أصول النقاش… وبعبع خدش الحياء العام!
نصار إبراهيم
أحد الأساتذة وهو يحاول في إحدى محاضراته عن التنمية البشرية أن يلفت نظر الطلاب إلى أهمية الانتباه والتدقيق في الأرقام وتحليلها، قال: «الأرقام كالمايوه البكيني، ما يُخفيه أكثر أهمية مما يُبديه!» وأضاف: حققوا مع الأرقام… استجوبوها… عذّبوها… ستعترف لكم بما تريدون! أتوقع أنّ البعض سينتفض الآن فوراً، ويتجاوز الفكرة لينشغل بقصة «المايوه»! الذي ليس له في الحقيقة علاقة بموضوع النقاش أبداً، وربما سيصرخ هذا البعض محتجاً: ما هذا الكلام… «بكيني»! ومخفيّ وظاهر!! هذا الأستاذ وأنت أيضاً معه غير محترمين، هذا عيب وحرام شرعاً! وهاي بلوك لك ولما تكتب!
وبالمناسبة ورغم الاحتجاج والصراخ، فإنّ البكيني هو أول «مايوه» في التاريخ، وكان على شكل ورقة توت أو تين أو عنب… أو… كما تقول معظم النصوص الدينية.
ردّ الفعل هذا شاهدنا مثله بالضبط في قضية الطفلة الفلسطينية المناضلة عهد التميمي، حيث نَسيَ بعضُ المهووسين والمنافقين سياق الحالة التي تمثلها هذه الطفلة، وذهبوا ليناقشوا ماذا تلبس، وقالوا: «لو فيكي خير كنت حاطة ع راسك شي»!
وهكذا تذهب تجربة جميلة بوحيرد وليلى خالد ودلال المغربي وسناء محيدلي وغيرهنّ الآلاف من المناضلات بجرّة «فتوى» أو «لعنة» أو سمّه ما شئت.. لتهبط القضية من نضال ضارٍ وشرس ضدّ الاستعمار والاحتلال إلى مجرد حكاية «منديل» مع الاحترام لكلّ المناديل هنا، وفي مجرة درب التبانة. هذا المنطق يعني أن ليس هناك مَن فيه خير لشعبه ووطنه وقضيته، إلا مَن كان يلبس دشداشة، ويطيل لحيته ويحمل سبحة أطول من قامته، ويتسكع بين زوجاته الأربع… هذا فقط مَن فيه الخير… وغير ذلك مجرد وقاحة!
هذا يذكّرني بندوة شاركت فيها عند إطلاق الكتاب التوثيقي المدهش الذي بعنوان: «قول يا طير نصوص ودراسة في الحكاية الشعبية الفلسطينية» تأليف د. إبراهيم مهوي أستاذ الأدب العربي المعاصر ونظرية الترجمة في جامعة أدنبرة/ سكوتلندا، ود. شريف كناعنة أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة بير زيت/ فلسطين. والصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2001 في بيروت.
حيث نهض أحد الحضور واحتجّ بأنّ الكتاب فيه خدش للحياء العام! والدليل: أنه يستخدم في سرد بعض الحكايات الشعبية تعبير: «وقام حديدون من طيز الصبح…» مما دفعني للتعليق والردّ.. قائلاً: ولكن هكذا كانت تروي لنا أمي.. دون أن تشعر أنّ في ذلك خدشاً لحيائنا العام! فهل تقصد أنها كان يجب أن تحكي لنا هكذا: وقام حديدون من إست الصبح مثلاً؟!
حكايات ألف ليلة التي تُعتبر من أشهر الروايات الشعبية في العالم العربي والعالم أيضاً، فيها ما فيها من قصص وإيحاءات جنسية فهل نحرقها، ولماذا لم يقطع هارون الرشيد رأس الشاعر أبي نواس مع أنه تجاوز كلّ حدّ في قصائده المحرّمة التي نشرت بعضها دار الريس في بيروت؟ وماذا عن الإمام جلال الدين السيوطي، الفقيه الشافعي والأديب الموسوعي المولود في القاهرة 1445م مؤلف كتاب «الجنس عند العرب»، الصادر عن منشورات الجمل 2006، وفيه تفاصيل تفاصيل العلاقات والثقافة الجنسية عند العرب!؟
أذكر أنّ أحد الأصدقاء الفوضويين اليساريين اليونانيين أثناء دراستي الجامعية في اليونان في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، وفي سياق نقاشات حادة حول التغيير في العالم العربي، قال لي ضاحكاً: اسمع! إنكم لن تتحرّروا سياسياً ما لم تتحرّرواً جنسياً! ضحكت يومها.. ولكن بعد أن عشت ما عشت وشاهدت كيف يستولي النصف السفلي عند الكثير من «ثوار جهاد النكاح» على نصفهم العلوي، أعود فأتذكّر ذلك «الفوضوي»، والفوضوية Anarchism بالمناسبة ليس لها علاقة بـ«الفوضى» كما نفهمها هنا، أيّ بمعنى إثارة البلبلة العبثية وتكسير الصحون، كما قد يتبادر لذهن البعض. فالفوضوية تيار سياسي فلسفي مناهض للنظام الرأسمالي وضدّ الملكية الفردية والدولة كأداة تسلط وقهر، ولها منظّروها وفلاسفتها وثوارها ومن أشهرهم برودون الفرنسي وباكونين وكروبوتكين الروسيان.
وبالعودة لحكاية «البكيني» مع الأرقام، أرجو أن لا يهبط النقاش وينحرف ليصبح مسألة فقهية: هل استخدام هذا المثل حلال أم حرام، جائز شرعاً أم غير جائز؟ إنّ هذا يشبه مَن يبحث تحت عمود النور عن شيء أضاعه بعيداً في مكان معتم، إنه يبحث تحت الضوء، وليس حيث أضاع غرضه.
جوهر فكرة الاستعارة في مثل «البكيني» ليس الإيحاء الجنسي، فسياق استخدام المثل ليس له علاقة بذلك، الفكرة هي خطورة التعامل مع الأرقام.
الكثيرون لهم مشكلة مع الأرقام حدّ الهوس، حتى أصبحت الأرقام مقدّسة، فكثيراً ما يحدث أن يقوم البعض بحشدها ودحشها هنا وهناك وكيفما اتفق، أيّ دون إخضاعها للتدقيق والتحقيق، وكأن مجرد الاستشهاد بالأرقام والنسب المئوية يُعفي من التدقيق والنقاش وإعمال العقل.
ومن الأمثلة الساخرة على هذا الميل: كأن يقول أحد عبدة الأرقام.. لست متأكداً من الرقمين الصحيحين قبل الفاصلة، ولكنني متأكد تماماً من الرقم الثالث بعد الفاصلة…!
في هذا السياق تأتي إشكالية النسبية في الأرقام، ومنها مثلاً نسبة الـ 99,9 التي يحصل عليها غالبية المرشحين للرئاسة في بلداننا العربية.. حتى هامش الخطأ الذي يُستخدم كلازمة في علم الإحصاء + – 4 يختفي مع هذه النسبة الرياضية المحكمة، فالأرقام عندنا في الانتخابات الرئاسية لا تمزح أبداً.
الأرقام في البحوث والمقاربات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأيضاً في الاقتصاد لها بعدان: كمّي وكيفي أو نوعي، لهذا فإنّ استخدامها العلمي يشترط التدقيق في أبعادها ودلالاتها، ذلك لأنّ النسبة أو الرقم الذي يكون صغيراً من الناحية الكمية قد يكون من الناحية النوعية أكثر أهمية بكثير…
ومن الأمثلة على هذا الاستخفاف والتجاوز مفاهيم الأقلية والأغلبية، والنسب المئوية، إذ يكفي أن يقول مركز استطلاع ما إنّ نسبة 90 أيّدت قانون الأحوال المدنية مثلاً فيما رفضته 10 ، لنخلص إلى استنتاج سريع وحاسم أنّ هؤلاء الذي يشكلون 10 لا قيمة لهم.. إنهم أقلية تافهة.. تلك هي القوة السحرية للأرقام… بحيث لا أحد يشغل باله ويسأل مَن هم هؤلاء الـ 10 بالضبط. ماذا لو كانوا مفكرين ومثقفين وأكاديميين وإعلاميين!؟
أو كأن يقول أحدهم مثلاً إنه يساري… هذا الإعلان بشكله هكذا يبدو شهادة حاسمة، لكنه في الحقيقة والممارسة قد لا يعني شيئاً، إلا إذا تمّ تحديد مفهوم اليساري بالنسبة لمَن بالضبط!؟ فماذا لو كان هذا اليساري يضرب زوجته أو ابنته، لأنها لم تغسل أقدامه بالماء، أو ماذا لو فهم مفهوم التأميم كمعادل للزواج من زوجات عدة!؟
في السياق ذاته تأتي نسبة العاطلين عن العمل، كأن تعلن إحدى حكوماتنا أنّ نسبة العاطلين عن العمل في البلد هي فقط 12 ، حسناً، ولكن ماذا سيكون الحال لو وجدنا أنّ 95 من هؤلاء الـ 12 هنّ إناث!؟ ألا يغيّر هذا في المقاربة ويفتح على نقاش اجتماعي عميق!
هذا يذكرنا بذلك الموظف البسيط الذي حين سأله أحدهم عن راتبه أجاب: راتبي أنا ومديري 20 ألف دينار!
الفكرة الأساسية لهذا المقال لمن نسي: هي ضرورة الذهاب إلى عمق الفكرة قيد النقاش، هذا يعني تجاوز السطح والشكليات. هذا يعني أنّ الأرقام في الاقتصاد وغيره تحتاج لدراسة وتحليل واستنطاق كي ندرك أبعادها السياسية والاجتماعية. هذا بالضبط إحدى أهمّ وظائف علم الاقتصاد السياسي الذي ابتلعته معظم تقارير ومقاربات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمات غير الحكومية التي أغرقتنا في متاهة الإطار المنطقي، والمنتوج، والمخرجات حتى لم نعد نتذكر السياق العام والأسباب والأهداف والفلسفة التي يتمّ على أساسها تقديم الدعم ووضع وتوزيع موازنات الحكومات أو المؤسسات، ولماذا تتفاقم البطالة والفقر رغم استمرار تدفق «الدعم»، وكلّ ذلك بالرغم من النقاشات التي لا نهاية لها عن الخطط الاستراتيجية للتنمية وخاصة «المستدامة»، لنجد أنفسنا بعد عقود أنّ ما هو مستدام فقط هو سير واقع حالنا وانحداره من سيّئ إلى أسوأ…!