعو أنطون سعاده؟

وبعد نظرة معمّقة ودقيقة لمدى التأثير والتغيير الذي أحدثه أنطون سعاده في سورية والعالم العربي والعالم يصبح جوابنا متيسّراً على السؤال: لماذا يحتفل القوميون الاجتماعيون بذكرى مولد أنطون سعاده؟

عميد في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى