يعلّم طفله كيف يكون بطلاً في مقبل الأيام شلغين: عندما أسمع صوته أرمي بدقة
أشبه بزقزقة العصافير على حافة جبهة مشتعلة تناهى صوت طفولي من جهاز خلوي، وهو يقول «بحبك» على خط تماس مع إرهابيي «داعش» في منطقة القدم جنوب دمشق، حيث يخوض الجيش العربي السوري معركته الأخيرة مع الإرهابيين في محيط العاصمة.
من خلف متراس ضمن أحد الأبنية في أطراف حي الماذنية الذي أحكم الجيش السوري سيطرته الكاملة عليه أول أمس، يرصد جندي باهتمام شديد أي تحرّك للإرهابيين يمينه على الزناد وباليد اليسرى يمسك هاتفه الجوال متلقياً اتصالاً..
تتعثّر كلماته بأصوات طلقات رشاشات زملائه الى جواره «يا عمري.. يا قلبي.. اشتباكات.. وين بدّي جيبك». يعود الصوت الطفولي مجدداً.. يسأل «وينك بالجيش»؟ يردّ الجندي قبل أن يغلق هاتفه «أي.. يا الله.. باي يا عمري».
ببساطة يجيب الجندي عمّا إذا كان اتصاله مع طفله في لحظات القتال يشتت ذهنه عن العدو «فكري عند عدوي أمامي. وقلبي على ابني».. يبتسم بحنان «صوته يُسعدني وأرمي بدقة».
يحتفظ الجنود بجوالاتهم على الجبهة ويتحدّثون إلى ذويهم وأحبائهم ويدوّنون لهم رسائل الاطمئنان ويرسلون لهم صورهم.
اعتاد الجندي رواد شلغين القتال على جبهات عدة طيلة ثماني سنوات. لم ينقطع عن الحديث إلى طفله حيدر ثلاث سنوات بشكل يومي من موقعه في ساحات المعارك، ومن دون تحفّظ يسمّي له الأشياء بمسمّياتها الحقيقية ويفهمه بالحدود الدنيا ماذا تعني الحرب؟ متقصداً ذلك «أحدّثه عن الظلم الذي وقع على الوطن كيف دمّروا بيوتنا وخطفوا رفاقنا العساكر وذبحوهم». يتنهد من دون أن يزيح عينه عن مرمى التسديد. ثم يتابع.. «ابني يجب أن يعرف أن أباه قاتل الإرهابيين وكان وفياً لدماء الأبطال الشهداء حتى يعيش وأطفال البلد بأمان».
يقول رواد مستعيداً بعض اللحظات الجميلة التي جمعته بطفله في إجازات متباعدة وخاطفة «عندما أصل البيت يحاول أخذ بارودتي. أفهمه أنه صغير على ذلك، لكن أسمح له بنزع الجعبة العسكرية وتعليقها«.. وبشيء من الاستغراب يضيف «عندما أغادر المنزل لا يبكي «بيقلي بابا دير بالك عا حالك.. أنا بحبك».
في بعض مناطق القتال التي تكون فيها التغطية ضعيفة أو معدومة يُخبر الأب ابنه مسبقاً أنه لن يستطيع الاتصال والمعركة طويلة كما حدث في معارك إدلب وحماة «شهر ونصف الشهر لم أسمع صوته». لا يخفي الجندي الذي يتحدّث بهدوء وقد تمرّس على مواجهة أشرس الإرهابيين أن صغيره حيدر في انقطاعات الوالد الطويلة عن البيت او عدم الاتصال يصبح مشاكساً ويسأل والدته باستمرار «ليش بابا ما عم يحكي».
يتقدّم ضابط ويشير إلى رواد أن يستريح قليلاً، بينما جندي آخر يحلّ محله في رصد إرهابيي «داعش».. على بعد خطوات من المتاريس إلى جوار عمود اسمنتي يفترش الجندي بلباسه العسكري الأرض ويجلس.
إذا حصلت على إجازة بعد التقدم على الجبهة «سأشتري لحيدر بسكويتاً وبطاطا شيبس دربي بيحبها كتير.. الحمد الله عايشين». يستطرد الأب محدثاً عن صغيره.. «حيدر غالٍ على قلبي. انتظرته ووالدته ثلاث سنوات بعد زواجنا. بعده جاءت مايا عمرها سنة ونصف السنة».. يضيف: «خيّطلوا بدلة عسكرية لما يلبسها يمشي ويضحك. وكأنوا ما حدا قدّو». أقاطعه بسؤال إن كان يتمنّى يكون ابنه مستقبلاً ضابطاً في الجيش؟ يجيب «أكيد .. إذا الله أعطاني عمراً .. برفع راسي فيه وهو يرفع رأسه بأبيه».
قصص الأب لطفله عن الحرب بدأت من أول «ما وعي عالدني»، كما يقول عندما «أرتدي بزتي العسكرية وأهمّ بالخروج من المنزل يسألني «وين رايح؟» فأجيبه: «لأقاتل الإرهابيين من أجل نحمي بلدنا».
لا يخشى الجندي رواد الشهادة وترك حيدر ومايا وحيدين، فهو وإن كان «يحبّهما كثيراً»، فإذا كتبت له الشهادة فسيكونان عندما يكبران فخورين بأبيهما الشهيد وبصوت مليء بالكبرياء والعنفوان «أقول لابني إذا استُشهدت لا تزعل.. فيبكي.. اشتري له شيئاً يحبّه ..فيسكت». يصمت قليلاً «الإرهاب فرض علينا أن نحدّث أطفالنا عن الحرب».
سانا