«وارث الشواهد»… حكايات تتناسل لترسم وجع الذاكرة
محمد ولد محمد سالم
الحكاية هي بطل رواية «وارث الشواهد» للكاتب الفلسطيني وليد الشرفا، التي دخلت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لهذه السنة، فبتقنية عالية واحترافية بارزة تتسلسل الحكايات وتتشابك في عقل وعلى لسان الراوي البطل «الوحيد»، لتنسج حكاية التشرد والفقد الفلسطيني، حكاية الوجع القائم في الذاكرة، ذاكرة الشيخ الهرم الذي لا يتوقف عن سرد ماضيه وما وقع له على أذن حفيده «الوحيد»، يروي له مأساته، تهجيره، وفقده لقريته «حوض النبع» شكلت عالمه، وامتلأ بها وجدانه ونبتت منها حواسه، البيت الكبير والبيوت العامرة بأهلها والبحر الذي يحتضنها، والجبال التي تحرسه، والأشجار التي تطيّب هواءه، وتمد أهلها بأسباب الحياة.
تُروى القصة باسترجاع، حيث البطل «الوحيد» سجين لدى العدو «الإسرائيلي» في انتظار حكم ومشنقة، يتذكر حين كان طفلاً كيف أن جده سليمان الصالح ذلك الشيخ الهرم كان يُردفه يومياً على حصانه، وينطلق به من البيت الحجري الذي بناه الجد في قرية أم البساتين على مشارف مدينة نابلس محاكياً به بيت أسرته الحجري الكبير في قريته القديمة «عين حوض» على مشارف حيفا، التي هُجّر منها غداة النكبة، ويسير به في اتجاه حقله الجديد، وأثناء الطريق يروي له، وفي الحقل يروي، ويروي.. حكاية واحدة طويلة لا تنتهي، يعيدها في مرة ويضيف لها حكايات ثانوية وتفاصيل أخرى عن تلك الحياة الوادعة الجميلة التي كانوا يحيونها، بين أحضان البحر والجبل وفي ظلال الأشجار الكثيرة المثمرة التي تفوح عطراً.. عن شواهد قبور الأجداد الذي دفنوا هناك شاهدين على أطوار تاريخية ضاربة في القدم، لهذه القرية ومدينتها حيفا، بل لفلسطين كلها.. لا يترك الجد صغيرة ولا كبيرة، يتذكرها إلا ويرويها له، وكأنه يريد أن يعبئه بالحكاية كي «يكبر بين الحكايات»، ويحفظ الإرث، ويحرس شواهد القبور الفلسطينية، التي لم تعد مقتصرة على المدن والبلدات المنكوبة في 48، بل تعدتها إلى المدن والبلدات المنكوبة في 67، وفي مقدمتها شاهد قبر والد «الوحيد» الذي استشهد في آخر أيام حرب حزيران، و»الوحيد» يومئذ طفل في الرابعة من عمره، قتله الجنود «الإسرائيليون» بدم بارد وهو عائد من المدرسة التي كان يدرّس فيها في نابلس، لم يكن يحمل بندقية ولا سكيناً.. كان يتأبط كتابين مدرسيين، يعلم منهما طلابه، وفي ذلك اليوم أوقفوه على حاجز استحدثوه هناك، وأمروه برفع يديه، وحين رفعهما صوب أحدهم رصاصة إلى صدره، ثم أمروا اثنين من المحتجزين لديهم بدفنه على جانب الطريق، ولم يعرف أهله بخبره إلا بعد يومين من قتله، وأطلق سكان القرى المجاورة على قبره اسم»قبر الشهيد المجهول»، وبقي هناك سنتين، ثم قرر أبوه أن ينقل رفاته إلى قريب من بيته، وكتب في شاهد قبره الجديد اسمه الحقيقي، بينما بقي شاهد القبر القديم «الشهيد المجهول» قائما في مكانه الأول، وبعد سنوات سيموت ويدفنه الوحيد إلى جانب ابنه بشاهد جديد.
ويتسنى للوحيد عبر تدخل من صديقه الطبيب الفلسطيني «الإسرائيلي» بشارة أن يزور قرية أجداده عين حوض، ويتجول في شواهد قبور أهله، ويعاين معالم طالما حدثه أبوه عنها، فيجدها تلك المعالم قد شوهت، ويبحث عن البيت الحجري، وشاهده المكتوب عليه، فيجده قد حول إلى مركز للفن التشكيلي، ويعثر على شاهده منقوشاً بعبارة «منزل صالح المحمود بني عام 1922» وقد دفن في جدار المراحيض عائماً في القاذورات، فيصاب بموجة غضب، وينكب على الشاهد يريد أن يقتلعه من ذلك المكان، ويتدخل شرطيان فيضرب الوحيد أحدهما على رأسه، فيسقط الشرطي، ويسيح دمه في الأرض، وتتجمع عناصر الشرطة على الوحيد، فيضربونه حتى يسقط ثم يأخذونه إلى السجن، في انتظار الحكم عليه بالإعدام.
تتناسل الحكايات سلسة على لسان الراوي البطل، وتتدفق راسمة وجع الذاكرة وأرق الحاضر، وتلك العذابات المزمنة التي عاش بها «الوحيد»، ولم يستطع أن يتخلص منها، حتى حين سافر إلى بلاد الغرب للدراسة والعمل، ظلت كامنة في وجدانه، يعيش بجسده هناك، لكن وجدانه وأحلامه بقيت في القرية الذاكرة، في الوجع المؤرق الذي حقنه به جده.. يتزوج وينجب بنتاً، لكنّ الذاكرة لا تخبو، وسوف تتأجج ذاكرته بالألم عندما يعود بشكل طارئ للإشراف على علاج جده المريض، وينقله بوساطة من بشارة إلى الأراضي المحتلّة للعلاج، فيكون ذلك مقدمة للحادثة التي أودع بسببها السجن، وقبل ذلك كان وهو في مهاجره يروي لابنته الحكاية، ويصف لها القرية والبيت الكبير، ما جعلها تصاب ـ على بعدها وحداثة سنها ـ بعدوى الذاكرة الحية، وحين تبدأ تتعلم الرسم، فإنها ترسم القرية ومسجدها والبيت الكبير، كذلك تصاب زوجته ريبيكا، وصديقه بشارة بعدوى الذاكرة الحية، وينتقل إليهما الوجع، وعندما ما يسجن يبذلان ما في وسعهما من جهد للدفاع عنه، وبسبب ذلك يسجن أيضاً بشارة بتهمة ممالأة «المجرم» الوحيد في جريمته.
لن يسلم قارئ «وارث الشواهد» هو الآخر من الإصابة بعدوى الذاكرة الحية، والوجع المستمر، حين يتوغل في حكايات الجد لحفيده عن قريته ومعالمها وشواهدها، مع ذلك السرد الجميل ولغة المشاعر الآسرة التي ينتقيها وليد الشرفا، وهو يأخذنا متقدماً مع صفحات الرواية، وهذا وحده نجاح كبير للكاتب، حيث يترك أثراً بالغاً في نفس قارئه، ولقد كان التركيز على الشواهد الحية الماثلة في أعماق الأرض المحتلة -وخاصة داخل الخط الأخضر- التي لا تزال تنطق بلغة عربية فصيحة محفورة في الصخر أسماءَ الموتى وأسماء المساجد وأسماء المنازل العريقة، اختياراً سردياً ذكياً يجعل من تلك الشواهد أبطالاً حية في مواجهة التهويد المستمر الذي طال كل شيء، فرغم التشويه والتزييف وسرقة التاريخ والتراث فإن تلك البقايا لا تزال تؤكد أن «الأرض بتتكلم عربي»، وأنه كان هناك شعب له تراث وجذور تضرب بعروقها في أعماق التاريخ، ولا يزال ذلك التراث قادراً على أن يدحض زيف دعوى «إسرائيل» المصطنعة.
يبقى أن نشير إلى أن الرواية رغم ما قد تتركه في نفس قارئها، فهي تبدو عند قراءتها وكأنها تمهيد مطول لرواية لم ترو، أو هي توقفت عند لحظتها الحاسمة ولم تتقدم، فالقارئ كان ينتظر شيئاً لم يصل إليه، لقد كان الوحيد منذ بداية نشأته يُعدّ من قبل جده، وكذلك من قبل الكاتب ـ الذي اخترعه ـ ليفعل شيئاً، ليحدث تغييراً، لكنه حين وصل إلى اللحظة الحاسمة، لم يفعل شيئاً فقط شرب كؤوساً من الخمر في مقهى «مركز الفن الإسرائيلي» في «عين حوض» حتى ثمل، ومشى إلى الحمام ليسقط في وحل البول والقاذورات، ويكتشف شاهد بيت جده، فيبدأ بمحاولة نزعه، ليشتبك مع الشرطة ويؤخذ للسجن، ما الذي حدث؟ ما هو الغريب المختلف عما ترويه سرديات التاريخ والأدب الفلسطيني والعربي؟ ما هي معجزة «الوحيد» التي منّى الكاتب قارئه بها في التمهيد الذي وضعه للرواية: «تتحقق المعجزة بمجرد القراءة، على جبل الكرمل، وهو جبل المعجزات منذ الإله بعل، وهو كذلك عاصم المظلومين والمكلومين، سيتمكن القارئ من تحقيق المعجزة، حيث ستقيد الريح خيالات فلسطيني وعذاباته وجروحه وكسوره، وهو يدعى الوحيد لقباً، وصالح اسماً، ويقبع الآن في سجن الدامون، ليس بعيداً عن بلدته الأصلية عين حوض »، لم تتحق أية معجزة، والرواية لا تتعرض ليوميات الوحيد في سجنه، وإنما تروي حكايات الجد، التي ظل فيها الوحيد صبياً يتلقى ويخزن في ذاكرته ما يمليه عليه جده، وخارج ذلك كانت حياته عادية، درس ونجح، وهاجر واستقر في الغرب، ولم يكن يعود إلا لماماً، وفي المرة الأخيرة التي عاد فيها، كان ذهابه إلى الأرض المحتلة «إسرائيل» صدفة بسبب علاج جده.. لم يفعل الوحيد شيئاً من أجل القضية، اللهم إلا تخزين الحكاية وروايتها لابنته، أو للذين يحتكون به عن قرب، وعندما جاءت اللحظة الحاسمة لحظة مواجهة الحقيقة انتهت حكاية «الوحيد» وانقطع حبل الرواية، وقد حاول الكاتب أن يواصله بجهود بشارة وريبيكا الباهته لإثبات براءة الوحيد، لكنّ تلك المواصلة لم تكن تفي بتوق القارئ، وبما هيأه له الكاتب من أنه سوف يكون أمام «معجزة»، ظل الوحيد شخصية سلبية ليس بالمعنى الأخلاقي بل بالمعنى الفني، أي غياب الفاعلية والتأثير في الأحداث- ظل شخصية على هامش الحكاية، حكاية الجد، ولم يدخل السرد إلا في اللحظة الأخيرة، وحين دخله خرج منها بقوة السجن، وبقي القارئ معلقاً يبحث عن ما يمسكه بيده، ولم تجدِ شيئاً محاولاتُ إكمال الرواية ببشارة وريبيكا.
من ناحية الأسلوب، فإن السرد يعود إلى فترة صبا البطل لينطلق منها فترة صبا الراوي، لكنه وبدل أن يروي بصيغة الماضي، غبت، وعدت، وفتحت، ورأيت ، فإنه يروي بصيغة المستقبل سأغيب، وسأعود، وسأفتح، وسأرى ، فيكون القارئ أمام ثلاثة أزمنة متداخلة، وهي: زمن الحاضر، حيث الراوي يسترجع كل ما حدث له، وهو في سجنه، وزمن الماضي: حيث ينطلق من فترة الصبا، وزمن المستقبل: وهو داخل في الماضي، أي أنه مستقبل بالنسبة لفترة الصبى التي انطلق منها السرد، وهذه الطريقة الصيغة الأخيرة ممكنة فقط، إذا كان القفز المستقبل محدوداً، وضرورياً لإضاءة حدث وقع في تلك اللحظة الماضية التي تسرد الآن، لكنّ هذا القفز من الماضي إلى المستقبل يكاد يكون سمة غالبة على الرواية، وقد أحدث تداخلاً زمنياً مربكاً للقارئ.
لكنّ هذا لا ينقص شيئاً من حقيقة كون الرواية نجحت في استعادة الفلسطيني لفلسطينيته، وإرشاده إلى هويته الحقيقية، فبشارة الذي كان يعيش «وهم المواطَنة الإسرائيلية»، ويظنّ أنه بالمحبّة «المسيحية» يستطيع أن يقيم جسر تواصل ومحبة مع «الإسرائيليين»، اكتشف بتأثير من حالة الوحيد أنه كان يعيش وهماً وضياعاً افتقد معه الإحساس بهويته الحقيقية، اكتشف أنه فلسطيني، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك.