هل يتصاعد التوتر بين تركيا واليونان إلى الصدام؟
رغم أن التوتر المتصاعد بين تركيا واليونان لا يتصدّر اهتمام وسائل الإعلام إلا أنه يستحقّ تسليط بعض الأضواء لما يختزنه من احتمالات التأزيم في المشهد الإقليمي المشحون.
شكلت اكتشافات النفط والغاز في مياه البحر المتوسط عاملاً إضافياً لزيادة منسوب التوتر بين الجارتين، تركيا واليونان، وتنذر بتطور الأزمة بينهما إلى مرتبة صدام مسلح. كما أن للبلدين تجاذبات وصدامات على السيادة في مياه وأجواء بحر إيجة، فضلاً عن الترسبات التاريخية للطرفين خاصة في جزيرة قبرص المقسّمة مما يعيق التوصل لحل الأزمة المتجدّدة، ولا ينبغي إغفال مصالح الولايات المتحدة في إبقاء جذوة الصراع بينهما مشتعلة، لكن ضمن حدود السيطرة، مع الأخذ بعين الاعتبار موقعهما داخل حلف الناتو.
قضت الإمبراطورية العثمانية على الإمبراطورية البيزنطية بدخولها اسطنبول/ القسطنطينية عام 1453م. اليونانيون لا زالوا متمسكين بالقسطنطينية/ بيزنطة باعتبارها العاصمة الروحية للروم الأرثوذكس، والتي كانوا أصحابها على مدى التاريخ المدوّن. وأنشأوا فيها كنيسة آيا صوفيا رائعة الجمال التي حوّلها العثمانيون مسجداً إسلامياً ثم تحوّل المبنى متحفاً أبّان حقبة الحكومة الكمالية، 1935.
أدّى تحجيم وتقسيم الإمبراطورية العثمانية إلى انكفاء السلطة التركية وسيادتها على الأناضول، واستعادت اليونان استقلالها على بعض أراضيها، إذ لا تزال الأناضول ترمز إلى عظمة بيزنطة قبل تحوّلها الإمبراطورية الرومانية، وسيطرة العثمانيين عليها لاحقاً. وفي الوجدان اليوناني لا تزال منطقة الأناضول تعتبر أرضاً يونانية بكاملها.
كما أن الجزر المنتشرة في بحر إيجة لا تزال تكنّى بصفتيها اليونانية والتركية/ العثمانية: جزر إيميا/ ليمنيا اليونانية وكارداك/ التوأم بالتركية . الجزر عبارة عن «صخرتين تمتدان على مساحة 40 دونما»، وتبعدان نحو 7 كلم عن مدينة موغلا التركية الساحلية. هذا علاوة على ما أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى من ترتيبات حدودية بتقسيم الإمبراطورية العثمانية وعقدها معاهدات جديدة، منها مع اليونان، برعاية الحلفاء.
أبرز تلك المعاهدات كانت «معاهدة لوزان». أبرمت في 24 تموز/ يوليو 1923 وحددت الوضع القانوني «للجزر المنتشرة في بحر إيجة»، وسيادة تركيا على بعض تلك الجزر. ونصّت «المادة 16» من المعاهدة على «..تنازل تركيا» عن كافة حقوقها القانونية في الجزر الواردة في الاتفاقية. أما ترسيم الحدود بين الجارتين شكل غموض النص سمته الأساسية مع تداخل عوامل «تاريخية» أخرى جرى بموجبها نقل ملكية 12 جزيرة صغيرة من إيطاليا لليونان، 1947، بعدما كانت الاتفاقية التركية الايطالية 1932 قد منحت ايطاليا السيطرة على بضع جزر.
السيادة لمَن؟
بحر إيجة من مياه وموارد طبيعية، فضلاً عن الجزر المنتشرة فيه، يشكل ولا يزال بؤرة التوتر والصراع بين البلدين وارتفاع المنسوب وهبوطه أيضاً يبدأ وينتهي ببحر إيجة. الاكتشافات النفطية والغازية الحديثة في باطن البحر تشكل عامل توتر إضافي ينذر باندلاع حرب إقليمية قد تستدرج دولاً أخرى في الإقليم نظراً لتداخل الحدود المائية: قبرص، سورية، لبنان، مصر، والكيان الصهيوني.
بداية، تُحيط نحو 12 جزيرة يونانية بالسواحل التركية على بحر إيجة، تعتبرها اليونان «جزءاً لا ينفصل عن يابستها» والتي لها أهمية استراتيجية للبلدين، لا سيما تركيا بحكم تلاصقها مع البر التركي. جزيرة ساموس، على سبيل المثال، تبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن السواحل التركية.
كما تعتبر اليونان مجالها الجوي فوق مياه إيجه امتداداً لمياهها الإقليمية بعد تحديدها لها بعمق 10 أميال، وتقرّ تركيا بعمق لـ 6 أميال بينما وقعت الدولتان اتفاقية تقضي بمنح كلتيهما عمقاً بحدود 3 أميال فقط.
الأعراف الدولية تحدّد المياه الإقليمية بعمق 12 ميلاً، مما عمّق الشرخ بين الجارتين. بعبارة أخرى، تُعتبر اليونان أن «الجرف القاري» ينتهي عند أقصى الجزر اليونانية في بحر إيجة، وترفضه تركيا بشكل تامّ.
القانون الدولي للبحار أقرّته الأمم المتحدة عام 1982 يعتبر معظم مساحة بحر إيجة ضمن الأراضي الإقليمية لليونان، بعمق 12 ميلاً. لكنه يمنع اليونان من تجميع الجزر التي يمكنها الاستفادة من «نظام الأرخبيل مع جرفها القاري» الغني بالموارد الطبيعية. اليونان بالمقابل تقدّمت لمحكمة العدل الدولية، 1978، للبتّ في النزاع مع جارتها بيد أن المحكمة أرجأت البتّ فيه خشية أن يؤدي قرارها لاندلاع الحرب بين الدولتين.
ردّت تركيا بتهديد جارتها، 1995، بأن أي خطوة تطبّقها اليونان لاعتبار المياه الإقليمية بالعمق الدولي المحدّد بمثابة إعلان حرب وكذلك الأمر للأجواء الإقليمية. وترفض تركيا إلى اليوم تقديم خطط سير طيرانها العسكري فوق المياه الدولية لبحر إيجة، مما دفع الطائرات اليونانية التصدّي للطائرات التركية العسكرية، لتعود سخونة المواجهات مرة أخرى إلى الصدارة.
يُشار إلى أن الجزء الأكبر من الأجواء فوق بحر إيجة يخضع لأعراف دولية، منطقة معلومات الطيران، مما يستدعي كافة الطائرات العابرة لتلك الأجواء تقديم خطط سيرها مسبقاً. فالطيران المدني يسمح بمروره دون عراقيل تُذكر لكونه يندرج تحت المعاهدات الدولية لتنظيم سيره، أما حركة الطيران العسكري والقوى العسكرية الأجنبية الأخرى لا يسري عليها التعريف الدولي مما يحرمها من المرور فوق أجواء أو عبر مياه إقليمية لبلد آخر دون إذن مسبق.
شكّل التدخل العسكري التركي في قبرص، 1974، نقطة تحوّل استراتيجية في علاقة البلدين لا زالت أصداءها ماثلة للعيان. اليونان من جانبها سحبت التزاماتها السابقة مع جارتها عقب احتلال وتقسيم الجزيرة.
وجاءت محاولة الانقلاب في تركيا، 2016، لتعزّز حالة الانقسام والتوتر بين البلدين خاصة لاستعداد اليونان إيواء 8 عسكريين أتراك فرّوا إليها عقب المحاولة الفاشلة ورفضها تسليمهم لأنقرة واعتقال تركيا جنديين يونانيين ضلا طريقهما بتهمة التجسس.
وساءت الأوضاع في الآونة الأخيرة عندما قرّر سلاح الجو التركي «مضايقة» مروحية عسكرية يونانية كانت تقلّ رئيس وزرائها، أليكسيس تسيبراس، يرافقه رئيس هيئة أركان الدفاع الوطني، متجهة إلى جزيرة رودس في بحر إيجة، والقريبة من الشواطئ التركية. ورفض طاقم المروحية «تعليمات» المقاتلات التركية واستدعى مقاتلات يونانية على عجل مما اضطر المقاتلات التركية للعدول عن الملاحقة.
سبق تلك الحادثة مقتل قائد طائرة ميراج يونانية بعد تحطّمها بالقرب من جزيرة سكايروس، وهي في طريق عودتها بعد اعتراضها طائرتين تركيتين من طراز إف-16 اخترقتا المجال الجوي اليوناني.
واكبت تلك العمليات تصريحات نارية من مسؤولي الطرفين: الرئيس التركي طالب بتعديل اتفاقية لوزان 1923 لضمان سيادة الجمهورية التركية تبعته تصريحات لرئيس الوزراء اليوناني قبل بضع ساعات من حادث المروحية المذكور قائلاً إن بلاده تنوي الدفاع عن مبادئها «بأي طريقة تختارها.. ولن تفرّط بأي حبة من أراضيها». وأضاف رئيس الوزراء تسيبراس مندداً بتركيا أن «جيراننا لا يتصرفون دائماً بطريقة تليق بحسن الجوار..»، مستدركاً أنه يرسل بذلك رسالة تعاون وتعايش سلمي لأنقرة.
اتخذت اليونان جملة إجراءات لتعزيز حضورها العسكري بإعلان نائب وزير دفاعها أن بلاده في صدد الحصول على فرقاطتين فرنسيتين لمهام حراسة السواحل تلاه وزير الدفاع ببضعة أيام لينفي ما صرّح به نائبه، موضحاً أن رئيس الوزراء تسيبراس تحدّث مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مرحباً بالمساعدة في بناء فرقاطات في اليونان.
العقبة الرئيسة أمام اليونان تتمثل بتوفير الأموال في ظل أزمتها المالية الخانقة، وتراكم ديونها للاتحاد الأوروبي، وبالأخص ألمانيا. واضطرت أثينا لإرجاء شراء 20 مقاتلة حديثة أميركية من طراز إف- 35 كانت تنوي التعاقد بشأنها. بينما يوفر مخزون الطاقة في بحر إيجة فرصة مثلى لليونان لزيادة دخلها وعلى نحو عاجل، مما قد يسرّع مرة أخرى في تبنيها خططاً لتحديث قواتها العسكرية.
الفصل المقبل في ثروات الطاقة سيشهد إعادة اصطفافات جديدة في الإقليم، لا سيما أن المخزون الأكبر يقبع في أعماق مياه جزيرة قبرص، مما سيقلص اعتماد أوروبا وتركيا على الغاز الروسي. التقسيم القائم في قبرص سيضيف البعد الطاقوي إلى الواقع السياسي المجزأ أيضاً، وينذر بتجدّد القتال بين تركيا واليونان، على الرغم من تصريحات قبرصية تدعو للهدوء والسكينة. وجاء على لسان المتحدث الرسمي باسم الحكومة القبرصية أن بلاده «لن تقبل التدخل التركي بشؤونها واستحداث الأزمات عبر تبنيها مفهوم حقها السيادي في استغلال ثرواتنا الطبيعية.»
تركيا تخطو بثبات نحو الإعداد لحرب مقبلة، فقد أعلنت مؤخراً عن نيتها لاستعادة مخزونها من الذهب في البنك المركزي الاحتياط الفيدرالي الأميركي وتسييله في سوق اسطنبول لتبادل الأسهم. وأقدمت تركيا على خطوة مماثلة قبل بضع سنوات باستعادتها 220 طناً من الذهب من البنوك الأجنبية، من ضمنها نحو 29 طناً من البنوك الأميركية.
مجمل مخزون تركيا من الذهب، وفق إحصائيات صندوق النقد الدولي، يبلغ 591 طناً قيمته الإجمالية أكثر من 23 مليار دولار وبهذا تحتل تركيا المرتبة الحادية عشرة بين الدول العالمية لحجم مخزونها من الذهب.
