«بلاد النور»… مرويّة مزخمة بعفويّة اليقين
سهيل الطشم
مُترعُ بعشق الدارة التي تسلّل إليها من سورها ورمُ الثريا في الليالي المقمرات. وعلى نغم التخيّلات التي تُنثَر حول الجدار وما تعرّش عليه من الممتعات التي روتها حنفية سخيّة، كان أحمد طيّ يستجلي الشمس التي ما فتئت تتسلّل من خلال الأفياء الكثيفة في قريته الوادعة في سفح شرق البلاد. وحالما كان يرود منبسطات الجنّة المحيطة بالبيت المستسلم لفلسفة العناصر الطبيعية، راح الضياء يغسل صفحة وجهه الذي لوّحته أنداء الفجر المتّكئة على شواطئ التاريخ، لأنها حزمة من أنوار تهافتت إلى جبهة الأب المتعرّقة بلون التراب، والموسومة بشرف الزرع والنبت والخضرة والتحدّي.
أبداً يطلّ أحمد طيّ مع أبطال سورياه من ضمير التاريخ، يتبادل معهم الأدوار فيسندون إلى ذاكرته الأحمال المثقلة بهموم الالتزام، وعزيمة الرغبة في المواجهة والتحوّل وصوغ التاريخ وفق منظومة الصراع، التي وجد الكاتب ساعده منهمكاً في رَكن صخور خلف أبواب مواطنيه، مخافة أن تتسلّل الذئاب الكاسرة لتروّع الأهل والبنين والصبايا والنساء الحالمات بطلّة الأبطال، حيث العودة يكلّلها الغار وتنتصب أقواس النصر تمجّد القيامة الجديدة لأمّة لم يرَ أحمد طيّ فيها إلا النور ثمّ النور ثمّ النور.
«بلاد النور»، مرويّة مزخمة بعفوية اليقين تشقّ طريقها إلى المكتبة العربية. تجمع بين تواضع الإبداع وغنى التراكم الأسطوري الذي يفلسف التاريخ ويسوّي جدائل العشيقات، تمشطها سيوف تغترف الفجر عدّةَ شغلٍ، وتعتصر الغيم ماءَ شربٍ، وتبشّر بطلائع أجيال ستولد وفق هذا الإعصار الذي انتخبه أحمد على وقع اصطفافات مخيّلته الملتهبة بوهج العقيدة.
وها «عشتار» تستيقظ في مستهلّ الحكاية تخاطب الشمس ص 13 ، وتحنّ إليها عصافير الصباح ص 14 ، وتنبلج الينابيع من زحمة الرمال لتشكّل «نهر الراعي» ص 14 ، ويتوّج «هاني» جبّاراً على قياس الحدث المهيب ص 19 ، ويدور الحوار مع الأبطال المفترضين: «آنو»، «نادان»، «أحقيار»، «أفريم»، و«نازربال» و«تمّوز» وسواهم من الذين يصوغون خريطة الزمن وفق تطلّعاتهم التي تخرق جدار الهول والوهم وبُعد التكوين، على أنّ حركة هؤلاء الأبطال الخارقين تتقاطع وتتّخذ تشكيل ألوانها في كثير من الأحيان وفق آليّة عزيف الجنّ واصطراع المردة الذين يحتلّون مواقع، تنتظم لائحة أدوارهم عبر سردية مُحكَمة يسلس قيادها للراوي من دون أن تنفلت من ربقة الحقل الناظم مسارَ التفاعلات، ما يؤشّر إلى حنكة الكاتب المقتدر الذي يروم لعمله وظيفته بعفوية إبلاغية على أساس رسالة عقدية آمن بها، وظلّ يروي شروشها من صلب قناعاته التي لا بدّ لك أن تحترمها فيه، وتقدّر ارتهانه لقدسيّتها.
يتحلّق أبطال أحمد طيّ حول مساحات متداخلة على مسرح أحداث مسيرة تحاكي القدر وتعبر التاريخ وتوضّب البحار والمحيطات والمساحات الزمنية الفسيحة عبر طرازات روائية تشقّ طريقها إلى الذهول المقدّس، من خلال يوتيبيا تنتظم فيها ولائم مهولة من الأمواج الحدثية المتخيّلة تستحيل زوابع تحتلّ فضاء النصّ والوجود. وهكذا تراه يُحكم قياد أبطاله ويسلس له التحكّم بتلك المتداخلات التي تفوق التصوّر لدى من يحاول تتبّع محطّات الأحداث.
لقد توافرت في النصّ الذي أخذت بمتوالياته رتوشات تناصّية مع التراث والموروث إلى جانب افتعال خمائر من ثقافة الكاتب، أمكن له أن يجذب المتلقّي إلى عوالم بلاده النورانية. وانطلاقاً من العنوان أمكننا أن نقرأ سيمولوجيا دلالية مع الغلاف تتلازم مع المحتوى العاصف بتلاطم المركّبات الصوَرية، هذا إلى جانب نمطية تختزن إيقاعات سردية تستوطن الفعل الماضي وجملة الأركان التي تحثّ بالمتسلسل الحكائيّ الجميل. في حين تراه يفرد عبر بعض الاستراحات مواقع تستند إلى خليط ثقافيّ متأثّر بإطلالات الريف الذي استفتحنا نقديّتنا هذه بإصباحات لياليه التي تولّف بين قوّة المعرفة ووجدانية الموقف.
لأحمد طيّ مزيد من التألّق… ولريفنا البريء الزهوّ بأبنائه.