محمد العلمي يتعقّب أثر الفراهيدي
رشيد المومني
نادرة هي الفرص الأكاديمية التي يحظى فيها التلقي، بتفاعله المعرفي إزاء ما تطرحه بعض المقاربات الاستثنائية من إشكاليات، وهو امتياز لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال امتلاك هذه المقاربات خاصيّتين أساسيين، تتمثل أولاهما في ثراء موضوعها، سواء من حيث ديناميته البنائية، أو من حيث قابلية أسئلته للتجديد والتحديث، بتأثير من الحركية الدلالية الموجهة لها، بينما تتمثل الخاصية الثانية، في امتلاك ما يكفي من الخبرة النظرية، التي يفترض في المقاربة توظيفها، قصْد تفعيل ما يتضمنه موضوعها من قضايا، وما يطرحه من أسئلة.
وهو تفاعل يتأسس على ضرورة التنقيب الممنهج عن مصدر تلك البياضات، المتخللة للبنيات التي يتشكل بها الموضوع، والمؤثرة سلباً على تبلور إشكالاته في أنساق معلومة ومحددة، باعتبار أن هذه البياضات هي مؤشرات رمزية، على افتقار الموضوع لبعض عناصره الجوهرية، والتي تكون المقاربة معنية باستعادتها، عبر عملية تصويبِ أو تعديلِ ما طالها من أخطاء ومن تحريفاتٍ، أو عبر استدراكها ما يعتري بنيات الموضوع ذاته من نقص في التوثيق والتأطير. والأصل في تأكيدنا على هذه القناعة، قراءتنا مؤخراً للمؤلف الهام المعنون بـ«عروض الشعر العربي» الذي أصدره الباحث والأكاديمي المغربي محمد العلمي عن «دار توبقال»، في مصنّفين، يغطيان 588 صفحة. وهو عبارة عن قراءة نقدية توثيقية رائدة في متن شعري إشكالي على المستوى النوعي، وضخم على المستوى الكمّي، يضمّ واحداً وتسعين ومئة ديواناً، تشمل أزهى عصور الشعر العربي القديم، ممثلة في العصر الجاهلي والإسلامي والأموي، من دون إغفال بعض النماذج العباسية، التي استدعت الضرورة المنهجية توظيفها.
ولقد تم تحديد رهان هذه القراءة، في اجتراح السبيل الأكثر إثارة لفضول التلقي، بإخضاع التجربة الخليلية لسلطة اختبار نقدي، معزز بكل ما تقتضيه مقولة الاختبار، من توظيف دقيق وشامل، لكافة الشروط المعرفية الكفيلة بإنجاز هذه المهمة. وهي على العموم، شروط تطلب إعدادها عقوداً طويلة في مصاحبة الدرس العروضي حيث يمكن التنويه في هذا السياق بكتابه التأسيسي «العروض والقافية دراسة في التأسيس والاستدراك» الذي أصدره في بداية الثمانينات من القرن الفارط، والذي يعتبر من أهم المراجع المعتمدة في مساءلة العمق الإجرائي، والنظري الذي تتميز به التجربة الخليلية. ذلك أن أسئلة هذا العمل التي رافقت الباحث محمد العلمي منذ بداية السبعينات، هي التي سيعتمدها لاحقاً، كأرضية نظرية لمساءلة العروض الخليلي، انطلاقاً من المرجعيات الشعرية نفسها التي سبق أن استند إليها الخليل في وضع مبادئ هذا العِلم وقوانينه، حيث سيجد القارئ نفسه في ضيافة مشروع علميّ، كرّس له صاحبه كل اهتماماته الفكرية والجمالية، عنواناً لاعترافه الضمني بالقيمة التاريخية، التي يحظى بها الشعر العربي، بوصفه ديوان هوية، ستظل مدينة له بحضورها، كما بغيابها.
