لي «جنيّة خافية»… دائماً تعلِّمني!

نصار إبراهيم

تنويه: هذا النص قد يبدو خاصاً لكنه عام بامتياز… فلسطين وأبعد!

تدور في مدارات عقلي فكرة قد تكون في السياسة أو الثقافة أو الأدب أو أي شيء… تتحرّك، تراوغ، تغيب ثم تعود، في النهاية أتهيّأ للكتابة أو القراءة أو التفكير أو الصمت لأحاور تلك الفكرة… فجأة وبسطوة قاهرة تحضر «جنية» خافية، تحضر بكامل جمالها وبهائها، تتخفّف من أشياء كثيرة فلا يبقى سوى الجوهر الصلب الواضح الجميل العنيد… تجلس قبالتي… تنظر… وتتابع ما أقرأ أو أكتب، وربما ما أفكر به أيضاً… تلك خافية شاملة اسمها فلسطين.

يا لها من «جنية» خافية مدهشة، تذكّرني حين أنسى، تعيدني للدرب حين أنحرف، تسأل، تناقش، تدقق… وحين لا يعجبها موقف أو خيار تعبس، تغضب، فتعتكر عيناها كأمواج بحر يافا، عكا، حيفا، غزة… حينها أدرك أنّ ثمة خطأ ما يستدعي إعادة النظر فوراً وبلا استخفاف أو ولدنة.

فلسطين هذه «جنيّة» رشيقة وأنيقة، ذكيّة وبديعة، عالية وشاهقة… تراقب ولا تخادع… تقول ولا تتردّد، كما ليس بمقدور أحد أن يتجاوز وعيها أو يخدعها، فالتاريخ يسكنها بامتداداته وتنوّعه وتشابكاته… لهذا فهي خافية مثقلة بالتجارب البعيدة والعميقة، ذاكرتها قاطعة كحدّ سيف دمشقي باسل… تكره الالتباس ولا تخشى الأسئلة الصعبة…

فلسطين لا تعرف التعب أو اليأس، قد تنزف، قد تتألم… قد تصمت… لكنها تنتظر… وتنتظر… وتصبر… وتصبر… تغالب الثعالب وبنات آوى وأولادها والوقت أيضاً.. فيما عيناها لا تفارقان المدى أو الأفق الأعلى فتتجلى… تعشق الحنون المطلق يفيض وهجاً في الوعي، يراقص الحواس السبع ويستفزها للعمل بالطاقة القصوى…

حين تشعر تلك «الجنية» بحدسها الموغل في التاريخ وفي الإنسان وفي الأرض وفي الزمن، أنّ هناك من لا يجيد قراءة أسفارها وأثقالها، رموزها ودلالاتها، همومها وأحزانها، أفراحها وأحلامها… تطلق في تلك اللحظة أبناءها وبناتها كما الزيتون واللوز والحنون والبرتقال ودوالي العنب الصاعدة دوماً نحو السماء…

فلسطين، تعلمني تقول: أنا لم أفرض شيئاً، أنت الذي اخترت… فتحمّل إذن نتيجة ما اخترت بما يليق بي… كن واضحاً كظهر حنظلة… ولا تمُت في الخزان صمتاً… بل فجّره إنْ لزم الأمر… هل تفهم!؟

حين تحدّثني لا تنظر نحو الأرض… ارفع وجهك نحوي وانظر في عينيَّ مباشرة… وحين يغيم الوعي عُدْ للبدايات والسياقات الأولى وستفهم أنّ الحاضر فيه الماضي.. والمستقبل وريث الماضي والحاضر… فتعلّم إذن أن ترى أشمل وأعمق وأبعد.. وأنّ أسرار الظواهر في علاقتها وحركتها المركّبة وليس في سكون اللحظة..

احرس موقد ذاكرتك مشتعلاً… فالعقل حين يشتعل يكون أستاذاً في استنطاق الفكرة… فجمال أول الطريق لا يعني بالضرورة أنّ نهايته ستكون سعيدة، وصعوبته لا تعني أنه خاطئ… فقد يكون العكس تماماً. فلا تحكم على الطريق من الخطوة الأولى.. فانتبه كي ترى أبعد من حيث تقف… ذلك يحتاج لحدس بحار بارع، يعرف أنواء البحر وتيارات الماء وأشرعة القراصنة… ذلك يحتاج حدس فلاح يعرف أسرار الأرض وأسرار الغيم، أسرار المحراث وأسرار القمح، أسرار الريح وأسرار المطر، ويعرف أيضاً أسرار العشق ما بين المنجل والخبز.

أنظر في ما قد يبدو بديهياً وأذهب أبعد… فليس الخطّ المستقيم بالضرورة هو أقرب مسافة بين نقطتين، تلك فرضية تناسب خرائط الورق أو مَن لا يرى أبعد من باب الحارة أو نصف الجسد الأسفل… فالوصول إليّ يحتاج لهندسة تتجاوز إقليدس، هندسة تعرف سَمْت الكون، الفعل وردّ الفعل، ذلك شرط حين يكون الهدف الرحيل إليّ حيث أكون، سواء بين نجمة وكوكب أو للرقص بين مدارات المجرّة…

تذكّر أنّ الوقت حيادي.. يخدم اللص بذات الهمة التي يخدم فيها الكادح، وأنّ ذات الليل غطاء لقاطع طريق وفي ذات الوقت لمقاوم… هذا يعتمد عليك…!.

وتعلم أيضاً تقول فلسطين: أن تكون رشيقاً وفياً كالخيزران.. ينحني، لكن لا يغادر جذور الفكرة والمولد.. فتمرّ الريح العاتية فينهض من جديد ويعود، كما كان لسيرته الأولى…

البوصلة إليّ وعي ورؤية، موقف وفكرة، حق وفعل… وكما تعلم تلك معادلة خطرة فتعلّم كيف تعادلها…

أنا فلسطين أعلمك، أقول: لست طارئة في التاريخ ولا عابرة قيد اللحظة… فثق بي وبحدس الأرض… فقد تميد بك ويحاصرك ألف قرصان وشيطان ومثقف وسياسي ولص، فتبدو اللحظة وكأنّ الكون قد اختلّ، فلا أفق ولا مدى ولا أمل… حينها تذكر دروس التاريخ وحكايات الكنعاني الأول… واحفظ توازنك، كما النجمة في الكون الواسع والأكمل..

لا بأس بأن تحزن بعض الوقت، فالحزن يكون جميلاً أحياناً كما الدمعة تطهّر قلب الإنسان.. لكن الفرح العالي يدير الدفة حين تضطرب الفكرة نحو الأصل ونحوي… فتعتدل.

وحين يداهمك القلق والألم والبشاعة تذكّر أنّ للواقع وجهين وأكثر.. فاذهب إنْ شئت مع الفجر أو الظهر أو العصر أو في عتم الليل… واقرأ أسطورة وجهي الكنعاني الأول… وأعد ضبط الوعي وردّ الفعل لديك وفق مواقيت جمالي الأزلي منقوش على صدر الشام وما بين النهرين ووادي النيل وصنعاء وأبعد.. حينها يضيء قلبك وتعرف دربك.

أنا فلسطين فتذكر أقدار التكوين ومعادلة الروح الحارسة.. فبعض روحي في الشمال وبعضها في الشرق وبعضها في الغرب وبعضها في الجنوب… وبعض روح الشمال والشرق والغرب والجنوب موجودة هنا في أعماق روحي.. فتذكّر إذن أن ليس هناك قلم بمقدوره أن يخط على الورق التافه حدوداً تلغي وحدة روحي… حتى لو قالت كلّ خرائط هذي الدنيا عكس ذلك بلغات الأرض كلها… لهذا… ولكي تصل لا تتبع خارطة من ورق بل لازم أصل الفكرة تصل… يمّم قلبك فيتجلى في وطن ممتدّ بين بحر ومحيط… أرض وسماء… وإنسان أبدع فيه أبجدية الوعي وموسيقى الروح الأولى…

صمتت فلسطين قليلاً وقالت: لي قلب يسافر ويقيم ما بين أقصى الفرح وأقصى الحزن وأقصى الألم وأقصى الأمل، فحين ينهض أبنائي يغمرني الفرح كهطل الندى على عباد الشمس يتهيّأ للفجر الآتي… وحين ينبثقون كالحنون على صدري شهداء يغمرني الحزن كرشقة مطر، وحين أراهم يعانقون القمر من نافذة الزنزانة في عتم الليل الممتدّ على مدى عمر ترتعش روحي كشجرة برتقال تُزهر في يافا… لهذا تذكر… «أنّ الله ليس حدّاداً لديكم يصنع السيوف»، هكذا لا يغادرني الأمل…

قالت فلسطين ما قالت… وراحت تنظر حيث تشاء…

أضاء القلب. قلت: أيا فلسطين التي أحب… يا «جنِّيتي الخافية» تعلّمني ما لا أعلم… علِّميهم إذن كي يروا فيك ما لا يُرى!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى