لحظة لو سمحتم: ما هو السرّ العميق في يومِ الأرضِ الفلسطيني!؟
نصار إبراهيم
«ولو قتّلونا
كما قتّلونا
ولو شرّدونا
كما شرّدونا
لعدنا غزاة لهذا البلد
وعادَ إلى أرضنا الشجرُ
وعادَ إلى ليلنا القمرُ
وصاحَ الشهيدُ:
سلامٌ
سلامٌ
على من صمدْ
الشاعر التونسي الصغيّر أولاد أحمد
عندما هنا… على هذه الأرض… لم يكن سوى الصمت يرفّ على وجه المياه الغمر بهدوء، بدأت الحياة… وُلدت الفكرة، فأبدع القمح والشقائق… رقصة الخبز والحب والمقاومة…! فكانت فلسطين.
مدهش ما جر يوم 30 آذار 2018 ذكرى يوم الأرض.. مدهش ما جرى بعد مرور 42 عاماً على 30 آذار 1976 يوم انتفضت سخنين وعرابة ودير حنا وطرعان وكابول وكفر كنا والطيبة في الجليل والنقب، مدهش ما جرى بعد مرور نصف قرن على احتلال عام 1967، ومدهش أكثر بعد مرور 70 عام على النكبة الفلسطينية.
مدهش أنّ ستة شهداء فلسطينيين كالأقمار صعدوا على سفوح الجليل: خير أحمد ياسين من عرابة، خديجة قاسم شواهنة من سخنين، رجا حسين أبو ريا من سخنين، خضر عيد محمود خلايلة من سخنين، محسن حسن سيد طه من كفر كنّا، رأفت علي زهدي من الطيبة، فأحدثوا فرقاً في التاريخ والجغرافيا والذاكرة والوعي…
في ذلك اليوم ستة شهداء استلموا راية فلسطين من آلاف الشهداء قبلهم وسلموها بأمانة الدم وسخونته لآلاف الشهداء بعدهم… فكانوا جسرا ليعبر التاريخ حاملاً أثقاله ووعوده لشعب يصرّ على المقاومة.
المدهش بعد مرور 42 عاماً على يوم الأرض أن يحاصر الفلسطينيون من يفترض أنه يحاصرهم… كيف ولماذا!
كيف نفسّر أنّ دولة الاحتلال تستنفر جيشها، الذي يُقال بأنه من بين الجيوش الأقوى في العالم، خوفاً من غزة المحاصرة منذ عشرة أعوام مثلاً… أو من الفلسطينيين الواقفين على حدود مسيجة بالجدران والأسلاك والألغام والرصاص والجنود… كيف ولماذا!؟
مدهش هذا اليوم ونحن نلمس كلّ هذا الخوف والرعب الوجودي عند دولة الاحتلال من مجرد ذكرى «حادثة» جرت قبل 42 عاماً… فتستنفر جيشها واستخباراتها ومواطنيها وتأمرهم بالتسلح وعدم النوم.
مفارقة مدهشة غريبة ومثيرة…
لم كلُّ هذا التوتر والقلق والخوف… رغم أنهم يُحكمون السيطرة على الأرض والسماء والبحر… على الهواء والخبز والماء…!؟ ما السرّ في هذه المفارقة الغريبة!؟
السرّ هنا ليس في الأرض الفلسطينية بحدّ ذاتها المجرد على أهمية ذلك، السرّ هنا هو الشعب الفلسطيني ذاته، الذي يرى في هذه الأرض حقه الأزلي حتى لو احتلت 100 عام.. أو ألف عام…
السرّ هنا أنّ هذا الاحتلال يدرك في أعماقه رغم كلّ شروط القوة الشاملة التي يملكها، ورغم كلّ الدعم والتغطية السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تؤمّنها له الدول الراعية والحاضنة… ورغم مرور سبعين عاماً من القتل والتدمير والتشويه والتشريد والحصار والتجويع والاعتقال.. أنه لم يستطع أن يكسر روح الفلسطيني العنيدة الضاربة في أعماق الأرض والتاريخ.
إذ تكفي شرارة واحدة حتى تميد الأرض وتنفجر براكين الغضب.. حينها لا يهمّ عدد الشهداء… فذلك نهر أدمن الفلسطيني شرب مائه منذ بدء التاريخ…
هذا ما يدركه الاحتلال في أعماقه.. أنه وبعد كلّ هذه السنين ومع كلّ البطش والقهر والجبروت.. إلا أنه لم يكسر روح الفلسطيني الذي يبدع في كلّ لحظة فكرة للمقاومة، فيعيد التذكير بالبديهيات.. وبأنّ فلسطين لشعبها.. وبالتالي ليس لأيّ عابر أو واهم مهما امتلك من قوة راهنة أو محتملة مستقبل على هذه الأرض التي تستحق الشهداء.. لتستحق الحياة.
المدهش إذن أنّ شعب فلسطين بوعيه العميق وبحدسه يخوض الصراح بروح أبطال المراثون الشجعان… إنه يرى كلّ ما يحدث.. ويسمع كلّ ما يجري… ورغم ذلك يواصل العناد والصبر والمقاومة.
بالتأكيد أنّ الشعب الفلسطيني يرى كلّ ما يقوم به الاحتلال من ممارسات وإجراءات واستيلاء على الأرض وبناء للمستوطنات والجدران والحواجز والقيود والتحكم بالماء والخبز، والاعتقال والقتل والحصار والتشريد وسرقة التاريخ والآثار والتشويه… وإعلان القدس عاصمة له.. إنه يرى كلّ ذلك ويعيشه.. لكنه يتحمّل كلّ هذا ويتجاوز بمقاومات مفاجئة.
الشعب الفلسطيني يسمع ويتابع منذ عقود كلّ المساومات والمفاوضات والتنازلات بما في ذلك صفقة القرن أو صفعته لا فرق… كما يرى كلّ هبوط العربان وتواطؤهم وسفالاتهم… إلا أنّ أعماقه ترفض وتتجاوز كلّ ذلك.. فيهز كتفيه ويوالي سيرته وكأنّ كلّ هذا لا يعنيه…
هنا بالضبط سرّ يوم الأرض.. إنه الحبل السري الذي يربط الفلسطيني بذاته أولا وبذاكرته وأرضه وانتمائه العميق ثانياً.
لهذا فإنّ الاحتلال يشعر بكلّ هذا القلق والخوف والوجودي رغم كلّ أسباب القوة الظاهرة والاختلال الكبير في موازين القوة… فأخطر وأعمق ما يقلق الاحتلال بعد سبعين عاماً هو إدراكه العميق بأنه فشل في هزيمة روح الفلسطيني… فشل في إجبار الفلسطيني على النسيان، فشل في كسر إرادة المقاومة… فشل في وقف الحياة والإبداع عند هذا الفلسطيني… فشل في تحطيم النقيض.
هكذا مع الزمن أصبح الفلسطيني يحاصر الاحتلال بالمعنى التاريخي والحضاري والأخلاقي والمعنوي والإنساني…
وبجملة واحدة: لقد أصبح الفلسطيني هو الأرض… لهذا لا يمكن احتلال الأرض نهائياً وبصورة حاسمة إلا بإبادة الفلسطينيين كلهم.. وهذا لم ينجح رغم مرور أكثر من 100 عام على المشروع الصهيوني.
هكذا كتب ستة شهداء فلسطينيين في 30 آذار عام 1976 سرّ معادلة التكوين الأزلية بين أرض فلسطين وشعبها.