فتى آذار قدوةً في أدب محمد يوسف حمود

د. لؤي زيتوني

لا ريب أنّ الإشعاع الذي أطلقه مطلع آذار قد اتسع ليشمل الساحة الثقافية ووجهها الفاعل في بلادنا، وقد يكون أحدث التغيير العملي لوجه التاريخ في هذا المجال، فكان بحقّ الفجر الذي هزم الظلام ورسم لنا طريق النهار. ولعلّ ما يمكن تأكيده هنا، أنّ هذا الإشعاع قد أسّس لتطوّر الفنون في بلادنا وإدخالها في مسار الحداثة، إنطلاقاً من الموسيقى والغناء، مروراً بالمسرح والفن التشكيلي، وصولاً إلى الأدب عموماً، والشعر خصوصاً… وعلى المستوى الأخير، نجد الحضور القيمي والفني لسعاده في قافلةٍ من الشعراء الذين أطلقوا تيار الحداثة مساراً سيبقى متواصلاً ومتصاعداً. وهنا يمكن أن ننظر إلى محمد يوسف حمود بوصفه واحداً من أفراد هذه القافلة الذين مثلوا القيم السعادية أو الآذارية.

قليلاً ما نجد شخصيةً جعلت التمرّد سلوكاً أصيلاً فيها، أو عنصراً مكوّناً لها، في عصرٍ يتسم بالاستسلام التامّ لسلطةٍ عظمى متعدّدة الأوجه، تبدأ بالهيمنة الاستعمارية المباشرة، عسكرياً وسياسياً، وتمرّ بالهيمنة الاقتصادية التي تؤمّن تحكماً بالشعوب إلى مدى أطول، انتهاء بالهيمنة الثقافية التي تمحو الهويات وتقزم القضايا. ولعلّ أوجه هذه السلطة لا تنتهي عند هذا الحدّ، إذ تتجلى في نماذج مصغّرة لها مستمِدّةٍ وجودها واستمراريتها منها، وقد تصغر مساحة نفوذها وتتنوّع، بين دكتاتور هنا وحليف هناك، ومتموّل هنا ومأجور هناك، وصولاً حتى إلى حكمٍ «وطني» يؤمن جانبه ليسلم شعبه إلى التخلي عن القضية شيئاً فشيئاً، وقمعه بشكلٍ بعيدٍ عن الإعلام.

وفي ظلّ وضع كهذا، تصعب رؤية شخصيةٍ قادرةٍ على المواجهة بثقة عالية وإيمان عميق، دون خوف من تعذيب أو قتل أو تجويع. لأنّ ذلك يتطلب نفساً كبيرة، وعقيدة خالدة راسخة وموهبة فذة. وهنا نهتدي إلى شخصية الشاعر محمد يوسف حمود، التي تتصف بالجرأة على كشف الحقيقة، وانتقاد موضع الخلل ومحاربته، وهذا كله بالاستناد إلى فكر ناهض وقوي يضيء الطريق لخلاص المجتمع.

وتظهر معالم هذه الشخصية في نظرة حمود إلى وطنه، الأمر الذي يتضح من خلال قوله: «إنه الوطن الذي ميّزته الطبيعة عما سواه من الأوطان، منذ أن برزت اليابسة من تحت الغمر في بدء التكوين، وشاءه التاريخ بيئة لمجتمع متّحد مستقلّ عما سواه من المجتمعات، ومهداً لميلاد العقل ونشوء الحضارات، وصوتاً لإيقاظ العالم من السبات وإنقاذه من ظلمات الجهالة»1.

ومن الطبيعي أنّ من يدرك حقيقة وطنه ودوره بوضوح وعمق، بعيداً عن الشعارات الزائفة والادّعاءات الفارغة، سيكون انتماؤه إليه أقوى وأصدق، ما يدفعه إلى رفع صوته ليحذر من الأمراض المعششة فيه، والتي تتمثل في الطائفية والعنصرية والجهل والأنانية. وهذا ما نفهمه حيث يعلن: «وكان وطنكم يا صغاري إذ ذاك في غمرة من الظلمات الشاملة، تتوزّع أمتكم رياح صرصر هوجاء عاتية تهب من معاهد العلم الجاهلة المتجاهلة… فقد كانت للأجانب المستعمرين معاهد، وللإقطاعيين المتحكمين معاهد، وللطائفيين المتاجرين بالدين معاهد، وللعنصريين الاعتباطيين معاهد، وللأنانيين الفرديين معاهد، وللدجالين أنصاف الأميين معاهد… وكانت كلّ بؤرة من هذه الأجواء الوخمة تنتشر في شعبكم جراثيمها وتبث في بلادكم سمومها»2.

