خلفيات الاتهامات البريطانية لروسيا… عالمية!

د. وفيق إبراهيم

مئات الاغتيالات التي استهدفت جواسيس مزدوجي الولاء عاملين في إطار الاستخبارات الشرقية أو الغربية، لم تؤدِ إلى ما وصلت إليه حالياً العلاقات البريطانية ـ الروسية من تدهور سريع يندفع نحو انهيار كامل للعلاقات بين البلدين.. وحلفائهما.. كانت الأوضاع في مثل هذه الأزمات تصل إلى حدود التراشق الاعلامي وطرد دبلوماسيين مشتبه بهم، ويجري إيفاد بدلاء لهم بسرعة.. وتستقر العلاقات وتعود إلى سابق عهدها وكأن شيئاً لم يكن.

لكن ما يحدث اليوم بين لندن وموسكو يثير الريبة، لجهة ان الحادثة ليست إلا وسيلة للوصول إلى حرب باردة متكاملة تعيد إنتاج الصراع بين عالم غربي متراص حول السياسة الأميركية ممسكاً بمعظم العالم الثالث، مقابل محور روسي يُعيد التذكير بالاتحاد السوفياتي، وله تحالفاته أيضاً.

في البداية يتبيّن أن المواطن الروسي سكريبال وابنته اللذين تعرضا لمحاولة تسميم بغاز الأعصاب بفندق في لندن تسببا بتدهور العلاقات، لأن هذا المواطن عميل مزدوج يعمل في المخابرات الروسية لكن لمصلحة المخابرات البريطانية. ولما انكشف أمره، انتهت الفائدة البريطانية المرجوّة منه، فأصبح عبئاً على الانكليز.. وارتاحت منه روسيا.. فلماذا تغتاله موسكو وتتكبّد عناء تهريب غاز للأعصاب، تقول إنها لا تنتجه؟ وتغامر باغتياله في حين أنه مكشوف أمامها، ولم يعد ذا قيمة في علم الاستخبارات للانكليز أو ضاراً للروس.

لذلك يجب البحث عن الأهداف من الاغتيال في حلبات أخرى وضمن دائرة المستفيدين الفعليين.. هنا ينكشف دور حزب المحافظين الذي تنتمي إليه رئيسة الوزراء تيريزا ماي.. كان المنافس الداخلي، أي حزب العمال، يتقدّم عليه في استطلاعات الرأي بين ثلاث وأربع نقاط في الانتخابات التي لم تعُد بعيدة.

وتبيّن بعد الاتهامات التي كالها المحافظون لروسيا باغتيال سكريبال وإصرارهم على حد زعمهم على الدفاع عن السيادة البريطانية، أن استطلاعات رأي جديدة جرت بسرعة برق مريب وغريب أن حزب المحافظين يتقدّم على «العمال» بمعدل ثلاث نقاط.. فيا للعجب العجيب..

ما يدفع على الاعتقاد بأن الأمر مفبرك لأهداف كبرى.. يبدأ بسرعة الأميركيين في الإصرار على أن روسيا هي التي تقف وراء الاغتيال.. وقبل إجراء أي تحقيق فعلي.. ما جذب الرئيس الفرنسي ماكرون الذي أكد بدوره على شعوره بصدقية الاتهام البريطاني.. وحدها ألمانيا، تكلّمت عن ضرورة إجراء تحقيق نزيه.. أما بقية الدول الأوروبية فبدت كجوقة إنشاد تعيد تكرار لازمتي الاتهام البريطانية ـ الأميركية.

وهنا يظهر الهدف بوضع وهو إعادة تحشيد الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في وضع عدائي لروسيا، في مرحلة عاودت فيها هذه الأخيرة خروجها من الدائرة الروسية إلى أزمات العالم وسط ظهور بوابات لتحرّر أوروبي من التبعية الكاملة للسياسة الأميركية.

كان الألمان والفرنسيون يحاولون الاستفادة من تراجع الدور الأميركي لتسجيل سياسات أوروبية تعيد للقارة العجوز أدوارها المنهارة منذ الحرب العالمية الثانية.. وهذا ما دفع بالاتحاد الأوروبي إلى رفض تأييد محاولات البيت الأبيض لإلغاء الاتفاق النووي مع إيران.. كما حضَّ على السعي لبناء علاقات اقتصادية مستقلة مع إيران والعراق وصولاً إلى مفاوضات سرية لإعادة إعمار سورية.. والتقرب من قطر والإمارات ومعظم دول الخليج.. ولم ينسَ ماكرون الفرنسي الصين التي ذهب إليها مفتشاً عن «حلف اقتصادي» في خفايا سلعها الرخيصة الثمن.. ولم ينسَ الهند.. حيث تظاهر «ببوذية براغماتية».. لعلها تعقُد له صداقة اقتصادية مع بلد ينوف سكانه عن مليار ومئتي مليون نسمة فقط.

من جهتها، تقاوم ألمانيا «ميركل» الاتجاه الأميركي بتأديب أوروبا على المستوى الاقتصادي، فترفض اتجاهات لترامب بسبب إلغائه اتفاقية المناخ وعودته إلى السياسة الحمائية التي تلغي «العولمة الأميركية» أصلاً وتقفل الحدود السياسية الأميركية أمام تدفق السلع الأوروبية والصينية. وتفرض ضرائب على معادن تستوردها أوروبا من أميركا.

ضمن هذه المعطيات، ينتفض «المحافظون» في دولة بريطانية خرجت من الاتحاد الأوروبي وتعاني من تراجعات اقتصادية وتحسدُ الألمان والفرنسيين، لقدراتهم التفاوضية.. وتستاءُ منهم لمحاولات انقلابهم على التبعية الأميركية، لأن مثل هذا الأمر يؤدي إلى ارتقائهم ضمن الاتحاد الأوروبي وخارجه إلى مستويات الدول العظمى.. ألا يتسبب أمر كهذا.. بانزعاج بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي لتحسين أوضاعها، وسرعان ما تكتشف أن هذا الاتحاد الذي يتمرد على واشنطن في طريقه إلى انتزاع مكانة اقتصادية وسياسية كبيرة على مستوى العالم، ويذهب نحو تحقيق علاقات عميقة بروسيا والصين وإيران، لذلك بدأت السياسات الأميركية ـ البريطانية باختراع معوقات تسيء إلى علاقات أوروبا بروسيا وتعيد ضبط القارة العجوز ضمن الحلف الأميركي ـ البريطاني.. فلا تتقدم باريس على لندن ولا يحقق الألمان مزيداً من النجومية الاقتصادية. وهذا ما يشجّع على اعتبار قضية العميل الروسي سكريبال واحدة من محاولات إعادة تحشيد أوروبا في إطار العبارة الأميركية، ومنح زخم انتخابي للديموقراطيين في بريطانيا.

لكن لهذه القضية أبعادٌ تتعلق بالدور الروسي في العالم، تبدأ من الإساءة الشخصية للرئيس بوتين في مرحلة انتخابات رئاسية روسية بدأت أمس، بمواكبة استطلاعات قالت إنه يحوز على سبعين في المئة من الناخبين الروس.. وجاء الاتهام البريطاني له مضحكاً لأنه أورد في مذكرة رسمية أن بوتين شخصياً أصدر قراراً باغتيال سكريبال ونفذته المخابرات الروسية.

وكان الأميركيون ومعهم البريطانيون اتهموا منذ أسبوع فقط روسيا إلى جانب سورية باستعمال «الكيماوي» ضد المدنيين في الغوطة الشرقية، زاعمين أن الطيران الروسي أباد آلاف المدنيين في غارات جوية على تلك المناطق.

إن هذه الاتهامات المتلاحقة دليل واضح على محاولات الإساءة لبوتين لعله يسقط في الانتخابات، أو.. ينجح إنما بأكثرية هامشية تشجع أخصامه على معاودة بناء معادلات داخلية قد تتمكن من هزيمته في مراحل لاحقة.

إلا أنّ الأهداف الحقيقية أبعد من هذا المنشد الصعب، وترمي إلى تحشيد أوروبي عالمي أميركي يعيد عزل روسيا عن الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.. بما يدخل الأمر في إطار إعادة بناء قواعد لحرب باردة جديدة تكبح ميل ألمانيا وفرنسا لجذب الاتحاد الأوروبي نحو سياسات خاصة تضعه في خانة القوى العظمى، وتبقيه في سلة البيت الأبيض حتى إشعار آخر. وهكذا يظهر بالنتيجة أن «النحيب» الغربي المفتعل على الغوطة الشرقية، والضجيج البريطاني حول اغتيال سكريبال، ومحاولات اتهام الجيشين الروسي والسوري باستخدام الكيماوي والحملات الدائمة على بوتين حيناً وكامل روسيا حيناً آخر.. إنما هي مؤشرات تعكس الضائقة التي يمر بها الأميركيون نتيجة تراجعاتهم في سورية والعراق، ما يجعلهم مصابين بجنون لا يعرفون كيف يحدّون من تدهوره. فهل تدفع انفعالات ترامب العالم نحو حرب مجنونة، بهدف الحد من الصعود الروسي؟ يبدو أن المواقف الروسية الحازمة حول استعداد موسكو لصد أي هجوم غربي عليها أو على حلفائها، من المهدئات التي تدفع بالأميركيين إلى تفتيش عن وسائل أخرى للحد من الأضرار، وذلك بحروب باردة تستنزف، إمكانات الدول المندرجة في إطار الحماية الأميركية، خصوصاً في الشرق الأوسط، حيث يعتمد البيت الأبيض على انفعالات محمد بن سلمان الذي يسعى ليتوج نفسه ملكاً على جزيرة عربية حوّلها آل سعود أداة رخيصة في يد الأميركيين يستعملونها في وجه المصالح العربية الفعلية، والصعود الروسي والقوة الصينية المندفعة من غير طائل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى