عبدالله العلايلي… الموقف والمنهج
د. ساسين عساف
في مراحل يغشاها الكثيف من الضباب وتنهش مفاصلها أنياب القلق على الهويّة والمصير يستحضر الناس مرجعياتهم رجوة هدي واستنارة وركنة الى الذات في الثبات وفي اليقين…
أن يستذكر الناس عظماءهم في الزّمن الصّعب يعني استجلاء ما يجسّدون من حقائق تسعف على المواجهة والتجاوز…
أصفى ما ارتأيت استجلاءه في الشيخ عبدالّله العلايلي هو الموقف والمنهج…
يكفي الناس في مرحلة الضباب والقلق والتحدّي الحضاري أن يتبصّروا موقف هذا الرجل المفكّر واللغوي الفقيه والسياسي العالم وأن يتعلّموا من منهج تفكيره وأداء طرحه…
بوّابة العبور اليه فهم موقفه من اللغة ومنهج تفكيره من قضاياها.. فاللغة هي الضوء المؤشّر الى مسالك الشعوب في مجالات الترقّي واللياقة الفكرية:
« أردت أن أنشر في الناس شيئاً فكان موضوع اللغة أوّل ما نشرت، ورغبت في أن أذيع على أسماع الناس حديثاً فكان موضوع اللغة أوّل ما أذعت، وسيظلّ موضوعها أوّل كلّ ما أعالج، لأنّ اللغة أحد وجهي الفكر…».
أمّا اللغة، ماهية، فمن مقدّمة «المرجع» نفهم أنّها «مؤسّسة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بنشاط الانسان، تتحرّك بقانون الغاية لا السببية…».
فاللغة، اذاً، مشروطة بالحركة في واقع الانسان الذهني والعملي، تتحرّك بتحرّكه وبقانون الغاية… فقانون السببية يعزلها ويجعلها بناء فوقياً وأداة قهر وارغام… انّها خاضعة، تالياً، لقانون الحاجة والصيرورة… ليست فوق التاريخ بل هي محكومة بشروط التبدّل واعتبارات التحوّل مع الاحتفاظ «بقانون عملها الثابت»…
اللغة، اذاً، هي من حركة الناطقين بها، من حركة الناس في مناشطهم اليومية، العقلية والعملية، «… فما استحياه الناس يبقى وما أمسكوا عنه آل الى المنحدر». وعملي، يضيف، «عمل الطبيعة في الأحياء «..فاللغة، على قاعدة هذا العمل ليست خارج القانون البيولوجي أو البيوكيميائي… والكلمة، على حدّ تعبيره، هي ورقة الفكر النقدية مثلها مثل ورقة النقد قد تبور وتؤول الى السقوط كلّياً وقد تسحب من قيد التداول مفسحة الطريق لأخرى سواهاً.
اللغة مرتبطة بالحياة ومتولّدة منها… ليست بناء فوقياً جامداً… وهي محكومة بقانون «الاهمال والاستعمال» وهو قانون بيولوجي يثبت اماتة الأعضاء غير المستعملة لدى الكائنات الحيّة.. هذا والعلايلي يعلن في مقدّمته التي أخرجها للنان سنة 1938 أنّه «نصير المدرسة البيولوجية في البحث الاجتماعي والانساني لأنّ اللغة جانب من المؤسّسات الاجتماعية…».
قانون الاهمال والاستعمال هو الوجه العملي لقانون التطوّر… اخضاع اللغة لهذا القانون يعني أن نسقط عنها هالة المقدّس من جهة وعسف المغالط التي صيّرها التقليد عقائد ثابتة من جهة ثانية…
وخير كلام نستدلّ به ونستوثق الى موقف العلايلي من اللغة ما جاء في مقدّمة اسماعيل مظهر لمقدّمة العلايلي:
«اللغة في تصوّرنا الحديث جسم حيّ يولد ثمّ ينمو ثمّ يتوالد. واللغة حيّ يموت كما تموت جميع الأحياء اذا امتنع عليه النّماء وتعذّر التوالد… فاذا لم يكن في اللغة القدرة على التغذّي بعناصر جديدة وتمثيل تلك العناصر تمثيلاً يحوّلها جزءاً من أصل بنيتها فانّ اللغة تموت كما يموت الحيّ اذا فقد القدرة على هذه الأشياء…».
