لبنان الفعلي غائب عن انتخاباته!
د. وفيق إبراهيم
المرشحون للانتخابات اللبنانية، أفراداً وأحزاباً لا يُعيرون جانبها الداخلي الحدّ الأدنى من اهتماماتهم. فلا يتقدّمون ببرامج واضحة لطرق معالجة مرحلة الانحطاط التي فتكت بالبلاد منذ تسعينيات القرن الماضي. فأصبح بلا كهرباء وماء وبنى تحتية، وتملأ النفايات زوايا الطرق في مدنه وقراه وجباله ومياهه. وتتراكم ديونه الناتجة من أكبر سياق فساد لم يشهد لبنان مثيلاً له ومحتلاً المواقع الأولى على لائحة البلدان الأكثر فساداً في العالم.
هذا ما جعل من الهروب حكمة لهؤلاء المرشحين الذين توغّلوا في استثارة أنواع عدة من الأحاسيس الغريزية للتغطية على الحاجات الفعلية للناس.. وتبدأ بتصعيد «المناطقية» بطريقة توحي وكأن هناك «اجتياحاً» خارجياً داهماً على منوال بيروت لـ «البيارتة» و«زحلة لأهلها وبعلبك معدن الرجولة والجنوب أرض المقاومة، ويرفدونها للزوم التصعيد بجرعات من التحشيد المذهبي الذي يعامله الطرف الآخر بالتجاهل والصمت لإبطال مفعوله.
وبذلك تصبح «العروبة» منديلاً ورقياً. يستهلكه المرشح لمرة واحدة متّهماً منافسه بالعمالة لدول الإقليم. ويرميه أرضاً فور انتهاء الخطاب.. في المقابل يصيح مرشح آخر عن لبنان «الخمسة آلاف سنة» وتميّزه عن الجوار بهذه «العراقة التاريخية» المزعومة. علماً أنّ التاريخ في مراحله كافة لم يلحظ «وجوداً سياسياً» مستقلاً للبنان الحالي قبل 1920 م، بما يعني أنه كان يشكل جزءاً بنيوياً من جواره السوري الكبير. لكنّ إبداعات آل الجميّل وآخرين تواصل التحليق في اختراع تواريخ مزعومة لضرورات التحشيد ومعاداة الجوار لتأكيد الدور.
هناك إذاً مشهدان يثيران سخرية المهتمّين:
انتشار صور ولوحات ثابتة وكهربائية ودعايات تلفزيونية وأخرى تجتاح وسائل الاتصال لآلاف المرشحين يعرضون لقطات لهم بمختلف الأوضاع.. لكن أحداً منهم لا يتقدّم ببرنامج عمله في المجلس المقبل. لسببين: لا يعرف دور النائب الفعلي، ويعتقد أنّ الملايين التي أنفقها في التباسات مختلفة تبرّر له جهله، مع الإصرار على أنه سلّم أمره النيابي مسبقاً إلى «ولي أمره» الذي دعمه في الانتخابات.
وهنا يتوجّب التذكير بأنّ الانتخابات آلية لتشكيل سلطة من واجباتها حماية البلاد بالإنماء الداخلي والدفاع عنها في وجه كلّ ما يتهدّدها.
وهذا يعني إعادة تفعيل خطط الكهرباء والماء ومعالجة النفايات والأمن الداخلي ووقف الفساد الإداري والسياسي والقضائي والتعليمي..
هل هذا يكفي؟ بالطبع لا؟ لأنّ الخطر الخارجي على لبنان متواصل منذ أربعينيات القرن الماضي ومن دون توقف.
إلا أنّ انقسام اللبنانيين حول ولاءاتهم الإقليمية والدولية، جعلتهم لا يتفقون على هوية العدو الخارجي للبنان.. فقديماً كان قسم من اللبنانيين يعتبر مصر عبد الناصر أكبر خطر خارجي، مقابل قسم آخر كان يرى أنّ الخطر الأساسي على لبنان موجود في التحالف الفرنسي ـ الإسرائيلي والأميركي.. لم تكن السعودية محوراً أساسياً في ذلك الزمان. فغابت عن الاتهامات.
ومع تطوّر حركة الصراع الدولي ـ الإقليمي، تبدّلت اتجاهات الصراع الداخلي، فأصبحت الشيوعية خطراً لقسم وصديقاً لآخر، ومثلها سورية والسعودية وإيران.. إلى أنّ استقرّ الخلاف الداخلي حول إيران والسعودية والسياسة الأميركية و«إسرائيل» والمقاومة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
بموجب المنطق العلمي، يمكن استخلاص العدو من بين المتّهمين المذكورين على طريقة مَن الذي تسبّب بالضرر الأكبر للبنان.
فالسعودية لم تهاجم لبنان عسكرياً، وكذلك إيران التي يفصلنا عنها أكثر من مئات الكيلومترات. وسورية منهكة بأزمتها الداخلية، أما المقاومة فهي حركة بدأت داخلية كردّة فعل على احتلال «إسرائيل» للبنان، وتطوّرت جهادياً بالترافق مع نمو حركات إرهابية كادت تفكّك لبنان سياسياً ومذهبياً لولا تلك الوقفة التاريخية المستمرّة التي تؤدّيها المقاومة حتى اليوم.
يتبيّن إذاً أنّ واجب المرشحين لانتخابات تجري كلّ أربعة أعوام أنّ يجسّدوا اهتمامات اللبنانيين بالإنماء الداخلي والدفاع الوطني في وجه الإرهاب التكفيري والعدو الإسرائيلي.
وما يؤسَف له أنّ كلّ برامج المرشحين لا تتضمّن كلمة واحدة عن هاتين المسألتين إلا بشكل عام. فالخرزة الزرقاء هي وسيلة التغيير على طريقة البصّارين والبرّاجين.. والدفاع عن لبنان ضدّ إيران «العجمية والشيعية» وسيلة للتحشيد والتعمية على الحاجات الأساسية.
فإذا لم يعتمد المرشحون الأساليب الغريزية في التحشيد، فبماذا يجيبُ الناخب الذي قد يسأله: ماذا فعلتم منذ 1992 تاريخ تسلّمكم الحكم؟ وأين ذهبتم بتسعين مليار دولار هي مجمل الدين العام؟ ولماذا لم تهيئوا جيشاً يستطيع الدفاع عن الوطن؟ وأين الهبات الخليجية المخصّصة للجيش، التي استرجعها مانحوها لاعتبارات تتعلّق بعدم رغبتهم بتقوية جيش قد يشكّل جزءاً من قوى الصراع ضدّ «إسرائيل»؟ فهل حوّلوها لكم؟
وهكذا تتضحُ أهميات التحشيد المذهبي والطائفي والمناطقي والقومي والإقليمي.. وهذا يسري على الجميع.. فتأييد المقاومة لا يحول دون الإنماء الداخلي والاهتمام بالنوعية المعاصرة والجيدة للعلم والحياة.. لأنّ المقاومة وسيلة للدفاع عن الناس في الداخل والخارج.
هناك إذاً انفصام كامل بين المرشحين ومشاريعهم المستندة إلى التحشيد وبين حاجات فعلية لم يقاربها أحد من القوى النيابية.. ودليلكم هي تلك الصور بآلالاف لمرشحين يملأون زوايا لبنان إلى جانب صور عملاقة لزعمائهم يبتسمون بحنان شوقاً إلى أصوات الناخبين فقط. فهؤلاء الزعماء هم الذين تناسَوْا الإنماء منذ تولّيهم السلطات قبل عقود عدّة، وهم الذين يتجاهلون «إسرائيل» كخطر دائم ضدّ لبنان منذ سطوها على فلسطين المحتلة في 1948.
قد يسأل سائل، لماذا ينصاع الناس لهذا النوع من السياسيّين؟ والأسباب موجودة في تمكّن القوى التقليدية اللبنانية من إلغاء النقابات واحتكار وسائل الإعلام والسيطرة على المؤسسات الدينية والسطو على القطاع العام واستعماله وسيلة لجذب الأنصار والأزلام.. وهذا أدّى إلى تراجع دور الأحزاب الملتزمة قضايا الناس، محوّلاً النقابات بدورها مراكز لتأييد الزعماء، والمؤسسات الدينية مواقع ابتهالات لنصرة القيادات؟ هل هناك زعيم لبناني من الفئة التاريخية لا يقف إلى جانبه رجل دين من عيارات عليا؟ وقائد نقابة ينظر إليه بشغف وكأنه المنقذ؟
وهل يمكن تجاهل ما يفعله وزراء من تسخير لإمكانات مؤسساتهم الرسمية لخدمة عمليات التحشيد في معاركهم الانتخابية؟
إنّ تضافر المال والإعلام والدين والنقابة ووضع القطاع العام في خدمة المرشحين، من العناصر التي تؤكّد غياب اللبنانيين عن انتخابات تجري في وطنهم على وقع مشاركة سطحية لهم في إنتاج السلطة التي يُفترض أن تدير شؤونهم للسنوات الأربع المقبلة على مستويين الإنماء الداخلي ومجابهة «إسرائيل»؟
فهل تتوازى نوعية القوى المشاركة فيها مع هذين المطلبين الاستراتيجيين؟ هناك قوى لها هذا الوزن، لكن هناك في المقابل مواقع معادية لها ولأدوارها. وهنا يشكل إقبال الناخبين على دعم المقاومة وحلفائها، وسيلة وطنية لتعزيز حماية لبنان من الفساد الداخلي والعدو الخارجي بأكبر حدّ ممكن في هذا الإطار المتدهور.