الحبّ والرحمة مفتاحا الخلاص
الأم والأمومة، التضحية والعطاء، الخوف والانسحاب، الوطن بمفهومه الشامل وفسيفسائه المتعددة، الحب والبذل اللامتناهي، مواضيع حاضرة بقوة مشكلة المحور الأساسي والإطار العام لأحدث إنتاجات المؤسسة العامة للسينما، فيلم «الأم»، للمخرج باسل الخطيب، الذي يعرض الأزمة السورية بطريقة غير مباشرة عبر تسليط الضوء على معاناة أسرة سورية تتقاطع مصائرها مع مصير الوطن ومعاناته. يختلفون في الآراء والمواقف، ويجتمعون من خلال الحزن والألم، يتشاركون المشاعر ويتوحدون في الإحساس، وهي الفكرة الأساسية التي ركزت عليها كاميرا الخطيب.
رحيل صامت
يُطلق هذا الفيلم بعد ثلاث سنوات من عمر الأزمة، ليكرم «الأم الوطن» التي يخرج الجميع في عزائها، هي «أم عادل» التي عاشت في إحدى قرى الريف السوري والتي أمضت حياتها في كفاح مستمر لأجل أبنائها. ترحل بهدوء وسكينة في دير للراهبات، إذ تفارق الحياة وسط غصة في قلوب جميع من عرف تلك المرأة المناضلة التي ربت أولادها ليخرجوا إلى الحياة، كلّ على طريقته ويسير في دربه الخاص. «أم عادل» التي أحبها الجميع عدا إحدى جاراتها التي تسكن على مقربة من منزلها، والتي كانت صديقة حميمة ذات يوم لتتحول ظاهرياً إلى أكثر الناس عداءً لها، لكن خلف ذلك الكره الخارجي الذي تبديه الجارة لـ»أم عادل» في مواقف متعددة، كان يحتجب حب أبدي خالد في ثنايا القلبين، فبالعودة إلى الوراء نكتشف أن الجارة كانت تلوم «أم عادل» على فقدان زوجها الذي ذهب يوماً مع «أبي عادل» للعمل في الخارج، وكان الموت مصير زوجها الذي لم يستطع «أبو عادل» إنقاذه، ومع تبدل المواقف بين الجارتين كان حبل الود ما زال موجوداً ضمنياً، فـ»أم عادل» كانت أول من ذهب ليتلو الصلوات لراحة روح الجارة عند وفاتها، في رمز إلى تلاحم الحب بين السوريين، حتى في اختلاف المواقف.
أرواح عارية تجتمع مجدداً
يرصد الفيلم وفاة «أم عادل» وحالة كل ابن من أبنائها لدى تلقيه الخبر، كما يبيّن العمل تباين رد الفعل بين كل منهم، فبين خائف من صعوبات الطريق مثل «عادل»، وأخرى مندفعة بعاطفة بالغة لحضور جنازة الوالدة، وبين ومجازفة لدخول البلاد بعد اختيارها خطاً آخر لا يلتقي مع وجهة نظر معينة مثل «ياسمين» التي قرّرت مغادرة سورية في الأزمة لتكون رمزاً لمئات السوريين الذين تعرّضوا للعديد من الضغوط مثل الرعب والخوف والإهانة، واختاروا البدء بحياة جديدة خارج سورية. ورغم من أنها خرجت من الوطن، إلا أنه بقي داخلها وفي قلبها، لذا فضلت العودة وتحمّل جميع الأخطار والألم، على الغربة. وآخر غارق في ملذاته وحياته ليترك كل شيء لوداع الأم الراحلة، ركزت عين المخرج بشفافية وتلقائية على الحدث السوري العام الذي وحد الأبناء جميعهم في لحظة من شتات الأرواح. كما يكشف الفيلم ظهور علاقات نافرة وغريبة وأحياناً غير إنسانية ظهرت لدى العديد من السوريين بعد الأزمة مثل حال «عادل» الذي أبدى تخوفاً من الذهاب لحضور الجنازة. في النهاية يجتمع الأبناء ويسيرون بجلل في موكب الموت الحزين، لنشهد بعد اكتمال مراسم الدفن تغيير مسير الموكب، إذ يصادف المكان مرور موكب لشهيد من أبناء البلدة، هو أحد أبناء هذا الوطن الذي بذل روحه لأجله، فكان موكب مودعي «أم عادل» في انتظاره على غفلة من الزمن. ساروا جميعاً خلف الشهيد، وحزنوا لفراق ذلك الذي كان حياً يوماً واستشهد لأجلهم، لأجل الوطن، لأجل الأم الكبرى، لأجل تلك المساحة التي تحتضننا وما زالت، لأجل كل ذرة تراب نمشي فوقها، فاختار أن يكون التراب عباءته. انضوى تحتها وأسدل المشهد الأخير من حياته مغمض العينين، كرمى لعيون الآخرين.