قانون التطوّر هو قانون الحياة… والعمل التطوّري في المسألة اللغوية يحتاج في رأي العلايلي الى وقت ليختمر ويعطي عطاءه النهائي… ولكنّه في أيّ حال ومهما تباطأت حركته فهو بالغ لا محالة مبلغه… يقول في مقدّمة «المعجم»:
«لست أؤمن بالأسوار، هذه قاعدة كلّ تحرّك عندي لأنّ الايمان بها ايمان بالتحديد والجمود… فسبيل أبناء الحركة أنّهم يتطوّرون وعذرهم أنّهم يحسّون بتبعة الحياة».
أهمّية هذا الموقف الذي أبنّاه لمحاً هي أنّه يستنبئ الآتي بموضوعية الراهن ومعقولية الماضي وواقعية النظرة الى سنّة الطبيعة وشرعة الحياة وحتمية الاتّجاه العام في التاريخ.
أمّا الهدف من جهده واجتهاده فهو «تقديم العربية الى الناس تقديماً سائغاً ميسوراً، والاّ، « ضعت العربية في الموضع القلق..» لغة العرب، في رأيه، متجدّدة متطوّرة تجاري مقتضيات العصر وهي لم تشخ ولم تنزف طاقتها ومائيتها بل هي تمتلك قدرة على النموّ الطبيعي الحيوي الحضاري، مرتبطة بقدرة العقل العربي على امتلاك الطوابع والمفاهيم الحديثة وعلى الاستجابة العفوية لشرط الحياة.
وخير العربية يرجى في باحث «يبتدئ البحث اللغوي من جديد يأخذ اعتبارات المدرسة القديمة على أنّها اعتبارات فقط، لا على أنّها اللغة نفسها أو قانون عملها الثابت… ويسلّم اللغة الى الحياة اسلاماً عفوياً… أمّا هؤلاء الذين يرزحون تحت اعتبارات المدرسة القديمة ما دروا «أنّهم وهم يخدمون اللغة على ما يظنّون ينحرونها نحراً جهيزاً… « فالتقليد مع الخطأ لا يعني المحافظة على العربية، والتصحيح الذي يحقّق المعرفة لا يعني خروجاً عليها…
داء العربية من مقلّد يستسيغ الخضوع للسّلطة المستعلية في الفكر، سلطة العنت والاكراه والارغام… وصحّة العربية من مصحّح يقف في جنب اللغة كلّما كان عليه الاختيار بين اللغة وروحها من جهة وهذه المدرسة اللغوية أو تلك من جهة ثانية…
فالعلايلي ليس مدرسياً متزمّتاً بل صاحب منهج فكري اجتهادي متحرّك ينابذ التسلّط ويقابس العقول ويخرج النظريات اللغوية الحديثة من رحم النظريات المدرسية القديمة… وهو، بالمقابل، ليس عدمياً فوضوياً ينبذ القديم لقدمه فيحسبه من الممات أو المهمل والمنسيّ في اللغة أو المهجور، أو يتعلّق بالجديد لجدّته فيحسبه من ضرورات الحياة:
«الاماتة حين نضعها في حدود الظروف الحافة بالمستعمل وننقلها من حيّز الكلمة بالذات الى حيّز العلل الفاعلة يتّضح لنا كيف أنّ مماتاً لا يظلّ في مدرجة الموت وأنّ حيّاً لا يظلّ في زهزهة الحياة».
منهجه في مبحث التأصيل اللغوي ينطلق من نقطة الدخول الى حرم الكلمة، الى كهف العشيرة الأولى»، وعلى طريقة الحيائيين يتتبّعها بما اجتمه له من نتائج العلوم التاريخية والاجتماعية والنفسية ويدرسها تحت قوانين الركس والترجّع والانزلاق فيجد أنّ ما ظنّه متباينات ومختلفات من المعاني هو حركي متواصل ومؤتلف…» فالحوشيّ من المفردات المضمحلّة، بفعل الطريقة الحيائية، «يكون نافذته الى الرؤية البصيرة».
عبدالله العلايلي آمن بالمجازفة العلمية وعدّها أمّ الحقائق وناموس النواميس… وهي مجازفة يدفعها التساؤل بوصفه « مواصلة تجربة عقلية ظامئة لا تدع شيئاً على أنّه انتهى بل تبتدئ وتبتدئ في دفق صيرورة منطلقة لنهايات، من الشرّ العقلي أن نظنّ أنّ لها نهاية…».
بهذا العقل المفتوح على الحقائق اللاّمنتهية يسقط منهج التقرير والقطع ويعلي منهج التساؤل المدفوع بالمزيد من التساؤل…
منهج التفكير عنده يتّسم بثلاث هي دليل انفتاح في حركته الذهنية:
-«لا يحول بيني وبين رأي أنّه قليل الأنصار لأنّ الحقّ لم يعد ينال بالتصويت الغبي…»
– «من ينقد عليك كمن يؤلّف معك…»
– «الصراع الفكري يفقد روعته وجلاله في عصبيّة الرأي…»
هذا المنهج في التفكير الحرّ لا يجرؤ عليه سوى الرجل الحرّ… حركة العقل عنده خرقت كلّ الأسوار وتواصلت مع الآخر من موقع الاعتراف به وعدم الضيق برأيه… فهو متحرّر من الانفعال والعصبية… انّه وحرّية التفكير الفان يتوادعان…
منهجه، اذاً، هو منهج العقل الحرّ المتمرّد على التكوّر والانغلاق في «حقائق» أو أفكار شخصية يظنّها أهل العصبيّة والجهالة كلّ الحقائق وهي منها ليست سوى الأشباه أو نفر من شظاياها… فالفكرة الشخصية تعبّر عن ملحظ صاحبها وأسلوبه في الادراك بأكثر ممّا تعبّر عن ملحظ الحقيقة نفسها…
منهجه ن باختصار، هو منهج ثوري أحدث انقلاباً في العديد من المفاهيم والثوابت الفكرية والعقائدية التي فرضتها حكميّات المناهج السائدة…
منهجه الثوري أنتج أفكاراً وأطروحات تعدّ من أهمّ ما عرفته المرحلة في المسائل اللعوية والفكرية والفقهية والسياسية، منها:
التأصيل في المبحث اللغوي هو تأصيل في المبحث القومي، لأنّ اللغة، في رأيه، هي نقطة ارتكاز القومية…
الاسلام له جانبان، جانب ديني غيبي، وجانب ايديولوجي. الأوّل ديني ذاتي والثاني «يمكن أن نصيغه صياغة جديدة وندخله في الصراع العالمي الايديولوجي على أنّه ايديولوجيا يمكن تطبيقها عالمياً دون أن تكون لها علاقة بالدين…»
الاسلام في جوهره حلّ ايديولوجي لا يتعارض مع العلمانية.
الدين في منطق رجاله غير الدين في منطق الله وكتبه.
الدين هو القانون الأدبي الذي يترك للانسان أقصى حرّية معقولة في اختيار الطريق التي يسلكها في الحياة: «الأحكام تتغيّربتغيّر الزمان والمكان.. والمقتضى في كلّ ذلك هو التيسير…».
من مثل هذه الأفكار والأطروحات، وله من نوعها الكمّ الكثير، نفهم أنّ عقله الحرّ ساقه في منهج التأويل المنقلب على الانفعال بالتاريخ.. والتحرّر من الانفعال بالتاريخ الذي يصيّر المغالط عقائد هو « زة العبقري وظاهرة النابغ…».
عبدالله العلايلي، الموقف والمنهج، دعوة لنا دائمة للتفكّر بقضايا اللغة والوطن والدين والأمّة بجرأة الواثق من هويته وعقلانية العارف بشؤون دنياه…
عبدالله العلايلي دعوة لنا للمزيد من الترسّخ في الهويّة العربية بدءاً بقاعدة ثابتة تقول: لكلّ شعب لغة وليس لكلّ لغة شعب… والاّ فشرعيّ لنا السؤال: أين هي شعوب اللغات البائدة ؟… فعلّة العربية ليست منها وفيها بل هي منّا وفينا… نحن الذين نمتلكها والعكس لا يستقيم.. ومالك الشيء هو المسؤول عن سقمه… واللغة العربية، تالياً، ليست هي المسؤولة عن تخلّفنا…
عبدالله العلايلي دعوة لنا لاتباع مناهج فكرية تقودنا الى الجهر بالحقيقة الجديدة بعد استبصارها بعقلانية صارمة تتأبّى الخضوع لما كرّسته العقائد والتقاليد والطقوس بدائه ومسلّمات في «الهيكل العتيق»…
بمثل هذين الموقف والمنهج، بمثل هذا الرجل من أبناء أمّتنا نواجه المرحلة الراهنة والآتية… نكشح الضباب عن البصائر ونبدّد القلق من النفوس، نستنير ونركن الى عقلنا ولغتنا والهويّة…
ألقيت هذه المحاضرة في بيروت بدعوة من «منتدى الثلاثاء الثقافي» بتاريخ 7/1/1997.
نائب رئيس «المنتدى القومي العربي».