الانتخابات المذهبية التحشيد لتلبية.. الخارج
د. وفيق إبراهيم
منظر رئيس حكومة لبنان منتقلاً بمروحية رسمية إلى منطقة عكار الشمالية ومعه وزراء آخرون ليهاجم في خطبة تحشيدية مكوّناً وزارياً آخر هو حزب الله، متّهماً في الوقت نفسه الرئيس السوري بشار الأسد وتحالفاته اللبنانية بتشكيل اللوائح المنافسة له.. مثير الاستهجان.. والضحك في آن معاً.
كان يمكن تجنّب الانتقادات التي يستعملها سعد الحريري لو اقتصرت كلماته على مدح أبيه والإشادة بشخصه كما يفعل دائماً، مقبّلاً الأطفال والعجائز ومرافقيه، مهاجماً من أغفَلَ عن إنماء هذه المناطقّ!.. للتذكير فقط فإن رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري تسلّم مجلس الوزراء عقداً كاملاً، تمكّن خلاله من استملاك «السوليدير» والواجهات البحرية ومئات العقارات، واستدانة نحو خمسين مليار دولار لم يعرف أحدٌ أين أنفق معظمها، إلا الضالعون بفنون المزاريب والهدر العام.
وقضى «السعد» في مرحلة ما بعد أبيه وحتى اليوم رئيساً للوزراء رافعاً من قيمة الدين العام إلى أكثر من 80 مليار دولار والحبل على جرار مؤتمرات الإنماء فوائد على قروضهم والسجود في حضرتهم… المضحك هنا أنّ كل البلدان تستدين لتنفق على إنماء منتج تسدّد منه قيمة الدين وتُسهم في التطوير العام.
أما الإنماء الحريري، فعجيب.. لأنه لا يؤدي إلا إلى اختفاء الأموال بسحر ساحر وانتفاخ جيوب السياسيين من كل الأنواع والألوان بقيادة المايسترو الممسك بالمال والموزّع له، حسب الأحجام والولاءات.
هناك مؤشرات على هزالة هذا النوع من التحشيد تقمّصه حزبان نشيطان، وهناك آخرون من مدّعي الفقه يزعمون أنهم «طردوا» السوريين من لبنان. وبينما كان ممثلون عن هذه القوى يلقون خطباً عصماء أمام حشود حزبية، يهاجمون فيها مرحلة الوصاية السورية، كانت طائرات حربية تخترق أجواء لبنان كدأبها اليومي.. حتى ظّن البعض أنها سورية.. وتبيّن أنها مقاتلات إسرائيلية تسرح في سماء لبنان لتراقب منطقة دمشق وغوطتها وأريافها.. وتحرّكات حزب الله في الجرود المؤدي إليها.. تماماً كما كانت تفعل، منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى… تأمر السلطة التنفيذية بالتصدّي لها. ولم تفعل بعد.. لا بد هنا من ذكر هذه المعادلة اللبنانية العجيبة: كان هناك و«صاية سورية» مزعومة شكل الرئيس رفيق الحريري عمودها البنيوي وحليفها الأساسي بموافقة سعودية لمدة عقد من الزمن.. تمكن «بمعونتها» من إلغاء كل القوى الأساسية في طرابلس وبيروت وصيدا، والبقاع الغربي وزحلة وجبل لبنان محتكراً كل شيء تقريباً، حتى أن أحد أبرز الوزراء الحريريين الحاليين كان في تلك المرحلة من أهم مؤيّدي الدور السوري في لبنان.. عودوا إلى الأرشيف الإعلامي لتظهر الحقائق، كان حزب الله وحركة أمل والأحزاب الوطنية في المقام الداخلي الثاني في التركيب، والأول في مجابهة العدو الإسرائيلي.
هذا الوزير نفسه لم يتأخر عن وصف منافسيه الانتخابيين بـ «الأوباش» مثيراً ذعر «السنة» من شيعة يتجمّعون على حد قوله في «قالب واحد لسحق الآخرين». وهذا أسلوب مثير للغرائز ويهيئ لضعضعة الاستقرار الداخلي.. طرفة أخرى تثير الضحك.. لم تفعل الحريرية شيئاً لعكار إلا شحنها بالمزيد من الإثارات المذهبية للتعمية على إهمالها الكامل لها المتواكب مع اعتماد سياسات تقبيل واحتضان كل الحاضرين مع هزّ أرادف وخصر.
وكانت منطقة الجنوب تنافس عكار بالتخلّف والإرهاب والفقر.. لكن ما إنجزه الرئيس نبيه بري فيها من مشاريع إنمائية واضحة، وضعتها على رأس المناطق المزوّدة ببنية تحتية متقدمة من مياه وطرقات ومدارس ومستشفيات معتدلة.. فكيف تمكن بري من ذلك وعجز عنه الحريريان الأب والابن في عكار؟ العلم عند المتوغّلين في خفاياه وحلقاته.
لذلك تشير هذه المعطيات إلى ضرورة البحث عن أسباب هذا التحشيد الطائفي المزعزع للاستقرار.. ولولا أن الأحزاب الوطنية وحزب الله، تشعر بخطورة المرحلة، وتكظم غيظها بالاعتماد على وعي مؤيديها.. لكان الوضع على حال متردية ومتدهورة إلى حدود التفاقم.