وهو ما يجعل القارئ متردّداً في تحديده القصد المركزي، الذي كان حاضراً في واجهة المختبر المعرفي لدى الباحث، بين تطلعه إلى وضع مشروع الخليل تحت مجهر المساءلة، وبين هاجس تمثله لخيمياء الإيقاع في الشعر العربي القديم، من خلال وسيط أساس، هو عروض الخليل. إلا أن القارئ ذاته، سيجد نفسه في نهاية المطاف، مقتنعاً باستحالة وضع حدود ما، داخل هذه التجربة، باعتبار أن الفضاء الذي سعى الباحث إلى توريط ذاته فيه، كان سبباً في إلغاء أيّ رؤية مسبقة لمفهوم القصد، لأن الأمر يتعلق بسنوات طويلة من انصهاره التام في جاذبية تراثنا الشعري وسحره، بما يضع زمام السلطة أساساً بيد التجربة، التي هي تجربة بحث عاشق مشفوع بشمولية انتشاءاته العروضية والدلالية، حيث المعرفة هنا، تستشرف أفقها، بما تقتضيه عملية الاستشراف من أناة وتأمل وضبط، ومواكبة وتقصٍّ. ولعل تكريس عقود من البحث لموضوع محدّد في ذاته، أكبر دليل على حضور تقدير استثنائي لمادته، قد يرتقي بها إلى مستوى الانبهار بأسرار انْكتاب القصيدة العربية، وأسرار انْبِناء علم العروض الخليلي، الذي يتحول هنا إلى دليل معرفي، سيظل هو أيضاً وتحت مجهر الرؤية النقدية، بحاجة إلى ما يكفي من البراهين، كي تتأكد بذلك مصداقيتُه وموضوعيته، حيث يلاحَظ حضورُ حالة من النِّدِّيَّة بين الباحث والأصل، إلى جانب حضور نوع من التماهي، الذي يظل حريصاً على الاحتفاظ بالمسافة المعرفية التي تلغي احتمال الوقوع في تطابق قد يلغي الحق في استقلالية الرؤية النقدية للأثر.
ونسترجع في سياق هذا الانصهار اليقظ والحذر في آن، اعتماده لقانون الاستقراء دليلاً إيبيستيمولوجياً، على غرار المنهجية التي اعتمدها الخليل بن أحمد الفراهيدي، والتي استدعت من الباحث توَخي غير قليل من الدقة الإجرائية، كي ينتقل بسلاسةٍ من مستوى الإحاطة الأولية بالجزئي، وبالمتعدد، والمتنوّع إلى مستوى الكُلِّيّ، المؤطر بأنساقه الكبرى، التي ينتظم فيها مجملُ ما يتم توصيفه من أنساق مجزَّأة وأوَّلية، هي بالنسبة للمتن الذي قاربه الخليل، متاهة حقيقية تتقاطع وتتشابك فيها مختلف الاحتمالات الإيقاعية والنظمية، حيث سيكون الباحث، وعلى امتداد أبواب القراءة وفصولها، ملتزماً بتعقب أثر الأصل، بخطى تحكمها الرؤية النقدية، إلى جانب حضور هاجس التأكد من صحة الوصف العروضي للمتن، وصدقه، ومعرفة مدى التطابق بين واقع الشعر ومبادئ النظام، من أجل استقصاء مختلف الظواهر الإيقاعية، وهو أمر استدعى القيام بتحليل عيني للدواوين، مدعماً بتقنية الإحصاء، والمقارنة، ومؤطراً بخاصية التحديد، والتوثيق. وكما هو معلوم، فإن التحليل العيني للنصوص، هو الكفيل بضبط آلية اشتغال الاستقراء لدى الخليل، والذي لاحظ الباحث محمد العلمي، أن الناقد كمال أبو ديب قد اعتبره نسبياً وتعميمياً، بحجة بقاء الكثير من تجارب الكتابة الشعرية خارج المتن الذي اشتغل به الخليل، وهو ما حفز الباحث للتعرف على مختلف الظواهر العروضية، التي يتميز بها الشعر العربي القديم في أزهى عصور كتابته، وهي ظواهر لن تكون بالضرورة منسجمة ومتكاملة ومتناغمة في ما بينها، بالنظر إلى تباين مرجعياتها الشعرية التي تفيد في هذا السياق، مجموعَ تلك العلاقات التي تنسجها القراءة مع النصوص الشعرية، والتي انتبه الباحث إلى تعدد أبعادها، إذ فضلاً عن الظاهرة التي تفرزها القراءة المباشرة للنص الأصلي، ثمة أيضاً الظواهر الناتجة عن تعدّد الروايات، وكذلك عن تدخّل المحقّقين، وما هو أدّى إلى التعدّد والتداخل في كل من النتائج والخلاصات، التي قد تنتظم في سلك التشابه أو الاختلاف.
تبقى الإشارة في نهاية هذه الورقة، إلى أن العمل، وفي عمومه، مغامرة نظرية، لا تكتفي بالاقتفاء الأعمى ثر الخليل، على أساس امتثالٍ مطلقٍ لسلطة منجزه العلمي، أو رؤية قداسية له، بقدر ما هي رؤية مغايرة، لمساءلة الشعرية العربية، وقد تخلصت من شرك ثنائية التقديس أو التهجين، من دون أن تكون بالضرورة خياراً وسطاً، أو ثالثاً. إنها إلى جانب ذلك، اختيار معرفي، يتلافى أيّ شكل من أشكال الإسقاط، الذي تتورط فيه مقارباتٌ، غالبا ما تكون ضحية رؤيتها الأصولية، أو العدمية.
شاعر وكاتب من المغرب