حينه حرمون … بلدة ومدرسة
إعداد: لبيب ناصيف
لم تتميّز بلدة حينه في جبل الشيخ بالحضور القومي الاجتماعي الذي كان للأمين جميل العريان الباع الطويل في تحقيقه فقط، إنما أيضاً بالمدرسة التي أُسّست فيها.
كنا منذ سنوات ابتدأنا الاهتمام بموضوع تاريخ الحزب في حينه، بلدةً ومدرسة. خاصة بعد أن اطّلعنا على تقرير كان قد رفعه الأمين جميل العريان، وفيه يتحدث عن بدايات العمل الحزبي، ودوره فيه. هذا ما سوف نورده لاحقاً في النبذة عن مسيرة الأمين جميل العريان الذي كنت عرفته جيداً، خاصة في مسؤولياته في كل من الضاحية الشرقية وراشيا، وعُرف بتفانيه الحزبي ونضاله وتضحياته. ولأننا قرأنا في تقرير الأمين عريان أنه كان وراء انتماء الأمين يوسف فضول 1 فقد اتصلنا بحضرة الأمين الذي سارع إلى تقديم تقرير وافٍ وشامل عن الحزب في حينه، نورد معظمه كما وصلنا، مع اضافات مناسبة، مسجلين تقديرنا للجهد المميّز الذي قام به الأمين يوسف فضول.
هذا ونوضح اننا أحلنا ما وصلنا من حضرة الأمين إلى منفذية حرمون عملاً بالاصول، فوردت ملاحظات وإضافات أوردناها في هذا التقرير.
كتب الأمين يوسف فضول:
«بلدة حينه هي إحدى البلدات المنتشرة على سفوح جبال حرمون، والممتدة بشكل هلال خصيب من منطقة قطنا غربي دمشق إلى منطقة القنيطرة في الجولان.
تتبع البلدة إدارياً إلى ناحية حرمون، مركزها مزرعة بيت جن، والى منطقة قضاء قطنا، والى محافظة ريف دمشق وتبعد عن العاصمة دمشق حوالي 50 كم.
تقع بلدة حينه على ارتفاع 900 م وما فوق، تحيط ابنيتها بتلة تكوّنت في عصور ما قبل التاريخ وبنى الرومان عليها خزان ماء يروي المنطقة».
«أما سكانها الحاليون فهم قدموا من مناطق متنوعة، وعلى الأخص أتت معظم العائلات من لبنان في زمن لم تكن هنالك الحواجز بين الشام ولبنان، ومن تلك العائلات: آل بشارة وهي من أكبر العائلات وقد قدمت من زحلة، وآل هيلانة من البقاع الغربي خربة قنافاز، وآل مسلّم من زحلة وآل أبو نصار من ضهور الشوير. وعائلات حامد وزهر الدين والحسنية والخطيب من جبل لبنان، وآل البحري وآل البابا وآل أبو عسلي وآل عازر، وبقيت هذه البلدة عامل جذب لأهالي من لبنان ينزحون إليها في وقت الشدة، وما يلبثون ان يستقرون فيها وما يزالون محتفظين بجنسيتهم اللبنانية كـ: آل عواد وآل مخول وسواهما ونحن من هؤلاء فضول ».
«تميّز سكان بلدة حينه بوحدتهم الاجتماعية، رغم تنوع مكوناتهم الدينية والمذهبية، يشتركون في الحياة الواحدة، بأفراحها وأتراحها وأعيادها وفي جميع المناسبات ويقفون معاً أمام خطر مداهم أو مصلحة مشتركة، فهم قوميون اجتماعيون بالفطرة».
«ولم يعكر صفاء هكذا علاقة اجتماعية راقية سوى بعض مخلّفات العقلية العائلية العشائرية التي تقوم على قاعدة انصر أخاك ظالماً ام مظلوماً، ولكن الأصالة وروحية الإخاء الاجتماعي والوعي القومي الذي أحدثه الحزب السوري القومي الاجتماعي خاصة وحزب البعث والحزب الشيوعي، وهذه الأحزاب الثلاثة فقط عرفها سكان البلدة، هذا الوعي الجديد النهضوي قضى كليّاً على العصبيات العائلية وعلى الأحقاد والضغائن الناتجة عنها، وأخذ البناء القومي ينمو بناؤه، وأخذت الاخوة القومية تفعل فعلها في وحدة الحياة ووحدة المصير والاهتمام بالشؤون العامة لتحسين الحياة ورقيها».
المدارس في حينه
«أنشأت الطائفة الأرثوذكسية مدرسة لم يتعد نشاطها محو الأمية لدى بعض الأفراد وما لبثت أن أغلقت أبوابها، أما الطائفة الكاثوليكية فتعدت ذلك إلى انشاء صفوف في المدرسة لغاية الصف الرابع الابتدائي. كان هذا خلال المدة الزمنية التي لم تتجاوز نهاية الأربعينات من القرن الماضي، وفي بداية الخمسينات انشأت وزارة التربية مدرسة ابتدائية، وعند هذا الحد من التحصيل العلمي يتوقف التعليم في البلدة. ولم يتابع حاملو الشهادة الابتدائية تحصيلهم إلا قلائل جداً من الميسورين الذين يذهبون إلى دمشق لهذه الغاية».
«وفي عام 1952 فتحت في بلدة حينه مدرستان: إحداهما باسم مدرسة الهدى، انشأها أستاذ من الرامة في فلسطين يدعى نقولا حنا، هجّـر مع بعض أفراد عائلته، واستقر في بلدة حينه وسكن بيت خاله وتزوج احدى بناته.
كان الأستاذ نقولا حنا مناضلاً في جيش الانقاذ، وشاعراً ومحدثاً لبقاً وذو ثقافة واسعة. أكسبت هذه المزايا الأستاذ نقولا ثقة الأهالي، التي ترجمت بالعدد الأكبر من التلامذة في مدرسته وكنت أحدهم.
خلال العامين 1952 و1953 تدرج عدد من التلامذة تجاوز العشرين إلى الصف الرابع متوسط أي الشهادة المتوسطة، وتقدموا إلى الامتحان الرسمي في العاصمة. وعندما أذيعت نتائج الامتحانات على الراديو، لم ينجح من مدرسة الهدى سوى تلميذ واحد وهو يوسف فضول الأمين يوسف فضول .
عندما سمع الأهالي النتيجة على الراديو، اندفع عدد من الرجال وكان لبعضهم ابناء رسبوا في الامتحان، نحو بيتنا لإعلامنا بالنتيجة ولتهنئتنا، وكان السيد نعمان بشارة أبو جريس ، يتقدمهم. ولما لم يجدوا أحداً في المنزل حيث كنا جميعاً في الحقل. انتظروا مجيئي، وعندما وصلت وحيداً إلى أول البلدة تقدّم المحب نعمان بشارة وغمرني بكل محبة واعتزاز وحنان وهنأني، وهكذا فعل الرجال الآخرون. على الرغم من رسوب ابنائهم في الشهادة المتوسطة، إنّ هذا الموقف من الأهالي لهو دليل هام وتعبير صادق عن نفسيتهم الخيّرة. ومن بعد ذلك احتفلت البلدة بالمناسبة وكان تكريماً اعتززت وأهلي واصدقائي به، وكان حدثاً على مستوى البلدة، ثمرة الاهالي بالتقدير والمحبة».
«أما المدرسة الثانية ـ مدرسة حرمون ـ فكان يديرها الأستاذ الياس غانم ويساعده أستاذ من لبنان يدعى رؤوف الأحمدية 2 ، وهو اليوم صاحب مدرسة في الشويفات. كان عدد التلامذة في هذه المدرسة قليل جداً، ولكن القيّمين على إدارتها مارسوا الصبر والإرادة القوية من أجل تحقيق الهدف المنشود، وكان لهم ذلك بعد عامين حيث تغلّبت العقلية التي سلكت نظام النهج المؤسساتي على عقلية وفعل الفرد، فاستطاعت ادارة مدرسة حرمون ومن يرعاها أن توحّد المدرستين بإدارتها بعد الاتفاق مع الأستاذ نقولا حنا».
«بدأ العمل بنهج جديد وبهيئة جديدة لتدبير شؤون مدرسة الحزب، على رأسها الرفيق الياس عازار.
استأجرت المدرسة بناء جديداً يتسع لجميع صفوف المرحلة المتوسطة واحتياجاتها الإدارية، واستقدمت إلى التعليم فيها اساتذة قوميين من مناطق مختلفة، من الاردن لبنان ـ صافيتا ـ وحوران…».
«عيّن الرفيق عبود يعقوب عبود، والد الرفيق الصحافي عساف عبود مديراً للمدرسة. سننشر نبذة تعريفية عن سيرته ومسيرته الحزبية النضالية في وقت لاحق. ل. ن. والاساتذة رؤوف الاحمدية، من لبنان، طارق مصاروة من الاردن يرأس حالياً صحيفة الدستور الاردنية ، وجميل مشرقي درّس مادتيّ الرياضيات والكيمياء 3 .
أحدث هذا الجمع الراقي المعقدن من الاساتذة في البلدة حراكاً ثقافياً مميزاً مع الأهالي ـ خاصة في الليالي والسهرات، حيث لا راديو ولا تلفزيون ولا نشاطات للتسلية ـ يطرحون معهم المسائل التي تخص حياتهم، ويقترحون عليهم حلولاً واتجاهات في التفكير، لاقت الرضى والترحيب أكثر من غيرها من قصص التسلية وتمرير الوقت. ساهم هذا التفاعل مع الناس في بعث تفكير جديد في الشأن العام وفي طرق تحسين الحياة العامة في البلدة.
استمرت متوسطة حرمون في عملها حتى نهاية الخمسينات، رغم الضغوط التي تعرّضت لها من السياسة القمعية التي مارستها السلطة إثر اغتيال عدنان المالكي وملاحقة الحزب وأعضائه ومؤسساته.
كانت مدرسة الحرمون الوحيدة في المنطقة التي تخرّج طلاباً يحصلون على الشهادة المتوسطة ـ بريفيه، لذلك كان يؤمها الطلاب من البلدات المجاورة بالإضافة إلى بلدة حينه، وبلغ عدد التلامذة الذين انهوا المرحلة المتوسطة خلال عقد من الزمن لا يستهان به، وبمجرد حصولهم على هذه الشهادة كان حافزهم الاساسي في الاستمرار لتحصيلهم العلمي، وهكذا صار. حيث فتحت هذه المدرسة الآفاق للأفواج التي تخرجت منها لمتابعة تحصيلهم الثانوي والجامعي. فتحت أمامهم مجالات من الأبواب الواسعة على صعيد العمل والوظائف والاختصاصات العالية. فكان لهذا الجيل المتعلم المثقف المتفاعل مع الجيل السابق الأصيل المحب الخيّر والمحارب لكل آفة وعيب والشاهد للحق. هذا التزاوج العلمي الثقافي مع الأصالة والمناقب خلقا العقلية الأخلاقية الجديدة في بلدة حينه، قلّ نظيرها، سطّرت أروع المواقف في اسبقيتها للسعي ولتنفيذ وحدة الاعياد عند الطوائف المسيحية وصمودها وصبرها العظيم في مواجهة الصعوبات التي لاقتها من أهل السلطة الدينية من مختلف المذاهب».
الحياة الاجتماعية
«كان سكان البلدة منذ مطلع القرن العشرين ولغاية منتصف هذا القرن يعملون في الزراعة ورعي الماشية، وكان الفقراء منهم الذين لا يملكون أدوات الزراعة يعملون كمرابعين لدى بعض الملاكين، ولم يمض وقت طويل، حتى استطاع هؤلاء نتيجة تحسين أحوالهم أن امتلكوا عدة الزراعة، وصاروا كغيرهم من الفلاحين يعملون في أراضي الملاكين مقابل تلتي الانتاج لهم والثلث الأخير لمالك الأرض وكان الفلاحون أحراراً، حيث لا إقطاع يتحكم بهم وبأتعابهم، فكانوا ينتقلون من مالك إلى آخر وفق مقتضيات مصالحهم».
«كانت العائلات الكبيرة المالكة في بلدة حينه مؤلفة من آل ملّوك، وآل أبو حمد وآل كنج، وآل العجمي، وآل العريان وهؤلاء جميعهم من دمشق، يليهم عائلات من سكان البلدة، وهنالك ملكيات صغيرة، يشتريها الفلاحون من كبار الملاكين بعد تحسين أوضاعهم الاقتصادية نتيجة جهودهم ونشاطهم».
«اذاً لا اقطاع في بلدة حينه، ولا ممارسة للعقلية الاقطاعية الفاسدة التي كانت منتشرة في كافة أرجاء الوطن. بل كان يدير ممتلكات كبار الملاكين وكلاء من أهالي البلدة، تميّزوا بحسن التعامل والتعاون مع الفلاحين، وباستقامتهم وصدقهم مع الملاكين، وباهتمامهم بالمسؤولية التي انيطت بهم.
جميع أهالي البلدة كباراً وصغاراً رجالاً ونساء منتجون، كل حسب قدرته، عندما يبدأ فصل العمل الزراعي تزحف البلدة عند شروق الشمس إلى الحقول، وتعود إلى القرية عند المغيب، واثناء فصل الشتاء تستمر المرأة بالإنتاج حيث تعمل بالحياكة وصناعة القش صواني وأطباق بعضها يستعمل مائدة للطعام والآخر بديع الصنع تزيّنه الرسوم والنقوش لتعلق على الجدران كاللوحات الزيتية المعاصرة».
«وكان الاهالي يذهبون إلى بلدة كفرحور لطحن الحبوب وجرشها، حيث فيها مطحنة تديرها مياه النهر الذي يروي بلدتي كفرحور وحينه، ويدير هذه المطحنة رجل أرمني نزح إلى تلك القرية إثر مجزرة الأرمن التي افتعلها الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى».
«وفي بداية الخمسينات انشأ أحد الوافدين إلى حينه مطحنة يديرها محرك على المازوت، لتصبح هذه المطحنة بعد وقت قصير الوحيدة في المنطقة يأتي إليها جميع سكان القرى المجاورة لطحن حبوبهم.
أما مياه الشرب فيأتي بها الاهالي من الينابيع العذبة القريبة من البلدة، والمياه التي تحتاجه المواشي وللاستعمال في البيوت كانت متوفرة في آبار البيوت والمناطق القريبة منها.
وقد قام أهالي القرية منذ اواسط الاربعينات بمد شبكة مياه إلى وسط القرية مع بناء خزان وتوزيع المياه إلى 5 مصارف في الحارات المختلفة في القرية. أما المأكل فيكاد يكون موحداً لدى سكان القرية غنيّهم وفقيرهم. وهو من انتاج حقولهم ومواشيهم وطيورهم وكرومهم، وكان ذلك وفيراً، وكان الأهالي يوفّرون ما يحتاجون إليه من البلدات الأخرى عن طريق المقايضة، التي كانت تتم مع قرى راشيا الفخار وسواها من قرى الجنوب اللبناني، عبر جبل حرمون، من زيت زيتون وحبوب».
«أما الصحة فكانت هبة الطبيعة منذ الولادة حتى الوفاة، وليس في البلدة ولا في القرى المجاورة أية اسعافات صحية، ولا وسائل نقل تسعف المريض سريعاً، فكانت هنالك بوسطة سيارة ركاب كبيرة تذهب صباحاً إلى دمشق وتعود بعد الظهر.
أما أعراس القرية وأعيادها ومناسباتها، فيشترك الجميع بإقامة الاحتفالات، كما يشترك الجميع في المآتم، ويتمنعون عن إقامة أي نوع من الاحتفالات خلال اربعين يوماً، وذلك مشاركة لأهل الفقيد في أحزانهم. وأما مقابر الموتى فكانت غرفاً محفورة في الصخر تتضمنها نواويس محفورة في الصخر أيضاً.
إن هذا التوصيف بقي قائماً حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي، وأخذ في التغيير بعد ذلك خاصة في نهاية السبعينات عندما دخلت الكهرباء إلى البلدة، وكان الأهالي في حالة علمية وثقافية جيدة قادرة على استقبال هذه الطاقة والتفاعل سريعاً معها لنقل البلدة من حالة العصور القديمة إلى الحداثة في مختلف النواحي الحياتية، ولتصبح منارة اشعاع، ومراكز خدمات للقرى المجاورة».
الحزب القومي في حينه
«بعد نجاحي في الشهادة المتوسطة، زارني الأستاذ شاهين بدران، وكان مدرساً في مدرسة الهدى، هنأني بنجاحي، وأبدى رغبة بالتكلم معي على انفراد، لبّيت طلبه، وخرجنا من البيت إلى الطريق العام. بدأ حديثه قائلاً: أريد أن أعرّفك على الزعيم. فقلت له: اتعني حسني الزعيم، فقال: لا، الزعيم انطون سعاده. سألته: ماذا يقول الزعيم سعاده. عندئذ تكلم باختصار عن مبادئه الداعية إلى وحدة الأمة السورية، والوطن السوري، وعن مبادئه الإصلاحية. لم نقطع مسافة 200م حتى كان تجاوبي مع هذه المبادئ التي كنت أؤمن بها قبل اطلاعي عليها، وانتهى اللقاء عند هذا الحد. بعدها ذهبت إلى دمشق لأتابع دراستي الثانوية في مدرسة البطريركية الكاثوليكية في باب شرقي.
اتصل بي أحد اساتذة المدرسة وهو من آل مسابكي 4 ، وسألني اذا كنت راغباً في متابعة حلقات اذاعية عن الحزب؟ فأجبته بالإيجاب.
تمّ تواصلي مع طالب الطب الرفيق إدوار هواويني 5 ، فتابعت معه منفرداً بضعة حلقات مطوّلة، كان المذيع خلالها طليقاً جداً في حديثه، غنياً بثقافته، لم أفهم الكثير مما تحدث به.
بعد هذه الحلقات سألني إن كنت قد اقتنعت بمبادئ الحزب بعد اطلاعي على مبادئه، فأجبته انني مقتنع وأريد الانتماء.
حدد السيد هواويني الزمان والمكان لإجراء القسم في مكان في شارع القصاع، جرت جلسة القسم بحضور السيد هواويني والأستاذ مسابكي وغيرهما في شهر اذار 1954، وفي الوقت نفسه جرى القسَم لتلميذ معي في الصف الأول ثانوي، ابراهيم فرح الشاعر ومدرس الادب العربي . وبعد الانتهاء من جلسة القسَم أقبل جميع الحضور على معانقتي وتهنئتي والاحتفاء بي وبرفيقي الجديد».
«في اليوم التالي، ذهبتُ إلى المدرسة، وإذ افاجأ بمجموعة من التلامذة الرفقاء، يحيطون بي بحفاوة، ويقبلني كل منهم، مباركين ومهنئين. كانت فرحتي كبيرة بهذه الولادة الجديدة، وبهؤلاء الرفقاء المميزين، ليس في الصف الأول ثانوي فحسب بل على صعيد طلاب المدرسة واساتذتها عامة، وهم من عائلات ميسورة ومعروفة: مسابكي، ندّاف، فرح، حداد…».
