«لي وتر ضائع»… تقاطب مكانيّ بين مدينتين ورؤيتين
رفيق أبو غوش
«وكأنّ الشّتاء لم يطرق بابها. وكأنّها لم تغتسل يوماً برذاذ المطر. لكثرة ما أشرقت الشمس في عينيها أمسكت كرة الجمر فظنّوا أنّها تمسك القمر».
من هذه النافذة نطلّ على رواية مايا معلّاوي الموسومة بـ«لي وتر ضائع»، والصادرة عن «دار الفارابي» 2018. ونطلّ على «مريم» بطلة الرواية التي ترافق الكاتبة في خطّ سير موصول حتّى النهاية، وتتمظهر عند كلّ منعطف بكلّ الأحمال التي تحملها والوجوه التي تتزيّن بها.
العلاقة بين الوتر والحنين قديمة قِدَم المعاناة، راسخة في وجدان الطفولة منذ البواكير الأولى لموج الحياة. هكذا تأخذك الرواية إلى تخوم الطفولة حيث الذكريات الساخنة تتقاطر وتتراكب في الطريق الى الشطّ المنتظر. وتمرّ بك الرواية في هذيانات الحرب وما رافق تلك المرحلة من عبثية وضياع وعزف خارج السياق، مروراً بقصص الحبّ والمعاناة والعلاقات العابرة وشغف الوقوع فيه، وقصص الجامعة والعلاقات غير المتكافئة في مجتمع مزّقت أوصاله الحرب، ودفعت بالناس إلى مغادرته واتّخاذ أماكن أخرى تكون بديلةً من بلاد القهر والموت وسيلان القيم، وتكسُّر الطموحات.
الرواية تنتظم في خيط مشدود من البداية على سلاسة في التعبير، ونعومة في السرد، ويتجلّى فيها زمن استرجاع الذكريات الحميمة والجميلة بتلاوينها كلّها ودفئها سالكة الطريق من بيروت ـ مدينة المقاومة والكوابيس والشهداء ـ والفرح المؤجّل، إلى لندن مدينة الضباب التي ستحتضن طموح «مريم» وتغذّيه بكلّ الحبّ والسعادة. «إنّما كلّ سعادة خارج إطار الحبّ هي سعادة مصطنعة حتّى مع الأمكنة». فمع هذا الانتقال والتخفّف من وزر الأمكنة لم تستطع لندن أن تُنسي «مريم» حبّها المكسور في بيروت، ولا أنستها غربتها. تلك المشاعر المتناقضة والمتباينة من قصّة غرامها بأستاذها في كلّية الطبّ ومن النظرة الأولى إلى مشاعر الخسران والخيبة من وطن نخسره يوميّاً بفعل الحروب العبثية والانتماءات الشاذّة والطائفية البغيضة، إلى غربة ترشّ الملح على جراحاتنا وتحرق أيامنا.
هذا الشغف كلّه يتقاطع في الرواية، ويتظهّر على سطح النصّ وتصل مراوغته إلى الفضاء الروائيّ. فـ«مريم» فتاة جنوبية تمرّست بالقهر والحرمان، وتشبّعت بروح الأرض والوطن، وصلب أحلامها على خشبة الخيبة شأن الكثيرين من أبناء وطنها، ونازعها شوق إلى تغيير الحال، فكان مع قصّة الحبّ المحكومة بالحيرة والانتظار والمشاعر المؤجّلة. لكنّ الخيبة وفقدان الأمل لم يقفا في طريق طموحاتها بل زوّداها بالعزم على إكمال مسيرتها التعليميّة، فكلّ ما يشعرها بقيمتها إنّما هو وطنها. والأرض الجديدة التي وطأتها قدماها لم تُنسِها زواريب بيروت، ولا رائحة القهوة المنتشرة على طول الأرصفة، ولا طعم «منقوشة الزعتر» في فرن «العمّ أبي راجي». تلك الذكريات التي تتلبّس الزمن الروائيّ، وتلقي بثقلها على روح «مريم» مع خيط يشدّ القارئ إلى مطارح نائية في الروح، ولغة تتقاطع فيها أساليب الاستفهام والتعجّب، وتتناوب عليها الضمائر الغائب والحاضر… بانتقالات حرّة بين المتكلّم والمخاطب والغائب، وتعمل على تفجير المنطقة البيئيّة بين الواقع والمتخيّل، الريف والمدينة، الإخلاص والخداع، الغربة المكانية والاغتراب الوجودي. كلّها متناقضات ومتضادّات تحتفي بها الرواية وتتظهّر تفصيلاتها اليومية من خلال شخصياتها المتعدّدة والمتجانسة والمحتفية بالاختلافات والمتباينات كلّها.
ويتضافر في النصّ السردي بالسيَر الذاتية، الشخصيّ بالآخر، الآنيّ بالمستقبليّ في توليفة تتّخذ دوراناً حلزونيّاً يتناول مفهوم الزمن الجاثم فوق روح الإنسان النزّاعة إلى التحليق وكسر طوق الزمن، والخروج من الإطار المقيّد لحركة الروح. المعبّر عن وحشة الإنسان المعاصر وغربته ووجوديته.
أمّا الأماكن والأوطان «التي تصطبغ بدمائها، وتتعطّر برائحة حرائقها، وتطرب إلى أنين الأرامل والأيتام»، فتبّاً لها من أوطان».
هكذا هي المطارح العربيّة من بيروت إلى بغداد إلى دمشق إلى فلسطين تأكل لحم أبنائها، وتهزأ بضحاياها.
أمّا لندن المدينة المتخيّلة، مدينة «كولاجية»، سينمائيّة، فهي شابة تحتضن الغرباء وتحمي طموحاتهم، مدينة افتراضيّة في عرفنا، تجمع المتناقضات في توليفة بديعة: المقدّس والمدنّس، العراقة والعصرنة، الحرّية والحرّية، الكوابيس الجميلة، السلام. وهي قبلة كلّ هارب من جحيم الانتظارات المملّة.
رواية «لي وتر ضائع» تمثّل تقاطباً مكانياً بين مدينتين، ورؤيتين، تشدّك سلاستها وحلقاتها المُحكَمة، وسهولة مخارجها، بلغة الحياة اليومية المعبّرة عن نبض الإنسان في اختناقات الزمن. تقرأها فتُمتِعك، وتجني بواكيرها متطلّعاً إلى غرسٍ جديد.