يُشار في هذا الصدد إلى تجدد اعتماد التبادلات التجارية الدولية بالذهب عوضاً عن الدولار لتخطي عقبات النظام المصرفي العالمي.
سيناريوات الصدام المقبل
نظراً لتصعيد تركيا الثابت لترجمة سيادتها السياسية فمن المرجّح أن تُقدم على جملة خطوات تؤدي لنزاع أوسع مع اليونان عبر قبرص، وربما تقدم أنقرة على اجتياح واحتلال بعض الجزر اليونانية القريبة من أراضيها.
تجربتها الوجيزة في القتال داخل سورية والعراق أسهمت في تعزيز ثقة قادتها السياسيين لاتخاذ قرار بهذا الصدد، فضلاً عن تراكم خبراتها في حربها ضد مجموعات حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي التركية.
بيد أن هذا الرهان غير مضمون النتائج نظراً للتحركات العسكرية داخل قواتها المسلحة ودخول عدد كبير من قياداتها السجن في فترات متلاحقة، على خلفية الاتهام بالاشتراك في عملية الانقلاب الفاشلة، يُضاف عدد آخر من القادة العسكريين الذين فروا وطلبوا اللجوء في اليونان. للدلالة، تشير تقديرات حلف الناتو أن نحو 25 من مجموع طياري سلاح الجو يرزحون في السجون، وهي نسبة لا يجوز الاستهانة بها.
عند رسوخ تركيا على قرار احتلال جزر يونانية فالمهمة الأصعب أمامها الحفاظ على تلك الجزر أمام تصميم يوناني لا يجوز الاستخفاف به، فضلاً عما تنبئ به خطواتها في التدخل العسكري في سورية والعراق. العامل الكردي المسلح المناهض لأنقرة أيضاً سيضاعف حضوره واشتباكه مع القوات التركية وفتح جبهة إضافية أو أكثر.
كذلك معادلة التوازن داخل حلف الناتو ستفرض على تركيا عاملاً إضافياً ينبغي أخذه بالحسبان، في ظل تردي علاقاتها مع معظم دول الحلف راهناً والتي قد تفعّل اتفاقية الحلف القاضية بنجدة دولة عضو تتعرّض للعدوان. فرنسا مثلاً أعربت عن اصطفافها مسبقاً إلى جانب اليونان ويمكننا القول إن بريطانيا والولايات المتحدة تسيران بموازاة الموقف الفرنسي، بينما أقدمت ألمانيا على فرض حظر على توريد السلاح إلى تركيا.
عند هذه النقطة الفاصلة، نستعيد بعضاً من أدبيات المحافظين الجدد وبعض الليبراليين الذين يتطلعون إلى تقسيم الأراضي التركية، ليس بالضرورة في المدى المنظور، بل عبر تهيئة الظروف لاستنزاف تركيا وحرمانها من تبادل المعلومات الاستخبارية مقابل مشاركة اليونان بها.
من البديهي أن قرار شنّ الحرب من أسهل الخيارات، سواء لتركيا أو دول معادية أخرى، بيد أن الفيصل يكمن في تقليص الخسائر إلى الحد الأدنى وتوسيع مروحة الحلفاء وحشد جمهور الداخل وهو ما يعتقد أن القيادة التركية الراهنة ليست مؤهلة بالمغامرة بها جميعاً بل تعتبر انتحاراً ذاتياً أن قرّرت المضي به.
في خانة الحلفاء من العسير إدراج اي دولة لجانب تركيا في ظل خلافاتها التاريخية مع كافة جيرانها: روسيا والعراق وسورية وحتى إيران، فضلاً عن إرثها العثماني البغيض.
فهل ستغامر تركيا بما راكمته من أعداء في كافة دول الجوار، وأبرز دول حلف الناتو، وأعين مخططات التفكيك في انتظارها؟ لا أحدَ يملك يقين الإجابة، وربما الزمن القريب كفيل بإماطة اللثام عن التموضعات والتحالفات بل والصراعات المقبلة.
التحليل الأسبوعي، وهو نشرة دورية تصدر عن وحدة «رصد النخب الفكرية» في مركز الدراسات الأميركية والعربية.