«الداخلي» و«الدولي» يعرقلان تشكيل اللوائح!
د. وفيق إبراهيم
الانتخابات النيابية في لبنان تبدو في ظاهرها مسألة قانونية ـ دستورية تنظّم إنتاج النظام بكامل طبقاته السياسية من خلال الانتخابات.. لكنها لم تخرج.. حتى مرة واحدة عن التدخلات الصريحة و«العنيفة» للمحيط الإقليمي والنفوذ الدولي المراعي للمصلحتين الغربية والإسرائيلية. فهل تنطبق هذه المعادلة التاريخية على ما يجري حالياً من تجاذبات قوية بين القوى اللبنانية، و«رعاتها» في الخارج.
هناك عشرات الأسباب التي تؤكد تفاقم الارتباط اللبناني بالخارج نحو مزيد من التبعية المغطاة بشعارات فارغة عن السيادة والحرية والاستقلال لمجرد الاستهلاك التحشيدي الذي لم يعد ينطلي على أحد… فلبنان عاكسُ قضايا الإقليم لمحاذاته لطرفي الصراع في المنطقة أي سورية والكيان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
تُضاف أيضاً تعدّدية مكوّناته المذهبية والطائفية والعرقية التي تجعله يتقمصُ كل الخلافات الايديولوجية والدينية المندلعة في براكين العالم المتأججة، بما فيها أرمينيا وقضايا الكرد وتنوّعات الإرهاب والمبادئ العابرة للحدود.
لجهة دور «الداخل» في عرقلة تشكيل اللوائح، يتوجّب ربطه بمسألتين: الأولى تتعلّق بتراجع «الحريرية» السياسية المرتبطة بصعود العونية السياسية التي تريد التوسّع السياسي على مستوى لبنان عموماً والساحة المسيحية خصوصاً. وهذا يتطلب السيطرة على كمية وازنة من مقاعد مجلس النواب، ما ينتج صراعات حادة بين الأحزاب المسيحية واللبنانية التي تمسك حالياً بهذه المقاعد.
أما السبب الثاني فيتجسد بالصعود العمودي لحزب الله على مستوى الإقليم.. الذي استجلب له عداءات «داخلية» كبيرة، من أطراف تخشى من ارتدادات دوره الإقليمي الصاعد على الوضع الداخلي. فتحاول عرقلة تحالفاته وبالتالي تشكيل لوائح وازنة مع قوى متنوّعة توفر له حيازة عدد لا بأس به من المقاعد النيابية. لكن هذا الأمر لن يعكس بكل تأكيد أهميته الإقليمية ـ المثيرة لغضب إسرائيلي ـ سعودي ـ غربي.. وتحالفاتهم في الساحة اللبنانية.
يمكن أيضاً التنقيب داخل بنود قانون الانتخاب الجديد لتبرير هذا القرار والتخبط في تشكيل اللوائح الانتخابية.. فالقوى السياسية تتعامل مع هذا القانون الجديد على مستويات عدة.
فهو يفرض حيناً تحالفات عميقة داخل المذهب الواحد إلى حدود ابتعادها عن المذاهب والطوائف الأخرى، كما يخلق صراعات حادة بين قواها الداخلية في الوقت نفسه. فكيف يُمكن التحالف في لائحة بين سني وأرمني «على سبيل المثال» في منطقة مختلطة. وهناك مواطن مضطر إلى إعطاء صوته الانتخابي التفضيلي لمرشح مفضَّل له في إطار لائحة مقفلة ينال المرشحون الواردة أسماؤهم فيها أصواتاً تلتحق بما يسمّى الحاصل الانتخابي… ومن الطبيعي أن يمنح الأرمني صوته التفضيلي لأرمني مثله إلا «باستثناءات تاريخية» وكذلك الشيعي والماروني والسني والدرزي.. الخ.
إن خطورة هذا «القانون» هي في النتائج التي يدركها في مراحل لاحقة. وإذا كانت كل قوانين الانتخابات في العالم تؤدي إلى الاندماج بين الناخبين على قاعدة «الحاجة المتبادلة» لأصوات الناخبين من كل المكوّنات المذهبية والعرقية، فإن قانون الانتخابات اللبناني الحالي، يفصل بينها مذهبياً مانعاً اندماجها، ومؤسساً «فيتوات» جديدة تعتبر أكثر تخلفاً من كل قوانين الانتخابات السابقة. هذه القوانين التي كانت بتبنيها في النظام الأكثري تحرم فئات لبنانية كبيرة من الدخول إلى المجلس النيابي.. لكنها لم تكن تعمق الانعزال الاجتماعي القادم الذي يؤدي إليه القانون الحالي.. فالقديم كان يحافظ على الانقسامات.. أما الحالي فيعمّقها. ولا ننسى أن القانون الجديد، يخلق حالة احتراب بين الأحزاب القديمة الطموحة داخل كل مذهب باستثناء «الثنائية الشيعية» الملتئمة لإحساسها بخطر إضافي من الإرهاب والإقليم، و«إسرائيل».
وتأتي عرقلة تشكيل اللوائح أيضاً جراء إصرار داخلي مندفع بإيحاءات خارجية، لمنع حزب الله من تركيب تحالفات عابرة للمذاهب تزيد الاستقرار الداخلي مناعة.. وما الضغوط على حلفائه المسيحيين إلا جانب بسيط من الإصرار الغربي ـ السعودي على عزل حزب الله عن المؤسسات الدستورية للدولة والتسبب بإلغاء دوريه المناهضين للكيان الإسرائيلي والإرهاب.
على المستوى الإقليمي، تشكل المصالحة السعودية، مع رئيس الحكومة سعد الحريري بعد خلافات عميقة وسيلة «لتنظيم سعودي للانتخابات».. في لبنان وليس في نجد، وعلى قاعدة إسقاط مرشحي حزب الله وعزله عن علاقاته بالفئات اللبنانية الأخرى.. الأهداف هنا إقليمية صرفة، لأن هذا الحزب أصبح شديد الفعالية في سورية والعراق، ونموذجاً لثوار اليمن وله علاقاته العميقة بانتفاضة البحرين والتيارات الوطنية في معظم أنحاء شبه جزيرة العرب، وشمال أفريقيا وبعض أنحاء العالم الإسلامي. وللسياسة الأميركية أدوارها العميقة في التأثير على الأحزاب اللبنانية والمؤسسات الدينية، تكفي الإشارة إلى أربع زيارات متعاقبة في أقل من شهر لمعاون وزير الخارجية الأميركي ساترفيلد المتخصص في شؤون لبنان منذ كان سفيراً لبلاده فيه، تخللتها زيارات لوزير الخارجية الأميركي تيلرسون الذي أقيل منذ ثلاثة أيام.
ولا يجب إسقاط الدور الإسرائيلي في التأثير على الانتخابات اللبنانية عبر افتعال خلافات حدودية في البر والبحر وتوتير الأجواء بما يوحي بإمكانية إلغاء الانتخابات من خلال عدوان إسرائيلي. وهذا ممكن إذا ثبت للأميركيين والإسرائيليين.. وربما للسعوديين أن حزب الله قد يفوز مع تحالفاته بعدد مقاعد نيابية تجعله أكثر من مراقب لأداء السلطات الدستورية.
..هذه هي الصورة العاكسة لأوضاع القوى اللبنانية التي تريد حيازة مقاعد كبيرة ذات طابع مذهبي لمرشحيها، ولا تستطيع إقفال أذنيها عن همسات الإقليم ونصائحه التي تحوّلت من مجرد وشوشات إلى صراخ وأوامر… وتعرف أن تجنب العلاقة مع حزب الله قد يؤدي إلى عزلها داخلياً لما يتمتع به هذا الحزب من قوة داخلية وإقليمية مع اتجاه نحو الصعود العمودي. وعندها فلن تجد بعض القوى اللبنانية مكاناً إلى جانبه لكثرة الوافدين المتوقّعين.
والدليل أن كامل القوى الداخلية باستثناء المستقبل «السعودي» وحزب القوات «السعودي ـ والغربي»، نجح في عقد تحالفات على «القطعة» مع الحزب وحلفائه، بشكل «لا» تميت الذئب ولا تبيد الغنم» أي انها تحالفات من النوع القادر على احتواء أي تطور مستقبلي مباغت ينتج من انتصار الدولة السورية على أخصامها بشكل كامل.
فهل هذه انتخابات لبنانية، أم انتخابات إقليمية ـ دولية تجري على الأرض اللبنانية؟
إنها من الصنفين معاً، لكنها هذه المرة لا تؤدي مسبقاً إلى تحالفات سياسية مبدئية إلا في علاقات حزب الله مع حلفائه في الأحزاب الوطنية. أما ما عداها، فهي تحالفات براغماتية تلبي بعض الضوابط الإقليمية والدولية، لكنها تستجيب أيضاً، لمصالح القوى بالهيمنة على مذاهبها تمهيداً لتنظيم التحالفات السياسية في مراحل ما بعد الانتخابات التي تعكس عادة، فنون اللبنانيين في تلبية حاجات الإقليم والتحضير.. للانتخابات المقبلة لرئاسة الجمهورية.