خصوصيات الفيلم
يكتسب الفيلم أهمية خاصة من خلال مجموع النجوم الذين ضمهم حاملاً خصوصية لكل منهم، إذ يعتبر هذا الفيلم ثاني تعاون مشترك بين الأخوين باسل وتليد الخطيب اللذين كتبا سيناريو الفيلم، بعد فيلم «مريم» 2012 الذي أحدث ضجة جماهيرية كبيرة محلياً وعربياً ونال جائزتين سينمائيتين في «مهرجان الداخلة السينمائي» في المغرب و»مهرجان وهران للفيلم العربي» في الجزائر، كما حصل حديثاً على ثلاث جوائز، أهمها جائزة «الخنجر البرونزي».
عودة نورا رحال
يحتفي الفيلم بعودة الفنانة نورا رحال في دور «نورا» بعد غياب 12 عاماً عن ميدان التمثيل لمصلحة الغناء، ويعتبر هذا الفيلم بعد تجربتها الأولى من خلال فيلم «الترحال» عام 1997 للمخرج ريمون بطرس. وعن دورها في الفيلم تقول رحال: «هي شخصية لها قناعات خاصة، وهي معتدلة، وفي عائلتها شخص يحب الجميع، وتملك شعوراً بالمسؤولية حيال الأمور كلها. هذا ما جعلني أحب هذه الشخصية وهي مكتوبة بشكل لطيف ومحبوك. كوني أماً استطعت تفهم الكارثة التي تعني «أم عادل» وطبيعة علاقتها ووضعها مع أبنائها، وخاصة «عادل»، الذي تصرف بشكل أناني عندما رفض بسبب الخوف أن يحضر جنازة أمه. تعاطفت كثيراً مع «أم عادل» لأنها شخصية مأزومة، كانت خسائرها كبيرة في بيتها وأولادها وحياتها كلها. أعتقد أن الإنسان الذي يقع عليه أكبر قدر من الظلم هو الأم».
اسماعيل وحسين إلى السينما
يطل الفنان بشار اسماعيل في فيلمه الثاني بعد فيلم «بانتظار الخريف» مع المخرج جود سعيد، في فيلم «الأم» يؤدي إسماعيل دور المختار بمفهومه الشعبي كمسؤول عن منطقة ما وعالم بتفاصيلها وأهلها ورجل مؤتمن على الحي، ومرتبط بالمفهوم الرمزي للأم الأرض ومراقبته حياتها وعلاقتها مع أبنائها. عن دوره في الفيلم يقول: « كان المختار جسر محبة وتواصل بين أم عادل، حتى عندما توفيت في الكنيسة وبين أبنائها الذين فرقتهم الدنيا، وحتى مع موكب جنازة الشهيد الذي جاء إلى القرية في زمن موظف. أم عادل كانت تربطها مع جارتها علاقة صدامية جداً، بسبب خلاف عائلي قديم، لكن بعد وفاتها تغير هذا الموقف، وكان المختار جزءاً من هذا التغير».
كما يظهر المخرج سمير حسين في الفيلم ممثلاً للمرة الأولى في دور «عادل»، ما أضاف تنوعاً على شخصيته وجانباً خفياً من مواهبه التي كان يستغلها من خلف الكاميرا، لتكون أمام الكاميرا.
سلاف فواخرجي حضور متألق
هذا الفيلم هو الثاني للممثلة سلاف فواخرجي في المؤسسة العامة للسينما بعد فيلم «مريم»، وتصر النجمة على تأكيد حضورها في السينما السورية بشكل مستمر، تؤدي دور «فاتن»، فتاة سورية تعيش واقعها وتتماهى بتفاصيله، لكنها تحاول الانعتاق من إرث الماضي الثقيل ومخلفاته وعداواته، وتتوق إلى حلم العيش بحق وخير وجمال، حلم يشبه طبيعة أرضها وبلدها وتسعى مثل الآخرين إلى تحقيقه. وهنا تقدم الفنانة من خلال هذا العمل رسالة نبيلة تتلخص في أن أهم ما في هذه الحياة هو الإنسان الساكن في داخلنا والذي يجب أن يطغى على جميع التفاصيل الحياتية والمرهقة، وترسل من خلال دورها نفحات من محبة ورحمة كمفتاح للسوريين للخلاص من الأزمة.
الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، إخراج باسل الخطيب، يجمع العديد من النجوم، بينهم صباح جزائري، سلاف فواخرجي، نورا رحال، ديمة قندلفت، بشار إسماعيل، سمير الحسين، إضافة إلى علي صطوف وعامر العلي ولينا حوارنة وسوزان سكاف ورنا كرم وآخرين.