لكن عند هذا الحدّ، تبقى ثورته هادئة لم يعلن فيها تمرّداً كاملاً وهدفاً واضحاً. وهنا يعلن حمود عن المثال، أو بالأحرى القدوة التي يدرك معها الطريق الحقيقي الموصل إلى حرية الأمة ورقيّها. فقد وجد هذا العظيم أنطون سعاده الذي «في عقله التاريخ منذ الأزل، وفي عينيه امتداد الحياة إلى الأبد.. على جبهته وضاءة العلم، وبين شفتيه مضاء العمل، وفي صدره جناح خافق بالمحبة والإيمان»3.

ومن خلال هذه الصفات، استطاع الزعيم التأثير في حمود، فاندفع للمشي على خطاه، رفع سيف المجابهة والانتفاض، وبدأ بالهجوم على رموز النظام القائم وعلى ما فيه من أمراض وما يخبّئ من ظلم.

لذلك يبدأ بالعمل على مخاطبة الشعب ليثور على أولئك الذين يحكمون ويقمعونه، فصرح: «لقد آن أن تفتحوا لهؤلاء العتاق أبواب متحف التاريخ وتضعوهم هناك بين الآثار والمومياء الخالدة بصالحها وطالحها وسليمها ومشوّهها، عبرةً للمعتبرين ومرجعاً للمنقبين… وأطلالاً يوقف عليها الأبناء والأحفاد مطيّهم غداً ليقولوا: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»4.

ويبرز في هذه الفقرة قوله «العتاق»، ويقصد بها المتحكمون بحياة الناس نتيجة مظاهر مستمرة منذ عهود الانحطاط، فمن غير الخفي على الناس أنّ الاقطاعية التي باد زمانها نهائياً في العالم، لكن جهابذتها في بلادنا ما يزالون قائمين، وقل الأمر نفسه في الطائفية وغيرها… وما يترتب عن هذا من مفاهيم عدى عليها الزمن.

وبناءً على ما سبق، أطلق حكمه حول هؤلاء دون تردّدٍ أو وجل، فرأى أنهم سائرون إلى الزوال: «أما الجشعون العتاة القساة، ففي نيران خطبك سيحترقون»5.

فبعد أن كان يدعو الناس إلى رمي أصحاب النظام في المتاحف كشاهد على نهايتهم، ينتقل إلى اليقين من هذه النهاية فهي حتمية لأنّ صبر الأمة لن يطول كثيراً، وسينفذ حكمها فيهم. إنها أمة لا تفتقر إلى مقومات الحياة، ولكنها تفتقر إلى نهضة تعيد إليها أمجادها، وترفعها من حال الانهزام والتخلف نحو مصاف الأمم العظمى وعلى عاتق أديبنا دور إشاعة الوعي بهذه النهضة وفعلها الانبعاثي، وتوضيح دور أبناء الأمة فيها. ولهذا يعود لتوجيه الحديث إليهم، لأنه يريد الانتصار لأجلهم لا عليهم، في استعادةٍ لبعض مقولات سعاده، قائلاً بثقة: «احملوا مصباحي… وسيروا على هديه… تتجنبوا المهاوي والصخور.. والأفاعي والاشواك!»6

وفي هذا السياق، يرفض محمد يوسف حمود الاستكانة أو الراحة مهما حاول البعض إقناعه بالتراجع عن العمل الذي اختاره لنفسه. فهو يردّ بالإيجاب على أسئلة صاحبه: «رويدك.. ألا تدري أنّ للحيطان آذاناً؟ وأنّ للشيطان عيونا؟ وأنّ الغناء في الطاحون جنون؟ وأنّ سلطان القانون: كن.. فيكون؟»7.

ويتضح لنا أنه يدرك خطورة جرأته في قول الحقيقة، وما ينتج عن ذلك من اضطهاد وقمع. ولكنه مع ذلك يأبى السكوت، والاستسلام للخوف، لأنه متأكد من أنّ الذين يجابههم ليسوا بالقوة التي يظهرون بها. واستناداً إلى ذلك يكمل الحوار مع صاحبه:

«قال: وكيف تكتب، ولا تخشى؟ وكيف تقول، ولا تهاب؟

قلت: لي قلم مسدّد.. وعندي حروف كالرصاص.

قال: وتطلقها على نحاس؟

قلت: سلامة عينيك.. لا أرى إلا التنك!

قال: ولم لا ترتاح من هذا العناء؟

قلت: لا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه!»8.

ولا مجال للشك، من خلال هذا الكلام، أنه حسم أمره ولن يتراجع عن الهدف الذي اتخذه وهو تحرير المجتمع من النظام الفاسد والمتخلف. وهذا ما وضعه نصب عينيه طيلة حياته، فلم يكلّ أو يملّ حتى آخر رمق منها، وأخذ يشدّد:

«كلا ما سئمت تكاليف الحياة يا بني، فأنا لما أزل من أبنائها، أسير في مواكبها، فلا أسقط، وأحيا في خلودها، فلا أموت…»9

وهو بعد ذلك، لا يكتفي بهذه الحدود، لكونه يعاهد نفسه على تسليم الدور الملقى على عاتقه إلى جيل جديد يتميّز بإقدامه على المبادرة لمواجهة الأزمات والمآسي ورفع المعاناة عن الأمة بأسرها، انطلاقاً من أنّ معركة الأحداث هي التي تحدّد معركة المصير القومي، ما يعبّر عنه بالقول: «بعدئذٍ، تراني عدت إلى الصراع في جيل نحن أعددناه للصراع…»10

فمحمد يوسف حمود يعلن خلوده، من خلال الفكرة التي ينقلها إلى الجيل الذي يليه، والذي يعقد عليه كلّ الأمل في استمرار جذوة النهضة وانتصارها، منتهجاً نهج سعاده في هذا المجال. وذلك لأنه وُلد من رحم المعاناة والألم، وبالتالي فإنّ انتصاره سيكون عظيماً بقدرها، ولن يتجرأ على هذا الانتصار الدجالون وبائعو الكلام، وانسجاماً مع ذلك يُطلق نشيده المشهور:

«الجرح ينطق يا فمُ ودم الفدا يتكلُمُ

اخرس فإنك إن تكلـ متِ الزوابـع أبكمُ

ماذا يقول الحرف في الشفتين إذا نطق الدمُ»11

وفي ذلك نرى أنه يملك تموزيةً من نوعٍ خاص، تتمثل في الحضور الدائم لصور القوة والغضب والثورة، حتى في معرض الكلام عن التضحية. غير أننا عند النظر في نتاجات حمود بشكل كلي، نلاحظ أنّ كلّ ما تقدّم يهيّئ مجتمعاً لمواجهةٍ أهمّ، إذ أنّ تمرّده الواضح آنفاً يجعل هذا المجتمع متماسكاً مدركاً لمصالحه واعياً للأخطار المحيقة به. وعليه فإنه يتحوّل إلى تمرّد أعمّ يحدّد العدو المتربّص بنا ويواجهه، ليس فرداً، بل جماعةً، دون اللجوء إلى منهجٍ واحدٍ في هذا الصراع، إلا أنه يقوم بالتركيز على الجانب الأخطر منها وهو الذي يقتضي موجبات الدفاع عن هويتنا وانتمائنا. من هنا يرفض تبني المفاهيم التي يحاول المستعمر بثها فينا لنكون تابعين له، بوساطة مؤسّسات السلام والتثقيف المزعومة وشعاراتها. وهو ما نتوصل إليه من قوله:

«إذا كانت التربية والعلم والثقافة وتوابعها أدوات للبقاء على الخير والقضاء على الشر، كما أنكم تريدون، وادّعت دولكم أنها استعملتها وتدعو لاستعمالها، فحري بنا، نحن المشرقيّين، أن نمتشقها سيفاً وحديداً وناراً، في وجه إسرائيل الشريرة»12

وحمود يتابع في المقال نفسه، وضمن نفس السياق، ليوجه كلامه إلى مواطنيه:

«أيها المشرقيون الأحياء!

دعوا الأونسكو للأونسكيين وتعالوا بنا منذ الساعة نعلّم ونوجّه ونجدّ لتحرير فلسطين بل لتحرير المشرق وتحريرنا أجمعين من وطأة إسرئيل»13

فأيّ قرارات دولية وشعارات تصطبغ باللون الإنساني، لن تجعلنا نتردّد في حربنا ضدّ «إسرائيل». إذ صحيح أنّ العلم حسب الأونسكو وسيلة لتقدّم الشعوب ورقيّها والمحافظة على تراثها، لكن هذه الشعوب لا يمكن أن تتقدّم وتحافظ على تراثها دون أن تستخدم هذا العلم أو هذه الثقافة في سبيل القضاء على أيّ خطر، ودرء أيّ عدوان، وبعد ذلك يبدأ تحقيق ما تدعو إليه مثل هذه المؤسسات وليس قبله.

ومن هذا المنطلق، يتطرّق حمود إلى شخصية يسوع المسيح بوصفه أحد أعمدة هذا الصراع، وأكثر رمز من بلادنا قد تعرّض للتشويه على أيدي أعدائنا، إنْ من خلال الإصرار الوحشي على يهوديته، أو على إفراغه من قيمه الحقيقية التي كرّس رسالته لأجلها. لذلك كان اللجوء إلى هذا الرمز واجباً على الكاتب ليبيّن حقيقته، وحقيقة دوره الثقافي الحضاري. ولعلنا نبتعد أقصى ما يكون عن الادّعاء والمبالغة إذا قلنا إنّ هذا الدور الذي شكل خطراً أساسياً على هيمنة الطاغوت اليهودي ووجوده، هو السبب في استهدافه. لذا قام أديبنا معلناً:

«لا، لا تقولوا إني أشتط وأبتدع، فمسيحنا كان رسول المبادئ الإصلاحية ومعلم الدروس الاجتماعية وزعيم النهضة المشرقة وقائد الحملة البطولية في مكافحة الفساد والفوضى والشرور والآثام، أوبئة بني إسرائيل الفاسدين الشريرين الآثمين التي كادت تمتدّ في أنحاء المشرق وتصيب المشارقة أجمعين… فانتصر هذا البطل على تلك الأوبئة انتصار اللاهوت في السماء والناسوت على الأرض، بعد أن غضب على بني إسرائيل وشتتهم ولعنهم، فتشرّدوا عبيداً يساقون وتيها يتساقطون»14

إذاً فأهمية المسيح أنه حمل سوطه وأعلن حربه ضدّ اليهود الذين سيطروا على الهيكل وجعلوه خدمة لمصالحهم. نعم، إنه قد حمل السوط ضدّهم ولم يترك خديه عرضةً لصفعات من عادوه. كما أنه في سن مبكرة من حياته، أفحم العلماء اليهود وكشف زيفهم. وهو إضافةً إلى هذا وذاك، «يبذل نفسه عن أحبائه» ويضحّي بذاته في خضمّ هذا الصراع، بعد مؤامرتهم عليه.

وهذا ما يدفعنا إلى الإيمان بأنّ الصراع بيننا وبين الخطة اليهودية المنظمة، صراع قديم ومستمر، واجب علينا وعيه والانخراط فيه، والتضحية من أجل الانتصار فيه، شئنا ذلك أم أبينا. وهذا لأنّ شر بني إسرائيل محدق بنا على الدوام. وهذا ما عمل عليه محمد يوسف حمود، متمرداً على الفكر الذي يدعو إلى السلام الاستسلام، فحث على النضال الميداني ضدّ الاحتلال الاسرائيلي، وهو الأمر الذي بلغ ذروته عنده، حين علت حدة المقاومة في ثمانينات القرن الماضي، انطلاقاً من بيروت «الشاعر»، فلم يتوان عن وضع نشيد المقاومة الذي توّج مسيرته التمردية، عندما يقول:

«للصعاب… يا شباب…

من غيرنا يلتاع من؟ إذا بكت عين الوطن

مقاومة.. مقاومة.. بالنار لا مسالمة».

بناءً عليه، يمكن القول إنّ القدوة التي قدّمها أنطون سعاده بوصفه مفكراً نهضوياً وقائداً استثنائياً وحاملاً لقيم الحق والخير والجمال، قد برزت بشكلٍ جلي في أدب محمد يوسف حمود، الشاعر البيروتي الذي حرص على تمثل القيم التي أطلقها سعاده. فهل لنا أن نُوصل هذا التمثل قيمياً وفنياً إلى الأجيال القادمة، مطلقين مشروعنا الثقافي النهضوي المستند إلى فكر سعاده ورؤيته إلى الحياة والكون والفنّ، وإلى الحق والخير والجمال؟

هوامش

1 – محمد يوسف حمود: ذلك الليل الطويل. بيروت، دار الكشاف، الطبعة الأولى، 1953، ص73.

2 – المرجع نفسه، ص21.

3 – المرجع نفسه، ص 38 39.

4 – المرجع نفسه، ص87.

5 – المرجع نفسه، ص55.

6 – المرجع نفسه، ص40.

7 – المرجع نفسه، ص6.

8 – المرجع نفسه، ص6.

9 – المرجع نفسه. ص3.

10 – المرجع نفسه. الصفحة نفسها.

11 – محمد يوسف حمود: في زورق الحياة. بيروت، دار الكشاف، الطبعة الأولى، 1960، ص21.

12 – محمد يوسف حمود: ذلك الليل الطويل. ص 80.

13 – المرجع نفسه، ص81.

14 – المرجع نفسه، ص144.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى