يتحدّث عني

يتحدّث عني

يرن هاتفي… أحلق كفراشة رأت أمامها النور، فحدسي يخبرني دائماً بأنه هو.

في كل مرة كنت أخشى أن يخطئ فينبض قلبي متسارعاً ويهدأ عندما أسمع صوته.

كنت أعشق الرنين الذي ترسله حباله الصوتية، وأحب فيه لفظ مخارج الحروف.

فهو شاعر يلعب بالكلمات ويرتب الحروف على هواه كيفما يشاء،

وأنا في كل مرة أرتب ما تصنعه بي تلك الحروف من فوضى.

سألني هل ستحضرين؟

أجبته باستغراب لا أدري. ولكنك للمرة الخامسة تسألني فهل لك من ذلك غاية؟

أجابني وبكل برود نعم؟

لأنك سيدة الأمسية فقد اخترت كل قصائدي التي تتحدّث عنك.

من فرحتي حنجرتي أصابها الخرس ولم أستطع إلا أن أضحك.

هل تتحدث بجدية؟

وبنبرة قوة أجابني: وهل عهدتني مازحاً وخاصة إن كان الشيء الذي أتحدث به هو عن عملي؟

أخفيت سعادتي وبتعالٍ قلت له: إن استطعت سأكون أول الحاضرين.

أغلقت هاتفي وهرعت إلى الروزنامة أعدّ الأيام وعندما وصلت إلى تاريخ الأمسية طويت طرفها وخبأت فيها الأماني.

وجاءت تلك الليلة التي لم أنم فيها فقد ساهرني القلق وجلست مع الليل أنتظر الصباح.

لم أعهد أحداً بصبر هذا المعتم ألم يصب بالملل! فهو في كل مساء ينتظرها ليراها دقائق ويرحل.

كم يشبه هذا اللقاء القصير لقائي به.

وبعد طول انتظار استقبلنا الصباح ودعت الليل وتركته معها في لحظة خلوة ومضيت إلى عملي أنتظر بشوق أن تعلن الساعة موعد ذهابي.

لقد تعب قلبي يومها كثيراً، فهو يخفق بسرعة ربما يحاول الوصول إلى مبتغاه في أقصر وقت.

أمام خزانتي وقفت استمع إلى نداء ملابسي فكل قطعة مشتاقة لرؤيته.

ارتديت ما يحبه هو.

دخلت الصالة.

لم أكن الأولى فقد سبقني الكثيرون، لمحته من بعيد جالساً على كرسي مختلف تماماً عن باقي الكراسي فقد خصّصوه له.

كلما اقتربت منه أكثر شعرت بفخامة عطره. وكلما اقتربت خطواتي أكثر منه تحرقني حرارة أنفاسه.

وصلت إليه وكأني لأول مرة أراه مددت يدي وصافحته أخبرته، بأني أعشق كتاباته. ودائماً أقرأ كتبه ضغطةً خفيفة منه على يدي جعلتني أصمت طالبتني عيونه بالابتعاد فالتزمت بأمرها.

جلست كمتابعة على أحد الكراسي مثلي مثل أي امرأة هناك.

يصعد إلى المنصة.

أراه أمامي. عيوني لا تبصر غيره. التفت حولي. الكل غادر شعور لا يوصف. فأنا الوحيدة التي سينظر إليها وأنا وحدي من يوجه لي شعره.

بدأ بسرد حروفه.

ترتفع يداه ويعلو صوته وعندما يقترب إلى الهدوء اعلم انه قد باغته الحنين.

صوت ضحكة تجعلني أصاب بالتشتت تبعد عينيّ عنه.

بجانبي فتاتان لا أدري لم حضرتا.

حديثهما كان دائماً يوترني يصيبني بالضياع.

يا الله ما الذي جيء بهما إلى هنا وخاصة أنهما لم تنصتا ولم تتركاني أنصت ولا ترحمان.

علو صوته جعلهما تلتفتان إليه

فهو كان يصف حبيبته يوصف جعل الكل يعيش حالة ًمن العشق والوله.

صوت التنهدات كانت تسمع بوضوح. فهل يا ترى الكل عاشق أم أن الذكرى جعلت القلوب تصدح الآه؟

لتعاود إحداهما الحديث بصوت به غيرة تسأل الأخرى.

هل تعتقدين أنه يعشقها إلى هذا الحد؟

بصوت من محيح تجاوبها.

وهل تصدقين كلام الشعراء. فالمرأة عندهم هي مصدر للإلهام فقط.

ألا تذكرين نزار وكم من النساء عشق حتى أصبح لديه كل هذه الكتب.

بدون شعور صرخت في وجهها بأي حق تتحدثين عن نزار ومن أعطاك الحق حتى تتهمي هذا الشاعر باتهام كهذا؟

أجابتني وبلؤم: وكأنك حبيبته فلو كنت أنت لما دافعت هذا الدفاع عنه.

خشيت أن يفضحني خوفي وخفت أن تحكي ملامحي عن غضبي.

اعتذرت منها والتفتت إليه.

أسأله هل ما قالوه صحيحاً.

لكنه لم يلمح قلقي.

بدأت الوساوس تحتل عقلي فهما كانتا كالجنيتين جاءتا لتحجبا عني الرحمة.

أسئلة تأخذني إلى هناك وأجوبة تعود بي إلى هنا.

كالطفلة الضائعة التي لا تعرف أين أهلها ولا حتى اسمها وما الذي جاء بها إلى هذا المكان الغريب.

تخبطت روحي كذبيحة تستعد الحياة لوداعها.

صوت تصفيق ينبهني بأن الأمسية انتهت.

علامات الرضا كانت على الوجوه وعلامة القلق بانت على وجهي. الكل يتحدث عني وأنا المرمية بين أيادي الحيرة تلعب بي لعبة مؤلمة.

وقفت وتقدمت لوداعه، ولكن جمهوره التف حوله وكأنهم أرادوني أن ابتعد.

صعدت إلى باب الصالة ونظرت إليه نظرة أخيرة ابتغيت منها الراحة وتمنيت لو يلمحني ليعطيني من عينيه الهدوء.

ولكنهم كانوا أقرب مني إليه.

تركت القاعة وأنا صامتة.

تاركة ورائي صراخاً يتحدث عني.

مها الشعار

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى