الاستحقاق الانتخابي الداهم ومستقبل العملية السياسية في لبنان
زهير فياض
أيام قليلة تفصلنا عن الاستحقاق الانتخابي في 6 أيار الذي يداهمنا في لحظة مصيرية دقيقة من تاريخ لبنان وأمتنا والمنطقة نظراً للتحديات الهائلة التي تختزنها، والتي تتمثل في جملة من المسائل التي لا بدّ من مقاربتها بعقل هادئ يشكل المرتكز لعملية المواجهة والقاعدة الأساس لوضع الخطط والآليات لمواجهتها وتجاوزها ومراكمة الإنجازات باتجاه التأسيس لمرحلة من الأمن والاستقرار والصمود والبناء والتنمية ومواجهة الأخطار الداخلية والخارجية التي تحاصرنا من كلّ حدب وصوب.
يشكل الاستحقاق الانتخابي هذا العام محطة مفصلية لاعتبارات عدة لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار، لعلّ أوّلها طبيعة القانون الهجين الذي تُخاض على أساسه الانتخابات النيابية هذا العام. وبالتالي النتائج التي سنحصل عليها كنتيجة للقانون وتقسيماته الانتخابية، أما الاعتبار الثاني فيتمثل في تأثيرات هذه النتائج على الوضع السياسي اللبناني الداخلي، وعلى تقاطعاته مع كلّ أحداث المحيط القومي الطبيعي الممتدّ من الشام إلى العراق إلى فلسطين، باعتبار أنّ المشهد واحد، وأنّ المصير واحد، وأنّ الخطر الذي يتهدّد الجزء يتهدّد الكلّ.
لبنان أمام مفترق أساسي اليوم. وهذه حالة ليست مستجدّة منذ نشوئه، فإما نموذج التنوير الممتدّ الى كامل المنطقة في الوحدة والحرية والمواطنة والوعي والنهضة، واما نموذج الانغلاق والتقوقع والانعزال.
الخيار الأول هو خيار النهضة والتحرّر والانعتاق من قواويش الانتماءات الجزئية على قاعدة طائفية ومذهبية وعشائرية وقبلية وطبقية الى رحاب الانتماء لمفهوم المواطنة الحقيقية والدولة العادلة والمقاومة والوحدة والتكامل المصيري مع المحيط القومي لتعزيز عملية التفاعل الحياتي المادي الروحي في مدى الدورة الاقتصادية الاجتماعية التي تمتدّ لتشمل الأمة كلها، بأطيافها وألوانها المختلفة ضمن وحدة الانتماء الى الأرض والإنسان.
أما الخيار الثاني، فهو خيار لبنان القاووش الزنزانة الذي يداوي الأمراض بالمسكنات، فيتحوّل المواطنون نزلاء محجر صحي يحملون كلّ عقد الانتماءات الجزئية وكلّ الخوف من الآخر والقلق الدائم وحالة اللااستقرار الروحي المادي التي تولّد حروباً تتناسل في سياقات الزمان والمكان، وتزيد من مفاقمة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
طبعاً، للقانون الانتخابي أهمية استثنائية، لأنه يعكس مضمون الأهداف السياسية التي يرنو الى تحقيقها، لكون القانون «الانتخابي» الحالي وإن اعتمد مبدأ النسبية الا أنه اعتمد تقسيمات للدوائر الانتخابية حاصرت مفهوم المواطنة في نطاق الطائفية والمذهبية بما يتوافق وآليات إنتاج الطبقة السياسية ذاتها بمفاهيمها المشوّهة، بسلوكياتها العوجاء، وبمفاهيم قيمية معكوسة أدّت وتؤدّي الى كلّ هذا التشوّه «الخلقي» الوطني والاجتماعي الذي بات يهدّد الأسس والقواعد الصحيحة لبناء المجتمعات واستمرارها.
فالقانون الانتخابي الحالي رغم اعتماده «النسبية» الا أنه مسخ هذه «النسبية» وأعاد صياغتها بما يتناقض مع طبيعتها ومع مقتضيات تحقيق التمثيل الصحيح للإرادة الوطنية وللشعب في توقه للوصول الى دولة المواطنة والعدالة والحرية والتنمية والنهوض.
فالقانون الانتخابي له هدفان: إعادة إنتاج سلطة تقود الدولة وفق رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية معينة، أما الهدف الثاني فهو ترسيخ مفهوم المواطنة على مستوى الحقوق والواجبات، وبناء الدولة على قواعد قانونية وتشريعية راسخة وثابتة تؤسّس لحالة الاستقرار الموعود، وباتجاه تأكيد الوعي الوطني والقومي لوحدة المصير القومي كله، ولأهمية العلاقة الحيوية القومية مع المحيط القومي الطبيعي الممتدّ من بغداد الى بيروت الى دمشق بما يحمي الحاضر والمستقبل.
قبل أيام قلائل من هذا الاستحقاق، نجد تراجعاً هائلاً في المفهوم السياسي الوطني الصحيح، نرى التردّي في الحالة السياسية، ونرى تقهقراً لمنظومة القيم الأساسية التي من المفترَض أن ترتكز عليها حياتنا العامة، فالانتخابات تجري في ظلّ قانون ضرب في الصميم مفهوم المواطنة، انتخابات تفتقر الى مضمون سياسي حقيقي يعطي للمواطن الخيار على قاعدة الرؤية والبرنامج والمشروع، وكلّ ذلك في ظلّ تحالفات هجينة متناقضة داخل اللائحة الواحدة مما يشوّه مجمل العملية الانتخابية باعتبارها ليست في الواقع – مسألة خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية يتمّ وضعها أمام المواطن.
بعد 6 أيار، ثمّة حاجة حقيقية جوهرية لإعادة قراءة في الواقع السياسي الاجتماعي في لبنان، لاستخلاص العبر والدروس والتأسيس عليها لصياغة برنامج ومشروع نهضوي نضالي مستقبلي يُعيد خلط الأوراق ويؤسّس لمستقبل المرحلة المقبلة.
عميد الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي