عمر شبلي في «زمن الطوفان»
د. ميراي أبو حمدان
«آذان الحكّام لها حيطان»، ديوان للشاعر عمر شبلي، صدر عن «دار العودة» ـ بيروت بطبعته الأولى مؤخّراً، وقد تألف من ثلاث قصائد: «زيت قناديل القدس دماء»، «بين يدي الموصل»، و«قصائد لمصر وتونس».
حين نقرأ ديوانه الشعري «آذان الحكّام لها حيطان»، يساورنا الشكّ من تراكيب الكلمات ومعانيها، ولكننا حين نتمعّن في القراءة، تصبح كلمات الديوان صفحة مفتوحة على كلّ احتمالات البؤس والشقاء والظلم اللامتناهي الذي يدور في ذهن الشاعر.
والشاعر عمر شبلي هو حامل «لواء العروبة»، وشافي القلوب المقهورة بكلماته الصادقة، ومشاعره النبيلة، وعرّاب التحدّي والصمود.
وهو حين ينادي القدس، يراها عذراء عارية الملبس، كاسية بعباءة القوة والكرامة والعنفوان، ويرى في عهد التميمي كساء طاهراً للقدس الأبية، كما في قوله:
يا بنت يبوس
يا قدس أراك عارية
عذراء أمام المهد بغير لبوس
عارية
لكن كاسية بعباءة عهد التميمي.
فينطلق الشاعر من دماء الشهداء، فيعطيهم حقّ تشريع القوانين للأحياء الذين باعوا ضمائرهم وأوطانهم، وباعوا «القضية العربية» أمام الرهان الأميركي:
إن الشهداء رؤوس
إن الشهداء هم الأحياء
هم الناموس
تخلّوا عن قبلتهم
وتوجّه كلّ منهم
صوب ترامب.
ويبلغ الألم ذروته حين يتحاور الماضي المتمثّل بالأب مع الحاضر المتمثّل بالابن ، فيشكو الزمن القاهر مع ذوي القربى، إذ يحذّره الماضي من التجوّل في الغاب مع شرور الدهر، وأن عليه أن يتحلّى بالإيمان و«العروبة»، والنضال من أجل الحقّ والأرض، في قوله:
قوّتكم تكمن في الإيمان
بأن الأرض لكم
والله الساكن في القدسين لكم
وجراحي عربية.
وحين يبلغ اليأس أشدّه يعلن موت العرب في نظر الإنسانية ودحرهم في غياهب الزمن:
أعلن في يومك يا سيّدتي
موت العرب
نتقاتل فيك على الإنسان
ونقتله فينا.
والشاعر لم ييأس من شظف الواقع المرّ، فتحلّى ـ رغم جراحه ـ بالصبر والأناة، ووقف شامخاً يحضّر ذاته لبلوغ الهدف السامي والحلم الشافي وهو تحرير الأرض المقدّسة من براثن العدوّ، فيقف صابراً بكلماته وأشعاره حين قال:
يا قدس
جراحك في أعماق القلب تضيء
وخيانتنا يا قدس تضيء
سنقاتل «إسرائيل»
بالمؤتمرات
بالكلمات
بالأشعار!
نعم، هو عمر شبلي السابح في أغوار الصامدين، المنشد في دهاليز المذعورين، المتربّع على السادة الخاضعين، لأنّ في داخله خلجات تنبض بالغضب العارم أمام عدوّ جائر يقارع المستضعفين بسيف من خشب:
سيفاً معوّجاً يشبه قوس النصر
في سوح عواصمنا.
وما مناداته للقدس ولأطفالها:
يا وجع القلب على غزّة
وعلى القدس المصلوبة
وفي عيد الميلاد
وعلى أطفالهم يرتكبون شهادتهم
في الأعياد.
سوى صرخة ألم من قلب اكتنز بالإنسانية الصادقة والحالمة بالعدل والسكينة في مجتمع يعاني من الظلم والهوان.
