إمبرياليّة تلفزيونيّة وإعلاميّة

جورج كعدي

الهيمنة الأميركيّة والأوروبيّة في مجال تدفّق البرامج التلفزيونيّة مسألة قديمة، سابقة على عصر الإنترنت والبثّ الفضائيّ، فمسلسل «دالاس» المشهور اعتبر منذ ثمانينات القرن الفائت مرادفاً للإمبرياليّة التلفزيونيّة الأميركيّة، ودليلاً إضافيّاً على التهديد الذي تشكّله الثقافة التجاريّة، ذات الأنموذج الأميركيّ، ضدّ الهويّات القوميّة الأصيلة، حتى أنّ وزير الثقافة الفرنسيّ جاك لانغ المعروف بثقافته الواسعة وقربه الشديد من المثقّفين وصف «دالاس» بأنّه «رمز للإمبرياليّة الثقافيّة الأميركيّة»، فللمادّة التفزيونيّة الأميركيّة المستوردة تأثير حيثما عرضت.

لم يتضاءل دور التلفزيون في الساحة الكوكبيّة للهيمنة التلفزيونيّة في تسعينات القرن العشرين أيضاً، بل تطوّر مدعوماً بمنظومات النقل والإيصال الحديثة، كالأقمار الاصطناعيّة الخاصة بالاتصالات وشبكات «الكيبل». أضحى تدفّق الصورة أشدّ كثافة من أيّ وقت مضى، وفي اتجاه واحد، من الغرب الولايات المتحدة بخاصة إلى باقي العالم.

يميل الباحثون الغربيّون المناهضون للإمبرياليّة الثقافيّة إلى اعتبار الولايات المتحدة الأميركيّة مركزاً وحيداً لنفوذ ثقافيّ رأسماليّ ذي مركزية إعلاميّة دائبة على الانتشار إلى باقي العالم، على شكل برامج تلفزيونيّة، وتتمتّع هذه البرامج بقدرة إيديولوجيّة مؤثّرة في الجمهور المتعدّد لغة وثقافة ومستوى اجتماعيّاً. فثمّة «رسالة» أميركيّة في المضمون والشكل يستوعبها المشاهدون، بطريقة واعية أو لاواعية غالباً، ويتلقّون تلك «الرسالة» بالطريقة نفسها رغم انتمائهم إلى ثقافات متباينة. يمجّد «دالاس» الثروة والثراء مثلاً، ويطرح المال قيمة عليا، مظهراً أنّ المال يمكّن المرء من الحصول على أيّ شيء، وما من أحد إلاّ ويريد أن يكون ثريّاً، ومهما تكن ثروته فإنّه يريد المزيد، فمن لا يريد أن يكون غنيّاً؟ لا أحد في العالم إلاّ يريد ذلك. ينطوي «دالاس» إذن على مفهوم رأسماليّ كوكبيّ مهيمن.

أطلق العالم منذ مطلع الثمانينات صرخة احتجاج منادياً بـ«نظام إعلاميّ جديد» وبادرت البلدان الأقلّ تطوّراً إلى رفع شكواها الاستئنافيّة ضدّ هيمنة وسائل الإعلام الغربيّة أمام اليونيسكو ومنابر الأمم المتحدة الأخرى، مطالبة بفرض القيود على الدعاية الثقافيّة الغربيّة، فلطالما كان العالم خاضعاً، خبراً وإعلاماً وتحليلاً، لوكالات الأنباء العالميّة الرئيسيّة مثل «الأسوشيتدبريس» و«اليونايتد بريس» انترناشيونال الأميركيتين، و«وكالة الأنباء الفرنسية» أ.ف.ب و«رويترز» البريطانية، وهي تشكّل مجتمعة الجهة المسؤولة عن الأكثرية الساحقة من القصص والتقارير والحكايات التي تدخل غرف أخبار صحف ومجلات وتلفزيونات رئيسيّة في العالم. ولم تكتسب عولمة وسائل الإعلام الإلكترونيّة أبعاداً جدّية إلاّ في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، زمن تمخّضت عمليات «الابتلاع» والدمج والحيازة التي أقدمت عليها شركات إعلاميّة طموحة مثل شركة روبرت موردوخ الإعلاميّة عن مجمّعات إعلامية عملاقة ذات أبعاد عالميّة حقاً. ونجت شبكة تيد تورنر الإخبارية، الناشئة بـ«الكيبل» آنذاك «سي إن إن» من صراع البدايات، لتصبح مع الوقت أداة نقل أخبار دائمة الحضور على مدار الساعة وتتابعها على نحو شبه «إيمانيّ تعبّديّ» نخب الأعمال والسياسة في سائر أنحاء الأرض، علماً أن حوادث حاسمة أدّت إلى تفجّر شهرة «سي إن إن» ونفوذها، مثل حدث ساحة تيانامن في بكين عام 1989 والحرب الأميركيّة ضدّ العراق عام 1990. أمست «سي إن إن» المصدر الإخباريّ كامل الحضور حقّاً والشبكة العالميّة المتكاملة الأولى.

ألا سبيل إلى مقاومة هذه الإمبرياليّة التلفزيونيّة والإعلاميّة الأميركيّة؟

بلى، ثمّة عملية مطردة لإشاعة اللامركزيّة في الصناعات الإعلاميّة العالميّة تتمّ على قدم وساق، إذ تحوّلت بلدان رئيسيّة في مناطق متفرّقة من العالم. إلى مراكز إنتاج إقليميّة: المكسيك للتفلزيون الناطق بالإسبانيّة، والهند للسينما، وهونغ كونغ للتلفزيون والأفلام في شرق آسيا، إلخ… تمكّن بعض الأطراف من إقامة إمبراطوريّته الإعلاميّة الدوليّة، مثلما فعلت المكسيك والبرازيل، كذلك بعض المستثمرين السعوديين، وبعض المستثمرين في الهند، فضلاً عن انتشار الـ«تيلينوفيلا» Telenovela أو المسلسلات الغزيرة الحلقات بالمئات ! كالمكسيكيّة والبرازيليّة والتركيّة وسواها.

نعيش في عالم متحرّك ومتغيّر محكوم بالتحوّل للإمبرياليّة الأميركيّة والأوروبيّة الغربيّة التلفزيونيّة والإعلاميّة، لتنبعث مجدّداً الثقافات المحليّة والإقليميّة الفريدة والمتعدّدة. وملامح هذا التحوّل تلوح بداياتها في الأفق غير البعيد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى