الشاعرة ريف حوماني: أتدفّق دائماً… وأسعى إلى تحقيق الحبّ والخير والجمال
حاورتها رنا صادق
صريحة إلى حدّ الجلاء، وغامضة حدّ التشويق، مداركها واسعة وثقتها ثابتة على خطوط النار والحبّ.
هي التي تتنفّس بيروت المدينة وتخشى القرية المجهولة، كاتبة وشاعرة دأبت في مشوراها على تحديد مسارها الأدبي عموماً والشعري خصوصاً، حيث حاولت الاجتهاد بقيود الإيقاع وفلك المفردات، الأمر الذي أنهكها في القصيدة العمودية، إلى أن سلكت طريقها الحقيقي باتجاه القصيدة النثرية، وأبدعت ووصلت إلى ما هي عليه اليوم. الشاعرة ريف حوماني خطّت في مهد القصيدة جدائل شِعرها وإبداعها.
تكتب منذ المراهقة، عشقت اللغة العربيّة في طفولتها وحملت لها إعجاباً بلا حدود، عشقت مائيتها وطواعيتها وحيويتها وعصريتها وقدرتها على احتواء كل تجديد في الرؤيا. شاركت في مسابقات الشعر والإلقاء التي كانت تُجرى في المدارس، ونشرت الكثير من القصائد النثرية والعمودية في زوايا المجلات الفنّية والسياسية، وكتبت بفائض من الحزن والشعور بالخيبة. لم يزرع هذا العالم على جسدها سوى عواصفه، ولم يحصد سوى البروق والرعود في كتاباتها.
«البناء» تعرّفت عن كثب إلى الشاعرة ريف حوماني التي تطرّقت إلى وضع الشعر عموماً والقصيدة النثرية خصوصاً وملامح النقد اليوم.
لا شيء يشعر اللغة بالكفاية سوى الموت
ديوانها «لا شيء يُشعر اللّغة بالكفاية سوى الموت» هو الوحيد اليتيم؟، لاقى اهتماماً واسعاً، حيث تشير إلى أنّها كانت تتملّكها رغبة المغامرة والتجاوز وقول ما هو مختلف، لأنها لا تريد أن تكون نسخة عن أيّ شاعر آخر. وتقول: حاولت أن أكتب العبارة التي تشي بي وتكشف هويتي وتجعلني نسيجاً مختلفاً عن سواي. سعيْتُ ربّما إلى «تفجير اللّغة» على طريقتي الخاصة، لا كما يفجّرونها ويقتلونها ويدهورونها كل يوم آلاف المرّات في بعض الكتب التي يرسمون على غلافها لفظة «شعر» أو على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تُرينا العجائب كلّ يوم. أنا لا أحبّ لفظ «السُّترة» لا في اللّغة ولا في الحياة بل إنّي أكره كلّ ما هو مستور وغير متورّط، وغير مفضوح، وكلّ ما هو موروث وجاهز ومكرور.
في هذا الديوان حاورَتْ الرجل كثيراً، كتبْت لرجلٍ يُشبهها، وطرحَتْ سؤال الحبّ بشراسة وجرأة وجنون وشهوانيّة وإيروتيكيّة، وأيضاً ببتولية وطهرانيّة. وتقول إنّها سظلّ تكتب عن الحبّ، ثانياً وثالثاً ورابعاً ستكتبه كحوت يريد ابتلاع جميع البحار لأنّ مجتمعاتنا العربيّة ما زالت تتنفسه تنفساً اصطناعيّاً، تتظاهر بالتحضّر والانفتاح، ولا تحيا حياة سويّة لا في الحبّ ولا في الجنس.
إقطاعها الشعريّ
القصيدة رسالة مفتوحة إلى العالم. ويختلف الشعراء في إيصالها ويتفاوتون في وضع القارئ معرض الاهتمام الأمل. أمّا ريف حوماني فتعتبر نفسها كاتبة مغامرة وجريئة، تكتب بجنون، وبرعونة من هو مستعدّ للخسارة.
وتقول: يغادرني القارئ والناقد في لحظة الكتابة. يغادرني حين يكون اللّجام الذي يريد أن يدخل فمي ليكون رقيباً على ما أريد قوله. إنّ عين القارئ ـ الرقيب تجعلني أمارس عن قصد، أحياناً، نوعاً من الإقطاع الشعريّ الذي يجعلني أتخفّى وراء لغة صعبة لا يتقبّلها الذوق العام بسهولة. فرغم كلّ الجرأة التي اتّصفت بها نصوصي ما زال هناك الكثير من الكلام الذي أشتهي أن أقوله في الحب والرجل، وأشتهي أن أكتب بحسب كميات العشق الموجودة في داخلي وبأقلام طفولتي التي تعشق الضجيج والفوضى والتخريب. ربما يكون القارئ قد نجح أحياناً في منعي من كتابة بعض ما أشتهي لكنه لم ينجح في أن يكون حاضراً في كتاباتي. لقد توقفتُ ثماني سنوات عن الكتابة في محاولة لعدم إرضائه. لن أعيد الكرّة مرة أخرى.
القصيدة هي الشيء الوحيد الذي يفتح شهيّتي للحياة، تقول حوماني، للحبّ، للمغامرة. والرجل فيها هو الوطن والمكان والانتماء والدلالة الشعريّة والضوء الذي تستنير القصيدة بوهجه، وأنا لا أقوم بتركيبه تركيباً ذهنياً على الورق، لأنّه منبثق من حرارة الحياة وجمالها. وقد أنزع في القصيدة أحياناً للإطالة مثل من لا يريد للحظة الشعر أن تنتهي أو ربّما تكون محاولة لإطالة عمر الحب على الورق.
عوائق الشعر كثيرة مع كثرة تطور وتسارع عجلة الحياة، وبالنسبة إلى حوماني فتعتبر أنّ هناك عوائق يواجهها الشاعر مع محيطه الخارجي ومنها حاجته إلى العزلة والابتعاد عن الكرنفلات والمناسبات الاجتماعية التي تتعارض مع مواقيت الكتابة والإبداع.
وتضيف: إضافةً إلى ما يحمله المجتمع من رؤيا عاجزة عن تفهّم مهنة الكاتب أو الشاعر أو تصرّفاته عموماً. في الحقيقة تلك عوائق يمكن تجاوزها بشكل أو بآخر لكن الجحيم الحقيقي هو ما يواجهه من صراع مع عالمه الداخليّ من أجل الإبداع وعطاء ما هو أفضل وأروع.
في سيادة النقاء
البعضُ يعتبر أنّ القصيدة قلعته المحصّنة من أحزان وآلام الواقع وبالنسبة إلى حوماني، فإنها تعتبر أنّ حقيقة الأشياء تحزننا، كلّ ما حولنا يدفعنا إلى الحزن. نحن مثقوبون بأحزان الواقع، نتألّم، نضيع، نسقط، لذلك نحاول أن نتلمّس الحياة بمخيّلتنا، وهذا ليس هروباً سلبيّاً إلى كواكب الخيال بقدر ما هو هروب إلى الحزن الأعمق الممتلئ بالرفض والمتطلّع إلى الفرح، ذلك أنّ الحزن يصبح أعمق غوراً في القصيدة، القصيدة التي تأخذنا إلى غابات الصدق والحقيقة والحلم والرغبة في مسح البشاعة عن وجه العالم، وفي سيادة النقاء.
وتتابع: أنا داخل القصيدة أسعى إلى تحقيق الحبّ والخير والجمال، وأتدفّق دائماً، بزخم وقوة ونبض العاشقة التي تكون في أوّل الحبّ، بل إنّ الإبحار مع القصيدة له بعدٌ حميميٌّ لا يوازيه الإبحار مع أيّ شعور آخر لأنّنا نمضي إليها كما نمضي إلى التابوت: وحيدين، وحيدين دائماً.
الشعر الحقيقيّ لا يقبع فقط داخل سجون القصيدة العموديّة أو داخل قصيدة التفعيلة. لقد أثبتت قصيدة النثر نفسها في بيروت، وهي في حال من التشكّل والتحوّل الدائمين، والمتلقّي ينتظر منها مزيداً من التوهّج والابتكار المقرون بالإثراء والتعميق. لكنّ الأمر المقلق هو أن تصبح هذه القصيدة اليوم مشاعاً لأنّها لا تملك الضوابط أو المعايير التي تحصّنها من الدخلاء. لكنّ الزمن كفيل بمحاكمة الجميع، فهناك من سيُنسى كأنّه لم يكن، وهناك من سيُكتب له الخلود بحسب ما تشير حوماني إلى «البناء».
نثرٌ لعشّاق الحرّية
ما بين القصيدة النثرية وأبياتها المكثّفة تجد ريف حوماني في فضائها، لأنها تعشق الحرّية وتعشق الاحتفال باللغة، وبهذا الكمّ الهائل من المفردات الذي تتيحه قصيدة النثر بحيث تستطيع أن تستخدم المفردة التي تريدها من دون أن يقيّدها شيء سوى قيد الجمال الصافي.
وتقول: أعتقد أنّ كتاباتي النثرية تحمل كلّ زخم الشعر وكلّ أسراره الصغيرة. ففي مراهقتي كتبتُ القصيدة العموديّة فأرهقتني قيودها بما تحتاجه من اختزال للغة والاستغناء عن مفردات لا تتناغم مع النسق الإيقاعي.
أمّا عن وضع النقد والنقّاد، فتقول: أين هم النقاد؟ إنّهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، ومعظمهم من الشعراء أنفسهم، إضافةً إلى الأعمال النقديّة الأكاديميّة التي لا تصل. إنّ معظم نقدنا مرتجلٌ وفوضويٌّ ومزاجيٌّ، وسلعيّ يُباع ويُشترى أيضاً. لكنْ هذا لا ينفي أنّ هناك من نحترم إبداعه الذي يواكب إبداع الشاعر. في المقابل على الشاعر أن يعزّز إيمانه في نفسه في ظلّ هذا الوضع، وأن يتحمّل مسؤولية أعماله، وأن يتّخذ بنفسه القرارت المناسبة لفنّه.
وأخيراً توجّهت حوماني إلى القرّاء بعبارة قالها أحد الشعراء الكبار، قال: أيّتها الصديقات، أيّها الأصدقاء، لا تخافوا نار الشعر، فإنّ الإنسان العظيم هو الإنسان الذي يحترق.
سيرة ذاتية
الشاعرة ريف حوماني من مواليد النبطيّة الفوقا في الجنوب اللّبناني، خرّيجة كلّية الإعلام والتوثيق وخرّيجة كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللبنانيّة، وكانت أطروحتها عن إيقاع الفقد والحنين في شعر شوقي بزيع.
تنتمي إلى أسرة لها صوتها الشعريّ، وإلى أبٍ شاعر ذي طاقة إبداعيّة. أصرّت على البقاء في الهامش بسبب انشغالات العيش التي لا تتيح للجميع الاشتراك في هذا الكرنفال أو ذاك، وفي هذه الظّاهرة أو تلك، باعتبار أنّنا اعتدنا في الشعر على مفاهيم معيّنة باتت بمثابة الهويّة المطلقة لظاهرات ثقافيّة عدّة من مثل: الشعراء الروّاد، وشعراء النكسة، والجيل الجديد، وشعراء الجنوب.
وُلدت وترعرعت في بيروت وتعاطت حبّها وحلمَتْ بها وأبحرت نحوها على رغم انتقالها إلى الجنوب واستقرارها فيه بعد الزواج. حين انتقلت من بيروت إلى الريف كانت الصدمة فجائيّة بالنسبة إليها، فهذا الشّرخ ولّد في نفسها شعوراً عميقاً بالوحشة وعدم التآلف مع المكان، لم تغذّ بعدها قصيدتها من الانتماء إلى المكان، وبدلاً من أن تشتعل الحروف في صدرها شوقاً وحنيناً، أعلنت الصمت والابتعاد عن الكتابة ثماني سنوات كاملة، فبيروت كانت تمنحها بارقة الضوء ولمسة الحنان وتؤجّج في نفسها عشق الحرّية والإبداع والفنّ، وتمنحها المدى الذي تنظر فيه نظرة كبيرة إلى الأفق والمستقبل.
مختارات
… كسوقٍ قائمة
كدُجْيةٍ من الآهات
كحلاوة سمّ يتجمّع في السديم
كحبّ تقاويناه وتعمّدناه على شفير هاوية
كشغف يقوم للهواء قانتًا ويُمسك عن الكلام
كتمدّد أعضائي عند امتلائها بآسان الفراغِ
كخميس الفردوس الذي يتحسّس أوهامي ونهاياتيَ المشلولةَ
كإفرازاتٍ تخرج قضبانًا من الشوك من أمعائي وتشتهي فحلًا من فحول الفقدانِ
هكذا يُحْمَل الوجعُ على الوجعِ
هكذا تفوتني يدي كلما حاولت لمس الأثير
هكذا أقعقع مفاصل اللّغة المخلّعة وأضغطها في جمجمة حبيبي
كيما أُدَوِّرَ عبوديةَ الهواجس التي تجدّد فجيعتي
من يكشف قناع شراييني وما يسير في ركابها من الحنين؟
لم يكنِ الثوب الثخين المبقّع بالدم سوى تماسك امرأة ثدياء
تنخس كبد السماء بحلمتيها
وبمغرزها الابدي
هكذا يُحمَل الوجع على الوجع
كالقهقرى من نوبات القبل التي تُقهِم على الشفاه عصيرها
ولهفتها الغوغاء
هو كل ما ترنّح على الشراشف الزرقاء من جنون خاسئٍ
والآنس من حمّى اللهيب
والصور المجهريّة التي تنمو طولا وعرضا في العظامِ
والكسور المضاعفة التي لا تجبّسها سوى الأنّات التي تحترق في ملوحتي
يا حبيبي
يا قمع العزلة الذي اقتلع ما أفْرَغَتْهُ الجدرانُ في سدّة راسي
يا قمع العزلة الذي لم يكن السؤال فيه سوى لمعةٍ جريئةٍ علمتْني الاستخارة واصطفاء أبرد لياليَّ
يا السبع عشرة عضلة قد قلبتْها ألسنةُ الجدران
لاختنق بديّوث الشهوات التي قادتْني إلى رهافتي
أيّ الصلاة أفضل لتفتيت هذا اليأس
الذي يتعدّى ولا يتعدّى
يتراجع ولا يتراجع
تُخْفيه العزلة ولا تخفيه
هذا الياس الذي يمجّ ما يسمعه ولا يعيه
لي شهوة في السّماع وإشباع وقوده كيما تتحمّص الآهات
ولي حُمضة غريبة تهدهد شهواتي البريئة
إذا مددتها امتدّتْ
إذا مسحْتُها بالماء صفتْ
إذا دارتْ على بكرةِ دائها حوَّرْتُها بحديدة أحلامي
لي شهوة زدْتُها خرزةً في تاجي
ونمنمةً على جناحي
لي في كلّ ثقبة وخيطها خُسْراً وهزالا يذهب إلى أبعد نقطة في رأسي.
أعرف أنّ زهرة المستحيل تحمله الآن بين كفّيْها كطفلٍ رضيع
لا شيء بين يديْها من الكواكب سواه
لا برد ولا ريح في أيّامها
لا برد يزعزع سمسمة أحلامه، ولا ريح ترتفع عن أفق الكلمات الجامحة في سماوة وسامته
لا شيء سوى نَوْرةٍ بيضاءَ تزفِر غنجَها الأبديَّ في عينيه الناعستيْن
لا شيء سوى ركعتيْ فجرٍ تواريه في أحشاء الرّغائب والنّذور
كم مرّة سأقول: لا يحبّني
وأتثنّى كلاقحٍ على ريف الحروف التي لا تسقيني سوى دمِ الحيّات، وسوانحِ جثثي المقبلة؟
كم مرة سأقول: كدْتُ أروق لعينيه
وأنا أحمل قصيدتَه على ظهريَ الحاني،وأسير بها مسيرةَ عشرِ أمنياتٍ أخرى بلا جدوى
وبلا جدوى أرقرق ثيابي بالطّيب والفراشات والعبير
وبلا جدوى أداري اضطراباتِ جسدي
ثمّ أتراجع في السّحاب كلمحةٍ لها تأويلان؟
كان يملك كلَّ ما يخصّ القمر ، وكلّ ما يُذهب عقلي أدراجَ الرّياحِ
كان يَدُرّ سِراج الحياة في همزة «أحبّكِّ»، ويأخذ صبيَّ أحلامي كلَّ مساء إلى الصّلاة.
كان يملك أن يخبّل أوجاعي في صرّة الأنين أو أن يرسلها في مساقط الشهوة كلّما اختلفت عليه راحتيّ في السّجود
كان يملك أن يقتطع من روحي روحًا ينفرد بها دوني، وأن يحضن منها كاف «أحبكِ» التي أخلفتْ صوب الخريف والذكريات، وباغتتني كغصّةٍ لا ينفذ وليدها إلا بسلطان القلب.
كم مرةً سأُعبئ سلّة : لا يحبّني من جسدي المهشّم كيما أستعيد من ذروة خوفه ركنا صغيرا أُحجّر حوله انتظاراتي،
أو كيما أنزلق عن ظهر ياءين ثقيلتين تجتمعان في زمني.
كم مرة سأقول: مسامير الرّغبة كسرتني برنتّها؟
مسامير الرغبة صارت وطني.