الأبعاد الفلسفية والعاطفية في أعمال التشكيليّة اللبنانيّة منى نحلة
محمد البندوري
تدبّر التشكيلية منى نحلة النسق الشكليّ في أعمالها التشكيلية، بطرازات واقعية تمتح من السريالية بعضاً من معالمها الفنية، ومن التكعيبية بعضاً من أسسها الجمالية، لتحقّق لها نوعاً من التجاور والملامسة والتخصيص. وهي ترغب من خلال ذلك إلى تحقيق سيول كبير للمادة الحسّية بترابط مع الواقع، في وحدة البناء والشكل والرؤية والأسلوب، مع إدراج لونيّ ينمو بمعيّة العلامات والرموز والشخوصات المتنوّعة، بموتيفيا ذات قيمة شكلية تزيد المادة الإبداعية قدرة وإنتاجية، وهي تتمظهر في شكل نبرات إيقاعية بجودة تنسجم مع اللون والشخوصات التعبيرية، وتصنع بينها مجموعة من العلاقات الجدلية، التي تشكل عناصر توهجية، تستحوذ حيّزاً من المساحة داخل الفضاء المفتوح. وتنسج الحيوية لمشاهد رمزية تلف الشخوصات التعبيرية في إطار لمسات بصرية لها مضمونها الرؤيوي، وأسلوبها المؤثر على الملمس التشكيلي، حيث تضحى أعمالها متماسكة وقوية، تشكل فيها التقنية المستعملة أداة جوهرية لتحويل التصورات إلى آلية بصرية معنية بالإدراك الحسّي، وبالأبعاد الفلسفية التي تتبدّى في الفضاء بشكل صريح وفق مضامين ذات دلالات ومعان، لها مراميها المتفاعلة مع كل المعطيات التشكيلية الحديثة، وهي تنبثق أساساً من المجال التعبيري، ومن العمق الواقعي عموماً، حيث توظف ذلك ضمن نسيجها المعرفي والثقافي والتشكيلي، بنوع من الاجتهاد وبنوع من الإبداع.
كما أن طبيعة الأشكال تفسّر مجموعة من التأثيرات القوية التي تنبعث من المادة الواقعية، لتمرّ إلى المادة اللونية بحركات تُظهر جملة من القيم الجمالية والرمزية، التي تعكس عمق الفن في سياقه الواقعي التعبيري، بتشكيل دقيق يدعم المجال التعبيري المعاصر، ويمنح الكتل والخطوط سمة انطباعية وتأويلية، ينفذ تأثيرها إلى البصر بانعكاس عاطفي يصور القيم، ويُمثل مشاهد الواقع على نحو رصين يمنح الشخوصات هدوءها أحياناً ويمنحها الحركة ويبعث فيها لحناً آخر أحياناً أخرى. فالألوان المستعملة والرموز والعلامات التي تتداخل مع الشخوصات في تنوع أشكالها تحمل مفهوم المتغيرات وتصنع معاني تفضي إلى دلالات متعددة، بل تفتح الباب للقراءة والتأويل على نحو شمولي.
ولعلّ مختلف عمليات التحوير والتحويل للغة الفن التي تقوم بها الفنانة تجعلها تبسط هذه التجربة بمقومات المضامين المشحونة بحسّ الواقع والممتزجة بخصوبة التعبير المتنوع، كل ذلك يعكس بشكل جليّ قدرتها على استخلاص بعض المفاهيم الفنية وإدخالها حيّز التنظير، ما ينعكس بشكل مدرك في أعمالها التي تحرك المشاعر، بأسلوب فنّي عميق الدلالات. أسلوب يروم استدعاء المجال الإشاراتي والعلاماتي، بما يكتنفه من تشعب دلالي يجعل القارئ ينفتح على تعددات قرائية وتأويلية، تسمح ببناء وشائج تشكيلية تُمكّن من ملامسة الموضوع المحوري في نسقه الفني، وفي نطاق جهازه المضاميني، الشيء الذي يدعم المسار الإبداعي لمنى نحلة التي تتمظهر رؤاها الفلسفية مؤكدة قوة هذا الأسلوب الإبداعي، الذي ترسي من خلاله مقومات العمل التشكيلي المبنيّ على أسس فنية ذات أبعاد واقعية ودلالية وجمالية.
وهي تقوم بتأديته ذلك بنوع من المهارة والتقنيات العالية، فالمراحل البنائية والتنويعات الشكلية تجعل من تعبيراتها حتمية إبداعية وثقافية وفنية تسمح بخروج المادة التشكيلية إلى المجال الحسّي البصري بشكل مختلف عن الجاهز وبعيد عن المألوف، وهو يدخل في نطاق تجربتها المائزة.
فهي تتواصل مع عالمها الفني بتفاعُل واقعي، وبوجدانية تيسر لها بلوغ القيمة الفنية التي توجه مسارها التعبيري، حيث يتبدّى التكامل جلياً في منجزها التشكيلي، ويتمظهر الجمال في مختلف العناصر التي تشكل أعمالها، بادياً بحمولته المضامينية، وهي بذلك تحقق معنى حقيقياً لأسلوبها الخاص ولمسارها التشكيليّ الرائق.