وهنا، يدعو الشاعر الشعب الفلسطيني وهم أبناء المحنة، وأبناء الأرض المسبيّة والمنفيّة والمصلوبة منذ سنين، لأن يتشبّثوا بالموقف الواضح والصريح، لأنّ:
ذو الموقف ليس يموت
في عمره أكثر من مرّة
وجبان النفس يموت
في الساعة أكثر من مرّة.
وعمر شبلي حين يغادر القدس متّجهاً نحو الموصل في قصيدته «بين يدي الموصل»، لم يغيّر شيئاً من قناعاته ومفاهيمه، بل ازداد «عروبة» وأصالة:
أبداً لا ينسى أن له شجراً عربياً
لا ينفد
ويغور
وينفد حين تراوده
طير لا يعرفها
هو حين يصير عراقياً يتجدّد
يتكلّم باللغة العربية.
وانطفأت أيضاً شعلة الحلم لدى الحكّام، لا يسكن في الوطن الجريح سوى الموتى:
تتكاثر فيه أكوام الحطب
تتكاثر فيه أكوام العرب
وطن لا يختلف الإنسان به
بحلوق السفّاحين عن التفاح.
هنا شجب الحاكم الحق
وأزهق الباطل
وصمّ آذانه
وظلم فقراء الوطن
لأن آذان الحكّام لها حيطان
لا تسمع أصوات الفقراء
لا تسمع إلا صوت المخبر والسّجّان.
لذا يقف المواطن يواجه «الموت»، وحين يتلاشى الأمل في وطن تعبّدت طرقاته بالموت:
هل تشرق شمس من الموت؟
والحارس دون الباب
هل يظهر في الموصل طفل؟
من دون جراح
لم يبق لنا من هذا التاريخ الأسود
إلا ألموت.
ولكنّ الشاعر عمر شبلي ظلّ متمسّكاً بـ«أمل العروبة»، وروعة الفجر الآتي، حين نادى الموصل من أعماق نفس جريحة، في قوله:
يا موصل سوف أظلّ على أمل أمشي
جسدي عكّازي في هذا الدرب.
كما أن الشاعر عمر شبلي يمتلئ قهراً حين يسمع الأخبار ولا يبصر سوى مصر من جمعة الغضب لجمعة الرحيل، فيخاطب شعبها فيقول:
تدفّقي يا مصر فالجفاف
يأكلنا، وأرضنا موات
والنيل ربّ الخصب والحياة
منتظر عروسه ولحظة الزمان.
ها هو الشاعر ينتظر مصر مخضّبة الجراح، هائمة، وجائعة تحارب قاتليها، في قوله:
انتظرناك يا مصر عند الجراح
انتظرناك حتى الصباح
وها أنت يا مصر تأتين حافية
وجائعة، إنما في يديك السلاح.
ولم ينس الشاعر تونس الخضراء ممثلة ببوعزيزي المؤمن بوطنه الذي لم تقدّر الشهادة الجامعية التي حاز عليها ولم يعمل بها وتركها أمانة بين أيدي حكامه، وأشعل في جسده النار، وفي أعماقه قهراً لا ينضب، كما في قوله:
قد كان إنساناً فقيراً مؤمناً ببلاده
وكبائعي العربات كان يسير طول نهاره
وشباب تونس أعلنوا بدء النهار
وتوضّأوا بالنار من أجل الصلاة وراءه.
هذا هو عمر شبلي، صاحب الموقف النبيل، والهمّة الصالحة، والثقافة الواعدة، قد واجه الاستخفاف العربي بقضيته بحزن وأسف شديدين، ورسم كلمات ديوانه «آذان الحكّام لها حيطان» بخيوط من نور قد يصل شعاعها إلى أقاصي الأرض حيث ينبت القهر والبؤس والظلم، وتتلاشى كرامات الشعوب المقهورة، ويظمأ الأبرياء إلى عدالة الإنسان لأخيه الإنسان.