«احاطني هؤلاء الرفقاء بكل الحب والاهتمام، وكانوا يتحيّنون الفرص لنخرج سوية ونتنزه على طرق الغوطة الشرقية، ونطلق الأناشيد القومية والأغاني البلدية، ويشجعونني على ان أكون البادئ في الغناء، لأنني ابن القرية وألمّ بهذا النوع من الغناء.
وفي نيسان ذهبت إلى القرية لاشترك بعيد الفصح مع أهلي، وبقيت في البلدة لأعمل بالزراعة مساعدة لأهلي».
«بدأ نشاطي الحزبي في القرية خلال صيف هذا العام، فاتصلت بأصدقائي ـ وهم كثر، ودعيتهم للانتماء إلى الحزب، وهكذا صار، بعد أن انهوا الاجراءات النظامية، حتى أن أحدهم بلغ به الحماس أن أقسَم يمين العضوية في أثناء الحلقة الاذاعية الأولى.
خلال المدة المتبقية من السنة انتمى إلى الحزب ما يزيد على الأربعين عضواً معظمهم لا يتعدى العشرين من العمر، وهم من مختلف عائلات البلدة، وكانت عائلات عازر وبشاره وحامد الرافد الأساسي للانتماءات، والحاضنة لتيار الحزب».
«كانت الاجتماعات الدورية تعقد في بيت الرفيق جميل العريان الأمين لاحقاً ، ويديرها الرفيق شاهين بدران، وبانضمام الرفقاء الجدد إلى الرفقاء القدامى في المديرية، أصبحت المديرية تضم 50 رفيقاً، هذه الفورة القومية المباركة في البلدة استقطبت ثقة الرأي العام الذي هلّل لوجودها ولنشاطها ولمسلكها، الذي أضاف إلى المسلك الاجتماعي الخيّر في البلدة حجماً جديداً ناصع البياض من التعاون والمحبة والود والإخاء القومي.
وكان التعاون رائدنا، وخاصة في موسم الحصاد: يتأهب القوميون لمساعدة رفقائهم، كل حسب طاقته، بنخوة قلّ نظيرها، ينشدون الأناشيد القومية ومقاطع من شعر الأمين عجاج المهتار:
يا زوبعة الله معك
ع الموت نحنا منتبعك
قديش منصبر قديش
طمعوا فينا وقالوا قلال
وغيرها، حتى أصبحت هذه الأهازيج غناء الحصادين في بلدة حينه، واستمر الأهالي يرددونها إلى نهاية الستينات حيث حلّت الآلة محل اليد العاملة في هذا العمل، وعلى الرغم من ملاحقة الدولة لأعضاء الحزب إثر اغتيال المالكي.
وكان للمديرية نشاط سياسي مميّز في الانتخابات النيابية. كانت حينه مركزاً لقلم انتخابي يضم عدة قرى وبلدات، ومنها بلدة عين الشعرة وكان الرفيق محمود جبر مدير مديريتها، وهو فاعل وله حضور اجتماعي هام ساهم مع مديرية حينه في الحصول على أكثرية الأصوات لصالح المرشحين: حسين مريود ابن الشهيد احمد مريودـ، وشقيق الرفيق عصام. والرفيق كمال كنج أبو صالح من بلدة مجدل شمس».
«كما اشترك اعضاء المديرية في انتخابات الغوطة النيابية لصالح الأمين المحامي حنا كسواني 6 ، وفي دمشق لصالح الأمين عصام محايري، فنجح الأول وذهبنا إلى بلدته داريا لنحتفل ونشارك في التهاني وكانت الجموع الغفيرة تملأ الساحات وتقيم الاحتفالات.
هذه الحركة الناهضة للحزب، وفي بلدة حينه لم تدم طويلاً لتأتي بثمارها النهضوية، أن على صعيد الاعضاء أو على صعيد السكان، فقد كان لاغتيال العقيد عدنان المالكي وحلّ الحزب، وما نتج عن ذلك من اعتقالات وملاحقات لاعضاء الحزب في كل الجمهورية الشامية من اثر بالغ على حركة الحرب».
في حينه راح الأعضاء يلجأون إلى المغاور، خوفاً من القبض عليهم والإيقاع بهم، وسيق الكثيرون منهم إلى زنزانات المزة وأقبية سامي جمعة وعبد الحميد السراج وما يعني ذلك من تعذيب فائق الوحشية.
وقبض سامي جمعة على الرفقاء: يوسف فضول، جريس عواد، فارس كنج أبو صالح. كان الثلاثة يعملون في الشركة الخماسية الواقعة شرقي دمشق.
تلك الملاحقات والتوقيفات والسجون لبعض الرفقاء، والمداهمات لبيوت القوميين في بلدة حينه، وإثارة الرعب والخوف، كان لها تأثيرها في صمود الكثير من الأعضاء، لا سيما أنهم جديدو الانتماء والممارسة على تحمل الصعاب، فانكفأوا وتراجعوا عن متابعة المسيرة».
«أما القلّة الباقية المؤمنة، فقد استمرت بممارسة العقلية الاخلاقية والتربية الاجتماعية العصرية الراقية التي تقوم على مبدأ المصلحة العامة. لذلك انتهى دور الوحدة الاجتماعية الإدارية المديرية في وقت مبكر، ولكن فعل بعض الأعضاء الذي جسّد فعل النهضة استمر في جميع أعمالهم ومسؤولياتهم التي اثبتت استمرار الحزب بعملهم وبأخلاقيتهم. ومن هؤلاء الرفقاء:
الرفيق شاهين بدران: مدير مديرية الحزب في حينه، وهو ابن مختار البلدة، ضليع في اللغة العربية، فاستعان به الأستاذ نقولا حنا في مدرسته عام 53. حدث النشاط الحزبي المميز والذي تحدثت عنه سابقاً بإدارته للمديرية واستمر في المسؤولية الحزبية لغاية حلّ السلطة الشامية للحزب.
كان الرفيق شاهين عامر الإيمان بالعقيدة، شديد الإخلاص لها ولمعتنقيها، قوي العزيمة على متابعة النضال لأجل انتصارها».
«تابع تحصيله العلمي، وحصل على الشهادة الجامعية، وسعى للتعليم في أية ثانوية خاصة أم رسمية، قريبة كانت أم بعيدة، ولكن السلطة الرسمية سدّت بوجهه جميع الأبواب».
«أمام هذه الحالة من محاربته حتى في اسباب عيشه، تنازل له والده عن رخصة الدخان، فكانت مورد رزقه، وتأمين متطلبات عيش عائلته. فكان عمله هذا وسيلة لتعارف الناس عليه من مختلف القرى المجاورة التي ترتاده لتأمين حاجياتها من هاتين السلعتين.
كان يتردد إلى لبنان سراً ويزورني من خلال جولاته على الرفقاء والاصدقاء. وكذلك كنت كلما ذهبت إلى حينه نلتقي معاً ونتداول في الشأن الحزبي وخاصة عن الوضع في لبنان والحرب الأهلية».
«وأثناء إحدى زياراتي عام 78 للبلدة، أوصل لي سلاماً وتحية، وخبراً أن أزوره في بيته لأن الواشين لا يتورعّون عن الاساءة إليه، وأنه للتو خرج من التحقيق معه في فرع الامن العسكري في بلدة سعسع. ذهبت إلى بيته، واوقفت سيارتي على الطريق العام، ليعرف كل من مرّ من هناك بوجودي عنده. تحدثنا في موضوع الاعتقال ومجرياته وأسبابه، وقيّمنا نتائجه، ووصلنا إلى خلاصة إيجابية لهذا الاعتقال، بحيث أن الجميع كانوا يسألون عن سببه، ليعلموا بأن ذلك نتيجة لانتماء الرفيق شاهين للحزب السوري القومي الاجتماعي. فعاد التداول باسم الحزب في منطقة واسعة من قرى حرمون بعد انقطاع طيلة عقدين ونيّف عن ذكر اسم الحزب.
فكان الرأي موحداً بوجوب العودة إلى العمل الحزبي بشكل منظم. فسعى الرفيق شاهين للاتصال بالمركز في بيروت. وانتظم العمل الحزبي بشكل سري وبأسماء مستعارة للوحدات الحزبية وللأعضاء. وقد تشكلّت مفوضية تابعة لمنفذية ضواحي صيدا ريف دمشق 7 تمتد حتى السويداء، منفذها العام الرفيق ايليا معري الأمين لاحقاً وقد عُيّن الرفيق شاهين بدران مفوضاً للمفوضية سميّت «مفوضية حرمون التابعة»وفي العام 2002 رفع الرفيق اسعد البحري الأمين لاحقاً بصفته ناموساً لمنفذية «حرمون» باستثناء الرفيقة خالدة شاهين بدران من شرط سنّ الانتماء، فأقسمت في ذكرى تأسيس الحزب في 16-11-2002، في فترة تولي الرفيق الياس انطون مسؤولية مفوض مفوضية «حينه»، وفي العام 2003 تمّ تعيين الرفيقة خالدة بدران مديرة لمديرية حينه 8
ولم يمض وقت طويل حتى فجعت المنية هذا الرفيق الرمز المناضل بتاريخ 27/05/1980. وكانت الخسارة كبيرة وهو في أوج عطائه وحيويته،
وقد أقيم للرفيق الراحل شاهين بدران مأتماً لائقاً، وتأبيناً كبيراً في ذكراه الاربعين وحضر رفقاء واصدقاء ورثاه العديد من الشعراء من بينهم نقولا حنا حيث قال:
أعاتب العين إن جفّت فلا عبرُ
تزفها إذ نأى عن أهله القمرُ
قد غاب وا حسرة الآهات اذرفها
فالقلب بعد أبي بشار منفطر
زين الشباب أبا بشار ما اكتملت
وردات روضه او زهراته الزهر
ورثاه الرفيق اسعد البحري الأمين لاحقاً بقصيدة نشرها الأمين نواف حردان في صحيفته «الانباء» بالبرازيل ومما قال فيها:
بكت العواصف والزوابع فقدهُ
وبكته كل جبالنا والبيدُ
وبكاه أرز الرب في ترحاله
دمعاً يفيضُ وفي الحشا تنهيدُ
ما بين دجلة والفرات تساءلت
أرباب شعر هل خبا التغريدُ
شاهين يا رمز النزاهة والوفا
عن مبدأ الاحرار ليس يحيدُ
قاسى الحياة شعابها وصعابها
رحبَ الصدارة مرشدٌ صنديدُ
لو يُفتدى بالروح ألفيت الفدا
روحٌ تزاحم أختها ووريدُ
وقد استمر العمل الحزبي شبه السري وعُيّن الرفيق مظهر شوقي كان مرافق لحضرة الزعيم عيّن مفوضاً خلفاً للرفيق شاهين وكان الرفيق مظهر قد أشرف على جلسة قسم الرفيق اسعد البحري في منزل الرفيق الياس عازر بعد ان كان قد تعرّف على الحزب في العام 1976 على يد الأمين الياس جرجي قنيزح في شتورة اثناء تواجده كمقاتل في لبنان، وقد استمر العمل الحزبي تابعاً لمنفذية ضواحي صيدا مديرية قطنا ومديرها الرفيق المرحوم موسى الأنوف تارةً وميخائيل أبو عيسى».
أورد الأمين يوسف فضول هذه الاضاءات عن عدد من الرفقاء في حينه ننقلها كما هي:
الأمين جميل العريان: عرفته عن كثب خلال العام 1954، وكان بيته مقراً لاجتماعات المديرية الدورية، ولجلسات هيئة المديرية، وللنشاط الإذاعي، وللحلقات للمواطنين. وكان يملك محلاً تموينياً، يتجمع فيه الرفقاء للتداول في الشأن الحزبي، وفي النشاطات المزمع القيام فيها.
اتصف الأمين جميل بالشجاعة والمروءة والتعاون والكرم، وكان له دور هام لمصلحة الحزب أثر ملاحقة السلطة للقوميين، تأذت السلطة من جرائه، فأخذت تلاحقه، وتتقصّى أخباره، أما عن طريق مخبريها أو عبر الصحف، حتى أعلنت عن دفع 50 ألف ليرة سورية لمن يرشدها عن مكان وجوده.
مارس الأمين جميل البطولة أثناء العملية الانقلابية في لبنان، وحكم من جراء مشاركته ثمان سنوات. كما تحمّل الصبر على المكاره، وعلى آلام جروحه العميقة باستشهاد ولده الرفيق سعاده، من أجل وأد الفتنة وسلامة النهضة.
أحب الأمين جميل رفقاءه وأهل بلدته حينه، يتابع أخبارهم، يزور مرضاهم عندما كانوا يعالجون في مستشفيات لبنان، وكم صرّح باشتياقه إلى زيارة بلدته وناسها، ولكنه أحجم عن الزيارة وقد سنحت له الفرص بذلك، لكي لا يحرج هؤلاء الأحبة ويسبب لهم الضرر، ويوقعهم بالمصاعب مع السلطة. وكانت أمنيته أن يدفن في بلدته حينه، ولكن هذه الأمنية لم تتحقق. سنتحدث عن الأمين جميل عريان في نبذة خاصة نحكي فيها عن سيرته، وعن مسيرته النضالية. ل.ن. .
الرفيق جدعان بشارة: قوي الشخصية، شديد الإيمان بالقضية القومية، وهو من اكبر العائلات في البلدة، يتصف أفرادها بالإقدام. وهو من الأعضاء القلائل الذين لم ينقطعوا عن التواصل معي الأمين يوسف فضول أثناء زيارتي للبلدة، بينما كان أكثرية الرفقاء يتحاشون ذلك لخوفهم من عيون الوشاة والإيقاع بهم.
كان الرفيق جدعان نموذجاً للعقلية الأخلاقية الجديدة التي تخطّت العصبية العائلية التي مارسها أفراد أسرته. فقد نجحت الثقافة القومية في بناء شخصيته على مبدأ المصلحة العامة، حيث ترجمها أثناء تسلمه مهمات ومسؤوليات تختص بمصلحة البلدة. إن سلوك الرفيق جدعان كان قدوة ومثلاً جيداً، ساعد عملياً المواطنين للإقبال على فكر الحزب والانتماء إليه، ولا بد من التذكير هنا، أن الانتماءات الأولى للحزب كانت بعامل قدوة الأعضاء وسلوكهم الجيد أكثر من عامل الثقافة الحزبية.
الرفيق نقولا بشارة: انتمى إلى الحزب عام 54 خلال موجة اقبال الشباب على الحزب، وبعد ذلك بقليل وبعد انتهاء خدمته الإجبارية في الجيش، دخل سلك الشرطة، واستقر في العاصمة حيث قضى معظم خدمته. مارس خدمته بروح المسؤولية وقيم الواجب، ونظافة الكف، فنال محبة الناس وتقديرهم، وهذا ما لمسته بنفسي أثناء تجوالي وإياه في كثير من أحياء العاصمة دمشق بعد تقاعده، كيف يستقبله أصحاب المحلات التجارية بالترحيب والتقدير. كما نال التنويه والتقدير من رؤسائه وصولاً حتى وزير الداخلية بالذات.
«عندما انهى خدمته في الوظيفة، أعلن امام الملأ نهجه القومي الاجتماعي في الوقت الذي لا يزال العمل الحزبي محصوراً والسلطة تلاحق الأعضاء العاملين وغير العاملين.
كان الرفيق نقولا يتابع الاتصال بالقوميين القدامى في الشام وفي لبنان لكي يكتسب المزيد من الثقافة الحزبية، بالإضافة إلى مطالعاته الخاصة على التراث الحزبي، فتكونت عنده ثقافة جيدة، وخبرة واسعة وعلماً في الشأن الإداري والقانوني اكتسبه أثناء تأدية خدمته في الوظيفة. فكان لموقعه المادي والعلمي والأخلاقي النصيب الوفير لانتخابه رئيساً لجمعية الفلاحين في البلدة خلفاً لابن خاله الرفيق جدعان بشارة.
قام الرفيق نقولا بأعمال نهضوية عصرية على الصعيد الزراعي، تركت أثراً كبيراً في نفوس الأهالي، وفي تحسين أوضاعهم الانتاجية، حيث سعى ونفّذ مشروعاً كبيراً على مستوى المنطقة، وهو صبّ مجرى النهر الذي يروي سهول البلدة، بالإسمنت من مكان تفرّعه عن نهر الأعوج لغاية جداوله المتفرّعة عن المجرى الأساسي في البلدة».
«حسّنت هذه العملية كميّات المياه، ومنعت تسربها عبر المجرى الترابي. ورعى بهمة ونشاط وبسعي دؤوب عملية تسويق الانتاج الزراعي عامة وانتاج اليانسون الذي اشتهرت به حينه كميةً ونوعيةً، خاصة في عموم السوق الشامي وفي لبنان».
«ومن نشاطه المستمر في مهمته ومسؤوليته، السعي والمتابعة حتى تنفيذ تزفيت الطرق الزراعية، ومدّ خطوط الكهرباء إلى الحقول لتكتمل بذلك نهضة زراعية في البلدة قلّ نظيرها.
وفي عام 2010 فاجأت الجميع وفاة الصديق والرفيق نقولا بشارة، فكان حزن عميق أصاب رفقاءه وأصدقاءه في الصميم. وجرى له مأتم مهيب، حضره بالإضافة إلى أهل البلدة وجوارها، رفقاء من المناطق ومن مديريات دمشق ومديريات محافظة ريف دمشق.
الرفيق الياس عازر: هو من رعيل الاربعينات من القرن الماضي، رجل مرموق في البلدة ورمز في عائلته الحاضنة للحزب، مع الرفيق جريس عازر أبو كايد الذي سافر إلى الولايات المتحدة مع عائلته، أثناء حركة الحزب الناشطة في البلدة.
تبوأ الرفيق الياس مسؤوليات عديدة منها أمين صندوق الطائفة الكاثوليكية وشماس كنيستها ووكيل مال أحد المتمولين، فساعد على قضاء حاجات بعض الناس ودعم مدرسة الطائفة الابتدائية التي استمرت حتى نهاية الخمسينات.
وعندما توحّدت المدرسة الاعدادية بإشراف الحزب السوري القومي الاجتماعي كلّف بإدارة ماليتها، وكانت زوجته، الرفيقة دورا، تساعده في أمور تصعب عليه متابعتها، فتأتي إلى لبنان إثر حل الحزب في الشام وملاحقة أعضائه لكي تنقل إلى الحزب الحالة التي تمر بها المدرسة، وتتزود بالمعلومات والمساعدات المالية التي تحتاجها المدرسة، مما ساعد على تنميتها واستمرارها ردحاً من الزمن على الرغم من الظروف القاسية التي مرّ فيها الاساتذة والإداريون.
في نهاية الخمسينات اقفلت المدرسة أبوابها، وانتقل الرفيق الياس إلى لبنان ليستقر في بلدة الزلقا، ولينتظم حزبياً في مديريتها، وليعمل في البناء حتى حصول الفتنة الأهلية عام 1975 في لبنان، حينها تعرّض الرفيق الياس كغيره من الرفقاء في منطقة المتن الشمالي لضغوط الانعزالية مما دعاه إلى العودة إلى دمشق ومن ثم إلى حينه ليستقر نهائياً فيها، وليجدد دوره المميّز في عائلته وطائفته ومع رفقائه وسكان بلدته.
فكانت للرفيق الياس المساهمة والمبادرة مع كاهن البلدة من الطائفة الارثوذكسية ورموز البلدة من الطائفتين الارثوذكسية والكاثوليكية في انجاز الحدث الكبير، وهو توحيد الأعياد المسيحية، فكان باكورة المحاولات الوحدوية التي قامت فيما بعد في عدة بلدات في الشام ولبنان. وتجدر الإشارة وبفخر أن هذا الاتجاه الوحدوي لم يتحقق إلا في المناطق ذات الوجود القومي الفاعل في مناقب الجماعة وأخلاقياتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر بلدة صافيتا في الشام وضهور الشوير في لبنان.
توفي الرفيق الرمز الياس عازر بعد معاناة مع المرض، لم تضعف شدة إيمانه بالحزب ومحبته لأبناء الحياة، كما كان يردد، وكان ذلك في بداية القرن الحالي، عن عمر يناهز الثمانين سنة.
فجرى له مأتم شعبي وقومي اشترك فيه القوميون من مختلف المناطق الشامية واللبنانية، لفتت أنظار المواطنين واستحوذ هذا المشهد على اعجابهم بأخلاقية القوميين ومساهمتهم في تكريم رفقائهم.
الرفيق جريس نعمان بشارة: ولد عام 1929، وعمل في الزراعة مع عائلته، وكان محباً وودوداً لاترابه وللصغار. التحق بالخدمة الإلزامية عام 1949، ثم تطوع في الجيش الشامي، وانتمى إلى الحزب عام 1953، تخرج عام 1960 برتبة ملازم. تصدى مع رفقائه في سلاح الدفاع الجوي للعدوان الاسرائيلي عام 1967، ونال وسام الشجاعة من الدرجة الأولى لإسقاطه طائرة معادية. شارك في حرب تشرين عام 1973، تقاعد من الجيش برتبة مقدم عام 1975.
استقر في حينه بعد تقاعده ليعمل مع أفراد عائلته في أملاكه الواسعة، وأعلن عن انتمائه الحزبي غير هيّاب من الوشاة ومن رجال الأمن وتدابيرهم.
كان الرفيق جريس أبو نعمان شاعراً شعبياً بليغاً في اللغة العربية، لا يترك مناسبة للأفراح أو للأحزان يدعى إليها في الشام أو في لبنان، وكانت تخص القوميين، إلا ويلبي الدعوة.
وكانت قصائده في كلتي الحالتين تلهب مشاعر الحاضرين، حتى طارت شهرته بين الناس، ودوّنت الصحف والمجلات الكثير من قصائده ومراثيه.
التحق الرفيق جريس بقوات الحزب مدرباً ومقاتلاً عام 82 في ضهور الشوير وفي جنوب لبنان، وشارك في مقاومة الاجتياح الاسرائيلي مع الرفقاء الشباب حيث شهد أمامي بشجاعتهم وسرعة حركتهم وفاعليتهم القتالية. توفي الرفيق جريس في بيته بدمشق بتاريخ 20/10/2000 ونقل جثمانه إلى بلدته حينه.
أقام الرفقاء له مأتماً مهيباً. فتجمع بعضهم حول منصة، يطلقون المراثي طيلة ذلك النهار امام حشد كبير من الأهالي، وأنهوا ذلك المأتم بصفوف بديعة النظام، لم يشاهدها الحاضرون من قبل، وفق تراتبية حزبية، رافعين يمناهم زوايا قائمة إلى جوار نعش الرفيق الفقيد، يقدمون له تحية الوداع.
كان ظهور القوميين العلني بمناسبة مأتم الرفيق «أبو نعمان»، فاتحة العمل الحزبي المنظم والعلني، وفي الوقت نفسه كان مثار إعجاب الحاضرين من المواطنين من أهل البلدة والجوار، وخاصة كثافة الوجود الحزبي بأعداد فاقت تصورهم».
مزيد عن الرفيق جريس بشارة أبو نعمان :
ـ ولد الرفيق جريس بشارة أبو نعمان في قرية حينه عام 1929.
ـ انتمى إلى الحزب في 23/10/1953.
ـ التحق بالخدمة الالزامية في العام 1949، ثم تطوع في الجيش الشامي برتبة صف ضابط. تخرج عام 1960 برتبة ملازم. تصدى مع رفقائه في سلاح الدفاع الجوي للعدو الصهيوني في العام 1967، ونال وسام الشجاعة من الدرجة الأولى لإسقاطه طائرة معادية.
ـ بعد تقاعده من الجيش في العام 1975، التحق مدرباً في صفوف المقاومة الوطنية.
ـ اقترن من السيدة نظيرة شلهوب وانجب منها 6 أولاد نعمان، بسام، غسان، حسام، سلمى وليلى وجميعهم أصدقاء للحزب.
ـ منح الرفيق بشارة وسام الواجب،
ـ ورد في مطالعة هيئة مديريته على اضبارة ترشيحه بتاريخ 14-3-2000 التالي: «الرفيق جرجس بشارة مقعد منذ حوالي سبع سنوات ولليوم لم يتخل عن العقيدة القومية الاجتماعية وهو ضابط في الجيش الشامي وكان مثالاً للتضحية حسب إفادات كل الرفقاء الذين كانوا معه».
«وكانت نشرة صوت النهضة قد أوردت في عددها بتاريخ 16 تشرين الثاني 2000 نص الكلمة التي كان ألقاها الأمين عادل طبري 9 في حفل تأبين الرفيق بشارة في بلدته حينه بتاريخ 20/10/2000:
«أبا نعمان. أيها الرفيق الغالي. يا شيخ الشعراء و يا قدوة المناضلين، يا تلميذ سعاده العظيم، يا رفيق سناء محيدلي ووجدي الصايغ وعمار الأعسر وخالد الأزرق وخالد علوان وكواكب الشهداء، ومن بينهم الشهيد الطفل محمد الدرة.
يا أبا نعمان، أيها المناضل حتى على فراش الألم والمرض، صدَق فيك قول المعلم بأن «أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا… كما أن طريقنا طويلة وشاقة، لان جميع قوى الشر الغاشمة، من يهود الخارج ومن يهود الداخل، يتربصون بأمتنا ويتآمرون على شعبنا ووطننا، ولا يكون لنا انقاذ إلا بالعزيمة الصادقة والبطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة.
يا رفيقي، نعلنها باسمك، وبمواقف العز التي وقفتها في ساحات النضال والصراع، أننا نؤمن ايماناً مطلقاً بأننا حماة الضاد وسيف العالم العربي وترسه، ونسعى لإنشاء جبهة عربية تشكل سداً منيعاً في وجه المطامع الأجنبية.
أبا نعمان، أهديك في عليائك هذه الأبيات:
انا مغرمٌ عَصَف الهوى بفؤادي
وهواي ليس بزينبِ وسعادِ
عفواً عيون الفاتنات فمهجتي
ولهى، مدلّهة بحب بلادي
أحببتها وأنا فتيّ يافع
وأحبها والعزم في أبرادي
اسخو عليها بالدماء زكية
وبخفق رايتها يطيب الجهادي
فإذا حييتُ، حييت فيها شامخاً
وإذا قضيتُ فحبذا استشهادي
إيه بلادي، يا خميلة نرجس
طِيْبَ الهوى والسحر والأمجاد
يا للجمال على بنيه محرماً
بل مئلاً للأجنبي المرتاد
هبّوا بني قومي فقد طال الكرى
وفلول غدرٍ أمسكَتْ بوهاد
خطوا على التاريخ آيات العلا
فالمجد والتاريخ يوم جهاد
حُلوا التنابذ بينكم، وتوحدوا
أفلا ترون على الحدود اعادي
شحّذوا السيوف ليستبيحوا أرضكم
وسيوفكم ترتاح في الأغماد
فمغارة الميلاد ترقب زحفكم
والمسجد الأقصى هناك ينادي
سيروا إلى تحرير أقدس بقعة
من شر عدوان وكيد فساد
لتهلّ في أفق الفخار بنودنا
ويزغرد الأجداد في الألحاد».
بعد ان اطّلع حضرة منفذ عام حرمون الأمين أسعد البحري على النبذة المعدة عن حينه، مسجلاً ما لديه من ملاحظات، ومضيفاً ما رآه مناسباً، أضاف المقطع التالي الذي ننشره مع شكرنا وتقديرنا.
«أنا أعلم أنّ رئيس لجنة تأريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي الأمين جزيل الاحترام لبيب ناصيف، وناموس اللجنة الرفيقة المحترمة أروى بو عزّ الدين، لا ينتظران على جهودهم الكبيرة المبذولة أيّ شكر أو ثناء. لكن الحق يقال إنهما يستحقان كل الشكر والامتنان والثناء على عملهما الدقيق والمثمر، والشكر موصول للأمين جزيل الاحترام يوسف فضول، فلطالما وجّهنا حضرة الزعيم لدراسة تاريخ الحزب لأهميته في مسيرة نضالنا لتحقيق النهضة وسنقوم بمتابعة تزويد اللجنة بالصور اللازمة ونشرة جديدة عن الرفقاء والرفيقات الذين لم تذكرهم هذه النشرة… منهم للمثال وليس للحصر الرفيقتان: جميلة ذوابي، دورا نجم. والرفقاء: عيسى رماح، ميخائيل صبيح، الياس أنطون، الياس حمصي، وسواهم ممن طبقوا في حياتهم الحزبية والاهلية مناقبية القوميين، وقدوتهم حضرة الزعيم».
هوامش:
1 – الأمين يوسف فضول: تولى في الحزب مسؤوليات عدّة، محلية ومركزية وهو رفيق مثقف عقائدياً، وواع قومياً اجتماعياً، مجاز في التاريخ. عمل في القطاع التربوي فترة طويلة، وفي قطاع الزراعة. يقطن حالياً بلدة كفرشيما.
2 – رؤوف الأحمدية: هو رفيق من شارون، وكان يقطن الشويفات. حاولنا عبر معنيين ان نحصل على معلوماته عن مدرسة حرمون، فلم نصل إلى النتيجة المفيدة.
3 – جميل مشرقي: يفيد منفذ عام حرمون الأمين أسعد البحري انه كان للرفيق جميل مشرقي الفضل الكبير في مدرسة القوميين في حرمون والتي اشتهرت بِاسم النهضة شعبياً بالتدريس، وفي نشر الفكر القومي الاجتماعي.
4 – عرفت رفيقاً من آل مسابكي، هو المحامي سهيل مسابكي، وكان مجلياً، أورد عنه الرفيق إياد موصللي في اكثر من مكان في مؤلّفه «أنطون سعاده، ماذا فعلت؟».
5 – عرفت من آل هواويني الأمين يوسف، أستاذ الجامعة والأمين الناشط في سويسرا، المشكّل حضوراً قومياً اجتماعياً جيداً إلى جانب الأمين د. قسطنطين صايغ ورفقاء آخرين، منهم المدير الرفيق طلال ديب والرفيق النشيط نضال سعاده.
وعرفت عن شقيقه الرفيق المناضل الياس، الذي قضى بعد سنوات طوال كان فيها مشلولاً، طريح الفراش اثر اصابته في العمود الفقري عندما كان في مخيم تدريبي للحزب، وقد تحدثت عنه مراجعة موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info .
6 – حنا كسواني: كان قد مُنح رتبة الأمانة. انتخب نائباً عن منطقة الغوطة. نشرنا ما أورد عنه الرفيق إياد موصللي في كتابه المشار إليه آنفاً. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
7 – ضواحي صيدا: الاسم السرّي لضواحي دمشق.
8 – كما جاء من منفّذ عام حرمون الأمين أسعد بحري.
9 – الأمين عادل طبري: عرفته بعد خروجه من السجن في شباط 1969، لمشاركته في الثورة الانقلابية. نشط حزبياً وتولى مسؤوليات محلية ومركزية، ثم تابع ذلك بعدما انتقل إلى دمشق. تولى إدارة العمل البلدي في «قرى الاسد» في محيط دمشق. بات في عمر متقدم.