ثائر كايد قدورة حماد.. نموذج الأسطورة الفلسطينية اليومية
عبد الناصر عوني فروانة
الثالث من آذار/مارس عام2002، يوم ليس ككل الأيام.
يوم حفر عميقاً في الذاكرة الفلسطينية وسجل المقاومة.
يوم نفذت فيه واحدة من أمهر عمليات القنص في العالم على يدي شاب فلسطيني ثائر أراد أن ينتقم لشعبه من ظلم الاحتلال وقهره.
الثالث من آذار/مارس يدفعني دائماً لاستحضار الماضي القريب، فأجد نفسي مندفعاً نحو الكتابة، عشقاً للمقاومة المشروعة، واحتراماً وتقديراً لمن أجادوا أدواتها وممارستها، ووفاءً لمن آمنوا بخيار المقاومة وسيلة لدحر الاحتلال وانتزاع الحرية.
الثالث من آذار/مارس يدفعنا كذلك لاستحضار التاريخ العريق لحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» التي ينتمي إليها ذاك الثائر الفلسطيني الذي جعل من هذا اليوم تاريخاً ساطعاً في سجل المقاومة الفلسطينية والعربية. «فتح» التي تحتل مساحة هي الأوسع في الذاكرة الفلسطينية المعاصرة، بتاريخها العريق وسجلها الحافل، وترددها الألسن وتحفظها القلوب.
الثالث من آذار/مارس عام 2002 يوم ترجّل فارس البندقية ابن كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح وأطلق من بندقيته الخاصة ستاً وعشرين رصاصة فقط، على حاجز عسكري إسرائيلي شمال مدينة رام الله يسمى حاجز «عيون الحرامية»، ليقتل بها أحد عشر جندياً إسرائيلياً ويصيب ثمانية آخرون، ولو لم تنفجر البدقية بين يديه لقنص المزيد ورفع أعداد القتلى والمصابين. في عملية وصفت بأنها الأمهر والأكثر دقة، وأشهر وأخطر عمليات المقاومة الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى.
لذا ليس بالضرورة أن تكون فتحاوياً كي تعشق هذا الفارس، وتحترم اسمه. فيكفيك فخراً أن فلسطين أنجبته، ليثأر لكل فلسطيني عانى من الاحتلال. كما وليس بالضرورة أن تكون فلسطينياً، لكي تتعرف على هذا الثائر الذي لقن جيش الاحتلال درساً لم ولن ينسه أبد الدهر في القنص ودقة التصويب، والجرأة والشجاعة، ليستحق لقب أمهر قناصي العالم.
«ثائر كايد قدورة حماد» فلسطيني الهوية، فتحاوي الانتماء، من مواليد الخامس والعشرين من تموز/يوليو عام 1980 أعزب ويسكن بلدة سلواد قضاء رام الله، استطاع بمفرده وإيمانه بالله ورضاه وبهدوء المقاتل وحنكة الثائر متسلحاً ببندقية أميركية من ماركة «أم1»، قديمة الصنع تعود لزمن الحرب العالمية الثانية، أن ينفذ واحدة من أمهر عمليات القنص في تاريخ المقاومة الفلسطينية. وبتقديري فيما لو أجريت مسابقة عالمية للقنص باستخدام البندقية القديمة ذاتها لحصل «ثائر» على المرتبة الأولى واستحق وعن جدارة لقب أمهر قناصي العالم.
استيقظ ثائر، اسم على مسمى، صباح يوم الأحد الثالث من آذار/ مارس عام 2002.
وارتدى بزة عسكرية لم يسبق وشوهد يرتديها وتمنطق بأمشاط الرصاص وامتشق بندقيته وتفقد عتاده المكوّن من سبعين رصاصة خاصة بهذا الطراز القديم من البنادق.
وامتطى الفارس صهوة جواده وانطلق به الى جبل الباطن إلى الغرب من بلدة سلواد، وتحصن بين الصخور وأشجار الزيتون وصوب بندقيته صوب الحاجز العسكري بجنوده ومكوّناته التي تشوه المكان، فيما يُسمى حاجز «وادي الحرامية» وأخذ يراقب ويستعد بانتظار ساعة الصفر.
وفي السادسة إلا ربعاً صباحاً ضغط بإصبعه على زناد بندقيته وأطلق الرصاصة الأولى، واستمر في إطلاق الرصاص وهو يصيب الواحد تلو الآخر من جنود الاحتلال.
ومن ثم ترجل عدد من المستوطنين، فنالهم ما نال الجنود من رصاص، ودورية أخرى وصلت المكان للتبديل، فأصابها ما أصاب من كان قبلها في المكان، وفجأة انفجرت بندقيته العزيزة بين يديه وتناثرت أشلاء فأجبر على إنهاء المعركة بعد أن أطلق ستاً وعشرين رصاصة فقط، استقرت جميعها في أجساد جنود الاحتلال ومستوطنيه وأسفرت عن مقتل أحد عشر جندياً ومستوطناً وإصابة ثمانية آخرين، حتى ساد الصمت منطقة الحاجز بأكملها وفي الساعة السابعة والنصف قرر الانسحاب عائداً الى بيته وكأن شيئاً لم يحدث.
وفي أعقاب العملية فرضت قوات الاحتلال طوقاً حول بلدة سلواد ونفذت حملة تمشيط بحثاً عن المنفذين المحتملين واعتقل ثائر وأفرج عنه بعد ثلاثة أيام.
ربما لم يدر في خلد المحققين أن هذا الفتى ابن الثانية والعشرين في حينها هو منفذ العملية، حيث كانت كل التوقعات تشير الى رجل عجوز، وبعد نحو واحد وثلاثين شهراً داهمت قوات الاحتلال منزله واعتقلته في الثاني من تشرين الأول/أكتوبر عام 2004، وبعد أكثر من ثلاثين جلسة للنظر في قضيته، أصدرت محكمة عوفر العسكرية في التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2006 حكماً بالسجن الفعلي المؤبد مدى الحياة إحدى عشرة مرة.
هكذا تمر قافلة الأبطال، إما شهداء إلى القبور وإما أسرى إلى السجون.
فالمجد للشهداء والحرية للأسرى.
ثائر اسمك، وأنت لست بثائر مثلهم. فمنك الثوار تعلّموا وبك الفلسطينيون على اختلاف انتماءاتهم يفتخرون..
أسير محرر، وباحث مختص في شؤون الأسرى