قناة السويس أكثر من اكتتاب
معن بشّور _
لا يمكن الحديث عن دور مصر بقيادة جمال عبد الناصر في أواسط خمسينات القرن الماضي من دون التوقف أمام قرارين تاريخيين كانت لهما آثار وتداعيات على مجمل الأوضاع في الوطن العربي، كما على انتقال النظام العالمي برمته من مرحلة إلى أخرى.
القرار الأول كان في أواخر أيلول 1955 حين قررت قيادة ثورة 23 يوليو كسر احتكار السلاح الذي حظر الإعلان الثلاثي (الأميركي – البريطاني – الفرنسي) بيعه إلى «منطقة الشرق الأوسط»، بعد أن استكمل الكيان تسليحه، فأخذ يواصل اعتداءاته على مصر عموماً، وعلى غزة، الواقعة تحت الإدارة المصرية.
يومها أعلن جمال عبد الناصر، وخلال افتتاح معرض بسيط للفن التشكيلي (قيل انه أعد خصيصاً لهذا الإعلان) عن عقد صفقة سلاح قيمتها 250 مليون دولار من تشيكوسلوفاكيا بعد أن لعب رئيس وزراء الصين يومها شو إن لاي دوراً في إقناع موسكو السوفياتية ببيع أسلحة لمصر بناء على رغبة أبداها الزعيم المصري للزعيم الصيني على هامش مؤتمر باندونغ الشهير في ربيع 1955. وكانت براغ هي القناة التي تم الاتفاق على أن تكون القناة السوفياتية لإرسال الأسلحة إلى مصر، خصوصاً إن براغ كان لها باع طويل في تسليح الجيش الصهيوني خلال حرب 1948 وبعدها.
وقع القرار المصري يومها على عواصم الغرب وقع الصاعقة، فجاء الرد سريعاً من الكونغرس الأميركي برفض المساهمة في تمويل السد العالي من قبل البنك الدولي (الذي كان قراره ولا يزال بيد واشنطن)، فجاء الردّ المصري أيضاً صاعقاً، إذ بعد أيام من نكوص البنك الدولي عن وعوده (19 يوليو1956) اتخذ جمال عبد الناصر قراره التاريخي الثاني بتأميم قناة السويس (26 يوليو 1956)، ليأتي الردّ البريطاني – الفرنسي سريعاً بالتحضير لعدوان ثلاثي مع تل أبيب يستهدف مصر وقائدها آنذاك في الأيام الأخيرة.
أهمية القرارين التاريخين لم يكن عسكرياً فحسب، كما هو حال قرار كسر احتكار السلاح، ولم يكن اقتصادياً فقط، كما هو حال قرار تأميم قناة السويس، بل أن تلك الأهمية تكمن أيضاً في المنحى الاستقلالي الشجاع للقيادة المصرية وعلى رأسها جمال عبد الناصر حيث فتح القراران يومها آفاقاً كبرى للحركة الوطنية المصرية، كما للحركة القومية العربية، ولعموم حركة التحرر العالمية في تأكيدهما على تلازم الدوائر الوطنية والعربية والأممية في أي مشروع للنهوض والتحرر والتقدم والتنمية في مصر والوطن العربي.
نستحضر اليوم هذين القرارين، لأنّ مصر شهدت في الأيام الأخيرة حدثين مشابهين في موضوعهما مع الحدثين السابقين، ومرشحين لأن يُطلقا أيضاً من التفاعلات والتداعيات ما يمكن أن يشكل تجديداً للحركة الوطنية المصرية والحركة القومية وحركة التحرر العالمي المتمردة على هيمنة نظام القطبية الأحادية الذي أبتلي به العالم منذ تسعينات القرن الماضي.
الحدث الأول، هو التوقيع على صفقة استيراد سلاح روسي بقيمة ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار بعد أن تحكم الأميركيون منذ ثمانينات القرن الماضي بالسلاح المصري، كماً ونوعاً، تدريباً واستشارة، إلى حدّ أنّ اعتماد القوات المسلحة المصرية على السلاح الأميركي بات سبباً لابتزاز سياسي أميركي مع كل مرة تظهر بوادر استقلال مصري عن السياسة الأميركية.
أما الحدث الثاني، فهو نجاح الهيئات المالية الرسمية في مصر في أن تطلق بكفاءة اكتتاباً أهلياً لتوسيع قناة السويس وتطويرها، فإذ بها، وفي أيام قليلة تتمكن من بيع شهادات بقيمة 60 مليار جنيه، أي ما يعادل 8.5 مليار دولار، تحتاج الإدارة المصرية إلى خمسة مليارات منها لتنفيذ مشروع توسيع قناة السويس أولاً، ثم لإقامة مركز عالمي لتقديم الخدمات اللوجستية في حوض القناة ثانياً.
وأهمية الحدثين اليوم، كما أهمية القرارين بالأمس، لا تنبع من البعد العسكري لصفقة السلاح مع موسكو فحسب، ولا من البعد الاقتصادي المالي لتمويل مشروع وطني ضخم كتوسيع قناة السويس باكتتاب أهلي، بل تكمن أيضاً في البعد الاستقلالي والاستراتيجي الهام، على مختلف الصعد، لهذين الحدثين.
فالتوجه المصري نحو موسكو الذي بدأ مع تحرّر مصر من نظام الارتهان للغرب في 25 رمضان 2011، لم يكن محصوراً بالجانب العسكري بل تعداه إلى مجالات أخرى ناقشها المشير السيسي في زيارته لموسكو حين كان وزيراً للدفاع، ثم في زيارته الأولى لموسكو بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، كما يرى البعض في هذا التوجه خطوة باتجاه الانفتاح نحو عواصم بدأت تبدي تبرمها، وتعلن تحررها من نظام القطبية الأحادية الأميركية، لا سيّما في الصين والهند والبرازيل وأميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا ودول الاتحاد الأفريقي حيث تستعيد مصر معها «الدائرة الأفريقية» التي اعتبرها جمال عبد الناصر في «فلسفة الثورة» إحدى دوائر ثلاث لمصر ما بعد 1952 بعد الدائرة العربية والدائرة الإسلامية.
أما تمويل مشروع ضخم، كمشروع توسيع قناة السويس، من اكتتاب أهلي فاجأ حتى أكثر المتفائلين بنجاحه وأدى إلى انخفاض سعر صرف الدولار بالنسبة للجنيه المصري، ولو بنسبة طفيفة، بسبب خروج العديد من المصريين من ادخاراتهم بالدولار إلى شراء شهادات المشروع الجديد، فقد أكد، وهنا تكمن أهميته الكبرى أن في مصر، على رغم ظروفها الاقتصادية الصعبة، موارد ضخمة يمكن في حال اللجوء إليها أن تسهم في نهوض الاقتصاد المصري من كبوته، وأن تخرج بلداً بوزن مصر ومكانتها من دور تم فرضه عليها منذ أربعين عاماً، وهو دور تسوّل المساعدات من هنا وهناك من أجل إبقائها في حال الكفاف المقرون بالتدهور.
إن نجاح اكتتاب أهلي في استقطاب مدخرات المصريين هو رد على كل «النظريات» التي تربط النمو الاقتصادي بحركة الاستثمارات الخارجية التي عادة تقوم باستقطاب المدخرات الداخلية عبر فروع مصارفها في تلك الدول ثم تعيد تحويل تلك المدخرات إلى دول المنشأ ذاتها كاستثمارات خارجية في واحدة من أكبر عمليات الاحتيال والتلاعب المالية الدولية.
إن التمويل الوطني لتوسيع قناة السويس هو بمثابة «تأميم» ثانٍ لهذا المرفق الحيوي الكبير لمصر الذي طالما اعتبره المصريون «نفطهم الوطني» وأكبر مورد للعملة الصعبة إلى اقتصادهم (خمسة مليارات دولار سنوياً وهي مرشحة الآن للارتفاع بعد توسيع القناة)، بل هو مشاركة شعبية جماعية واسعة في تحمّل المسؤوليات الوطنية.
ولم يكن مشهد الأعداد المزدحمة من المصريين في المصارف لتسجيل أسمائهم في الاكتتاب ليختلف كثيراً عن مشهد طوابير المتطوعين المصريين الذين توجهوا عام 1956 إلى معسكرات الجيش المصري لاستلام الأسلحة كي يدافعوا بها عن وطنهم، وعن قناتهم، التي أراد الغزاة الصهاينة المستعمرون وضع اليد عليها من جديد.
وكما اختار عبد الناصر مناسبة بالغة التواضع ليعلن قراراً تاريخياً بكسر احتكار السلاح فهّز العالم بهذا القرار، فان المصريين قد خطوا هاتين الخطوتين الهامتين بعيداً عن الصخب والضجيج، ووسط محاولات تفجير أمني متلاحقة تريد أن تشغل المصريين عن أولوياتهم، وأن تشعل مصر وقواتها المسلحة ومعها الأمة كلها بحروب أهلية صغيرة لخدمة أجندات أجنبية كبيرة.
حين التقيت الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، قبل عام، تقريباً في منزله في القاهرة وفاتحته بما يتوقعه أبناء الأمة من مصر لا سيّما تجاه فلسطين وسورية وليبيا والعراق واليمن وغيرها وغيرها، وصارحته باعتقادي بجدلية العلاقة بين تنامي دور مصر في أمتها ومحيطها والعالم وبين قدرتها على إفشال مخطط التدمير والتفجير الداخلي، أجابني الأستاذ المكتنز خبرة وتجربة وثقة بالمستقبل: «لا تستعجلوا على مصر، فلكلّ أمر توقيته، ولكلّ شأن موعده، المهم الآن هو أن تكون لدينا قيادة شرعية منتخبة يفوّضها الشعب المصري باتخاذ القرارات المناسبة في كلّ المجالات…».
لم أخف للأستاذ الكبير قناعتي بأهمية المصالحة الداخلية، وبسلبيات الإقصاء والإبعاد، وهي أهمية يحرص عليها هيكل وكل العقلاء في مصر، بل أنهم يرونها كرقصة «التانغو» التي تحتاج إلى راقصين لا إلى راقص واحد.
خرجت من تلك الجلسة يومها أقرب إلى التفاؤل، على رغم عواصف التشاؤم وأعاصيره المنتشرة حولنا، وأشعر هذه الأيام بأن لتفاؤل هيكل وأمثاله ما يبرره.
بعد توقيع السادات لمعاهدتي كمب ديفيد لم نيأس من مصر، وبعد كل سياسات التخاذل والفساد والاستبداد والتبعية التي عطلت دور مصر على امتداد عقود أربعة لم نيأس من مصر، واليوم نجدد الأمل بدور لمصر في قيادة مشروع عربي يتكامل مع مشاريع شركاء لنا في الجوار والعقيدة والحضارة والمصير من أجل إقليم مستقل ومستقر يشكل واحداً من أهم المنظومات في عالم اليوم.
ومع هذا التفاؤل الحذر نعود لنؤكد قناعاتنا الثابتة بأن هذه الانجازات بحاجة إلى تحصين في الداخل يعالج بالأمن كل خلل أمني، ويعالج بالسياسة كل اختلال سياسي.
معن بشّور