ولأن النظام السياسي اللبناني طائفي، فيجب أن يكون التحشيد في مواسم الانتخابات على منواله، إنما بمستوى لا يسيء إلى الاستقرار العام، لكن العيارات التحشيدية الحالية تضرب في كل اتجاه ولا تعبأ بالوضع الداخلي، فتستعمل لغة سياسية فيها الكثير من الانحطاط الشعبوي المتوغل كثيراً في استثارة الغرائز.
هذا هو المنشد الأول من «الإسفاف التحشيدي» ويؤشر إلى حقيقة كامنة وهي أن مستعمليه «ضعفاء» لم يعُد لديهم قوى شعبية، كشفتهم أخيراً بعدما تبيّن لها أن وعودهم ليست إلا مجرد كلمات تتبخّر بعد الانتخابات. ويبقى حال الناس أكثر فقراً مما كانوا عليه.
لقد أصبحت طريقة التحشيد كلاسيكية ـ تقليدية تنطلق من التخويف بالآخر «الإيراني ـ السوري – الشيعي»، الذي يخطّط للاستيلاء على لبنان عبر حزب الله والأحزاب الوطنية، وينسى هذا المحشّد الإرهاب الداعشي وملحقاته، ومئات القواعد الأميركية المنتشرة في العالم العربي، وأنظمة في دول القرون الوسطى تنتج سباق البعير وأجمل ناقة!!
أما الجانب الذي لم يعُد مخفياً من استعمال «تحشيد سوقي» لا ينتمي إلى العلوم السياسية بكل ألوانها، فيذهب إلى أنه ضرورة لقلب موازين قوى لبنانية جديدة، وذلك لمعاودة إنتاج نظام جديد ويعرقل الحركة الإقليمية لحزب الله والتحالفات واضعاً لبنان في خدمة المحور الأميركي ـ السعودي.. وبالتالي الإسرائيلي. وهذه الخطة ضرورية لقوى التحشيد التي اطلعت على تقدير انتخابي أعدّته وكالات الاستخبارات الأميركية بسرية مطلقة، ورد فيها أن حزب الله والحلفاء والأحزاب الوطنية، على وشك الإمساك بغالبية نيابية بوسعها منح الحركة الإقليمية لحزب الله المزيد من الحرية والتغطية. لذلك يعتبر الأميركيون أن على حزب المستقبل وتحالفاته جذب التيار الوطني الحر نحوهم بأي وسيلة متوفرة.. وهذا يعني ضرب التحالف القائم بين هذا التيار العوني وحزب الله.. ما يؤدي إلى توفير أكثرية نيابية كبيرة معادية للحزب، لن تتورّع عن المطالبة بحصرية السلاح في إطار الدولة، ورفض حركته الإقليمية.. المؤشرات على هذا الأمر لم تعُد خافية على المتابعين.. وواضحة في تصريحات بعض المسؤولين في التيار العوني، مقابل تصريحات أخرى توحي وكأن العونيين يريدون أن يلعبوا دور «الموازن» بين صراعات القوى الداخلية. وبذلك يحققون مشروع إعادة الإمساك بالقوة المسيحية.. بجهود متواضعة وربما بالدولة بكاملها من خلال الدعم الفرنسي ـ الأميركي.
يتبقى الكشف عن الوسيلة الأخيرة للتحشيد وهما نقطتان: احتكار البث الإعلامي ببرامج تحشيدية محطات «تلفزة صفراء» لها متابعوها، إلى جانب توزيع كميات من الأموال على كل من يمتلك نفوذاً اجتماعياً، من رؤساء البلديات والمخاتير وزعماء العائلات والأحياء والمؤسسات الدينية و«القبضايات» والأقليات مع مساعدات للمقيمين في الخارج لتشجيعهم على الانتقال من مدينة إلى أخرى للانتخاب الكثيف.
إنّها إذاً الحرب الكاملة على حزب الله بدوريه الداخلي والإقليمي، وتشمل أيضاً أدوار حلفائه في الأحزاب الوطنية والقومية من دون أن تستثني فقراء لبنان من كل الطوائف والمذاهب، هؤلاء الذين يجري تحشيدهم بوعود وهمية عن وظائف وإنماء وأعمال، منذ عقد ونصف العقد، ولم يروا شيئاً منه حتى الآن.. ولن يروه أبداً، لأن المحشّدين ينتمون إلى طبقة من الرأسمالية المتوحّشة الخارجة من صلب أعمال الوساطة والسمسرة، وبيع كل شيء بما فيها الأوطان.. والناس والسجود أمام أولياء الأمور في القرون الوسطى لجهة الضفة الأخرى عند حزب الله والأحزاب الحليفة، فيتعاملون بحذر مع أساليب التحشيد السوقية، محاذرين الوقوع في فخاخها لوعيهم خطورة المرحلة.. وهم يعرفون أن الانتصارات الإقليمية التي تحققت في سورية والعراق تمكنهم من «فرض» الاستقرار في لبنان بموازنات القوى الجديدة.. مستهدفة من الحلف الأميركي ـ السعودي، بواسطة قوى التحشيد الداخلي، ولا شك من قدرتهم على احتوائها، وهم الذين انتصروا أكثر من مرة على العدو الإسرائيلي، ويعرفون أن العدو لا يزال متربّصاً.. وهم أيضاً متربّصون له، ولامتداداته في الداخل العربي واللبناني.