الصعلكة اللغوية!
توفيق قريرة
باتت الصعلكة اليوم صفة للتمرّد وخرق النواميس وكانت في أقدم معانيها رديفة الفقر والفاقة، ثمّ تطوّرت لتصبح شيئاً له صلة باللصوصية، ثمّ بالثورة والخروج على القوانين. لكن للصعلكة معنى ثقافياً لعلّ أقدمه تسمية فئة من الشعراء بالصعاليك. صحيح أنها تسمية لا تصنّف الشعر بل الشاعر، رغم ادّعاء من ادّعى أن في شعرهم «أفكاراً.. تنادي بثورة المستضعفين» يوسف خليف، الشعراء الصعاليك . لكن ماذا لو كانت الصعلكة شيئاً ثقافياً يمكن أن نراه على سطح اللغة في شكل سلوك كلاميّ، قبل أن تكون تصنيفاً اجتماعياً لمن تمرّد على القانون؟ تُجري اللسانيات الاجتماعية توازياً بين السلوك الاجتماعي والسلوك اللغوي، وبين القاعدة الاجتماعية والقاعدة اللغوية، وبين السلوك بما هو أسلوب في التفاعل الاجتماعي مع الآخر والكلام بما هو أسلوب في التفاعل القولي معه، ومثلما يوجد مستوى اجتماعي فهناك مستوى لغوي يوازيه.
إن انطلقنا من أنّ الفقر هو أوّل معنى للصعلكة، وأن الصعلكة اللغوية الأصلية هي فقر لغويّ أو إحساس به، قلنا إن أصل الصعلكة حالة من العوز اللغويّ قد تنقلب إلى تمرّد لغويّ. لكن هل يمكن أن يكون المرء فقيرَ اللغة؟
يعتقد رولان بارت أسطوريات أن «كلام المُضطهد لا يمكن إلا أن يكون فقيراً رتيباً وفورياً: إملاقه هو مقياس لغته الفعلي». صحيح أن كلام بارت ورد في سياق مخصوص يتمثل في أن البورجوازية هي التي تنتج الأساطير الجديدة وهي تحيط حياتها وثراءها بهالة من «الخداع» وأنه لا توجد أسطورة في اليسار حيث البروليتاري والمدقع ذي الفقر اللغوي المتأصل. غير أن دراسات لسانية أخرى تؤكد هذه الفكرة. فلقد ذكرت اللسانية نيكول روسو بايان أن الفرنسيين الذين ينتمون إلى طبقات مرفهة ويعيشون في وسط ثري وبيئة متعلمة يشعرون بالأمان اللغوي ويكونون أكثر ثقة في استعمالاتهم اللغوية من غيرهم، الذين هم في أوساط فقيرة فقد يرفضون أن يكونوا متكلمين ممثلين للسان الفرنسي. وترى اللسانية إن لمن ينتمي إلى بيئة مرفهة فرصاً أكثر كي يكون في وضعيات تواصل ثرية ومتنوعة من ذلك المعزول والمحروم من الثراء التواصلي. وترى الباحثة أن للفقراء قدرة لغوية كبرى لكن المشكلة في الملاءمة بين تلك القدرات والبيئة التي تحتضنهم.
وإذا كان من الممكن أن يُوصل الفقر اجتماعياً إلى التمرّد وتصبح الصعلكة رديفاً له، فإن ذلك ما يكون في حالات كثيرة من الصعلكة اللغوية إذ يُنتج المعوز لغويا ـ وكردّ فعل عن فقره وخصاصته ـ عبارات تجد رواجها لدى المفقرين مثله.
من أبرز مظاهر الصعلكة اللغوية ما يكون بشحن عبارات قديمة بجملة من المعاني الجديدة قبل أن تنتشر بين عامة الناس. في تونس مثلاً تستخدم عبارة «أمورك» أي أنت وشأنك ومشتقاتها أموري.. أمورهم لتحمل دلالات جديدة فيها كثير من معاني اللامبالاة بالمخاطب أو تنبيهه إلى عدم التدخل في ما لا يعنيه وعادة ما تستعمل في سياق التقريع أو اللوم أو الشدّة في الكلام شدّة لا تقبل في التعامل المتأدب ولا تقبل في الطبقة الأدبية الأرفع لأنها تكون رديفاً للعجرفة والحدة وعدم التلطف.
إلا أن اللامبالاة معنى إنساني شائع قد يعبر عنه الصعلوك والنظامي. تعبير الصعلوك عنه يكون في سياق من اللامبالاة هي سليلة لكسر القواعد في آداب التخاطب التي تسنّها في الغالب الطبقة المترفة لغوياً وبالتالي فكرياً. واللامبالاة معنى يمكن أن يصاغ في الطبقة المترفة لغوياً بأسلوب ملطف فيه صنعة وتحكيك غير أنه يخفي أيضاً مساراً من الصعلكة في اللغة يخبرنا أن الصعلكة فيها ليست سليلة طبقة، بل هي أسلوب في الثورة على المألوف بقطع النظر عن الفقر أو الغنى وهذا معنى آخر للصعلكة.
في بيت المتنبي:
أصخرةٌ أنا مالي لا تحرّكني
هذي المُدام ولا هذي الأغاريد؟
تعبير عن اللامبالاة بالكون، إذ يفقد المرء الإحساس بما يحرّكه ويموت فيه التفاعل الحسّي العاطفي مع الكون لكن لا يُفْهَمَن هذا الفقد على أنه انتحار أو موت إرادي، ففي ذلك تقليص حجم الوجع الذي يريده الشاعر أن يصلنا. اللامبالاة هنا معنى فخم ذو عمق فكري يمكن أن نجعله في طبقة المعاني الأرستقراطية، ولذلك عبّر عنه الشاعر بأسلوب راقٍ. لكن «أموري أو أمورك» تعبّر عن دعوة إلى الكفّ عن الاهتمام، وفيها يكون معنى اللامبالاة تجاه الآخر فعلاً عقابياً فردياً لا فعلاً كونياً. إن كانت الصعلكة في معنى الهبة الفورية والفورة العصبية ففي أمورك صعلكة لغوية ضيقة، وإن كانت الصعلكة في معنى الثورة على الكون ففي بيت المتنبّي صعلكة لغوية واسعة لأن فيها ثورة على الكون.
حين يكون الإنسان في وجع الزمان الذي وصفه الشاعر فإما أن يزهد ويُقبل على الله، وإما ألا يبالي ويُدبر على الكون يقول المتنبي في القصيد نفسه:
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئاً تتيمه عينٌ ولا جيد
هذا تبرير للصعلكة فيه فعل الدهر في الإنسان فعله لكن هناك تبريراً لها سياسياً فقد:
صار الخصيّ إمام الآبقين بها
فالحُرّ مستعبَد والعبد معبودُ.
في هذا البيت تعرف الصعلكة اللغوية مآلها المُسِف: فالخطاب نزل إلى سافل التعيير الإخلاقي ليصل إلى ما يسمى بالإقذاع والفُحش. الفحش في كلام الناس صعلكة لغوية فيها تمرّد باللغة على الناموسين الأخلاقي والديني معاً، باستعمال عبارات لا يستعملها إلا من تمرّد على النواميس هو ضرب من كسر القوانين مع إرادة كسرها.
لكن مَنْ خلق العبارات المقذعة؟ هذا سؤال لا جواب له إن أريد به تعيين الجهة التي خلقته وإدانتها السؤال الأنفع لسانياً: ما الذي أوجد العبارات المقذعة؟ ما أوجدها هو حالة من التمرّد الذي يترجم ثقافياً إلى عبارات. نحن لا نتمرّد سياسياً إلا بعد أن نتمرّد لغوياً فلا دليل على تمرّد المتنبي على كافور أقوى من أن يسمّيه «خصيّاً» وهي تسمية مقذعة صحيح، بيد أن فعلها التمردي يضاهي أن يسقط عنه فقيه الجدارة بالولاية ويسقط عنه متخلق الجدارة بالفحولة ويسقط عنه الرجل العادي الجدارة بالذكورة. إن من سمى العبارات التي هي من هذا النوع «كلاماً زائداً» ليسوا هم من ابتدعها واستعملها وروجها فهذا الكلام النابي الذي لا تتحمله أسماع متأدبة مترفة بالراقي من الكلام، هو عند من أوجده «كلام الحاجة»: به تُعاقب وتتمرد وتتصعلك كل يوم هو عندها ضرب من الجهر بما يُنافي الحياء اللغوي عقاباً هو ضرب من التمرّد على من قنّنوا الأدب وضبطوا لغة الأخلاق والنواميس هو طريقة في أن يقولوا لمن ارتفعوا عنهم في الخطاب أو في المكسب: لتذهبوا إلى الجحيم فنحن الفقراء هنا من زمان في الجحيم وإن كان كلامنا هذا من النوع الذي يلسعكم، فنحن تحت اللفح مذ خلقتم، مذ تحدّثتم إلينا بخطاب اللين الذي تحاكموننا به وتفقروننا به وتعدموننا به حين يكون العدم فقراً ويكون العدم موتاً.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية