انتفاضات «العواصم» «المِيل» الأول في التغيير

د. وفيق إبراهيم

بيروت وصيدا وطرابلس عواصم لبنان وجنوبه وشماله، أعلنت رفضها لحقبة سياسية كاملة بدأت في 1992، مع المرحوم رفيق الحريري وتستمر مع ابنه رئيس الحكومة الحالي سعد وعمّته بهية وأولادها.

لذلك بدت الانتخابات الأخيرة أكثر من صفعة لهيمنة مطلقة جمعت في العمق بين الاستبداد على الطريقة السعودية، إنما في إطار من حداثة الأزياء والعلاقات والملاطفة والمزاح لقد وصل الأمر بسعد إلى حدود أنّ يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب: «كلهم جاءوا إلى باب سعد وتوسّلوا إليه كي يأخذهم في لوائحه».. أو «سعد رفيق الحريري ما بيقبل». هذه قمة الديكتاتورية والإحساس بالعظمة التي لا حدود لها.. ولا بأس من استعادة ما قاله للفتيات في واحدة من عروضه المسرحية: «انتخبوا سعد رفيق الحريري وسيتصوّر سلفي مع كل واحدة منكم بإذن الله».

هذا جانب سطحي بسيط من مآثر سعد، تُزوّد المتتبع حدود السطحية السياسية لعائلة تخنق لبنان اقتصادياً منذ 1992.. وتضعه في خدمة سياسات آل سعود. اقتصادياً يرزح لبنان تحت دَيْن جاوز 92 مليار دولار في بلد بلا موارد أولية، باستثناء النفط الذي لم يُكتشف بعد . ولديه أربعون بالمئة من أبنائه تحت خط الفقر، هذا يعني نجاح الحريرية السياسية كحركة تجمع بين الفسادَيْن الاقتصادي والسياسي في تدمير الطبقة الوسطى اللبنانية، ورهن البلاد لمصلحة القطاع الخاص، خصوصاً المصرفي منه الذي يهيمن على معظمه آل الحريري وأصدقاؤهم الخليجيون.

بالنتيجة الملموسة ماذا يمكن القول بعد 25 عاماً من حكم آل الحريري؟ أنتجت أكبر عملية فساد في العالم.. لم تحتكرها بمفردها بل أتاحت المجال لكل القوى السياسية من مذاهب وطوائف أخرى بالفساد أيضاً.. ما جعلها تؤسس تحالفاً سياسياً قوياً وفّر لها هذه الديمومة السياسية. يكفي هنا القول إلى أنّ وعود الحريرية بالكهرباء والماء ورفع النفايات والأمن.. ذهبت أدراج الرياح بشكل أصبح فيه القطاع العام أقساماً تتقاسُمه وباعتدال قوى السلطة، حسب أحجامها ونفوذها من الصناديق المتنوّعة إلى مجلس الإنماء والإعمار إلى الجمارك والمطار والصفقات في الوزارات والعلاقات المشبوهة مع المال الخليجي.. فكل وزير يُشرف على الفساد في وزارته في إطار الإشراف الأكبر من ولي الأمر الأكبر.

هناك ملاحظة واحدة تكشف أنّ الحريرية لا تأبه بمصالح اللبنانيين.. فكل مراكز الأبحاث تعرف مدى صعوبة الإنماء على قطاعات غير منتجة في بلد لا موارد أولية فيه.. هذا يشبه القانون الاقتصادي.. لكن رفيق الأب بالغ في بناء أسس تحتية لمناطق تبين في ما بعد أنها من أملاكه.

أما ابنه سعد، فكان يجب على مستشاريه أنّ يفهموه أن الاقتصاد اللبناني ذا الموارد المحدودة، متعلق بنيوياً بسورية المنفذ الحصري الوحيد الذي نعبر منه إلى العالم العربي، ومرتبط بالخليج بلاد المال والوظائف.

وإذا كانت الأزمة السورية أدت إلى إقفال الحدود مع لبنان، فإن تحرير المناطق الشرقية من الإرهاب بواسطة حزب الله والجيش، كان يفترض أن يدفع دولة لبنان إلى مفاوضة السوريين حول فتح اقتصادي منظم بين البلدين ونحو العراق والأردن. لكن الارتباطات السعودية ـ الأميركية ـ الفرنسية للحريرية السياسية، جعلتهم يرون أنّ إرضاء رعاتهم الدوليين والإقليميين أهم من مصالح اللبنانيين فانخرطت في لعبة عداء مكشوف للدولة السورية ابتدأت بدعم الإرهاب الذي يستهدفها انطلاقاً من بعض مناطق الشمال قرب الحدود السورية ومن عرسال في الشرق، بالإضافة إلى التحشيد الطائفي والمذهبي عبر المؤسسات الدينية والمساجد.. حتى وصل الأمر باستحضار المفتي ليبارك معركة الحريرية الانتخابية، وهي سابقة لم يفعلها مسؤول ديني باستثناء أحد البطاركة الموارنة الذي كان يرعى ويؤيد حركة 14 آذار في الداخل والخارج، إنما كيف تمكّنت الحريرية من الهيمنة على مناطق نفوذها في المدن والأرياف؟

تعامل الحريريون مع جمهورهم بأسلوب توزيع مخصصات شهرية لرؤساء العائلات والمتنفذين والمخاتير ورؤساء البلديات والإعلام والمؤسسات الدينية، والأندية.. وعندما توقفت مخصصاتهم من السعودية.. وابتدأت متاعب شركة سعودي أوجيه.. بدأوا بسياسات تقنين وشحّ أصابت الموظفين أولاً وسرعان ما شملت الفئات الأولى من هيئات الإمساك بالمجتمع. وللمرة الأولى بدأ النفور من الحريرية يأخذ طابعاً علنياً.. وخصوصاً في المدن العواصم بيروت وطرابلس وصيدا التي شعر أهلها بسياسات إفقار من الحريرية التي أصبحت تعللهم بأيام مقبلة مزدهرة إنما لا تاريخ لها، ومن جانب الدولة التي يُمسِك بها آل الحريري، لكن قدرتها على التوظيف محدودة فضلاًً عن أنه لا يمكن تجاوز الحصص الوظيفية للطوائف الأخرى.

وهكذا أصبح الأمر محبطاً في المدن الكبرى. وكوسيلة لاحتوائه لعب الحريريون أسلوباً تقليدياً باستعمال السياسة بدلاً من القوة الاقتصادية، حتى أنّ أحداً لم يعُد يسمع إلا ضرورة حماية عروبة لبنان، ومجابهة المشروع الفارسي والحدّ من انتشار الحسينيات. حتى أنّ وزير الداخلية كان يعلن ليلاً ونهاراً أن عروبة بيروت مستهدَفة، من قبل الفرس، متناسياً أن العدو الأول للبنان هو «إسرائيل» وأن إيران لم تعتدِ على بلد عربي منذ الفتوحات الإسلامية، ونسي أيضاً أن مئات القواعد العسكرية المنتشرة في المنطقة هي قواعد أميركية وغربية.. أكان يجب تذكيره أن مَن يحتل مزارع شبعا ونصف قرية الغجر والجولان المحتل هو «إسرائيل» وليس إيران.. وأن فلسطين محتلة بكاملها من اليهود وليس من الفرس.

بأي حال، لم تنطل تحشيدات الحريرية على أبناء المدن.. فعاقبوها بالإحجام عن التصويت للبعض منهم، وبانتخاب اللوائح المنافسة حيناً آخر. وتبدّت نتيجة قاسية قوامها خسارة الحريريين لنصف المقاعد من المدن والعواصم للمرة الأولى منذ 1992، وكانت ضربة كبيرة لسببين.

إنها انتجت قيادات سنية جديدة من منابت متنوّعة، فهناك مراد وميقاتي وكرامي وطرابلسي الذين ينتمون إلى بيئات قيادية في طوائفهم.

أما السبب الثاني فيتعلّق بتمكّن حزب الله مع حلفائهم في الفوز بكامل المقاعد المخصصة لهم في جنوب لبنان والبقاع وبعبدا وبيروت الثانية.

لكن النتيجة الأكثر بهاء وتكشف أن الناس ملّت من استخدام أبواق السياسة للتصعيد، وتتجسّد بسقوط اللواء ريفي ولائحته الذي كان يبالغ في الهجوم على حزب الله في كل وقت وزمان، أي كان متموضعاً على يمين سعد الحريري في انتماءاته الإقليمية والسعودية والداخلية.

إنّ الإصرار على إسقاط الحريرية والريفية، هو أكثر من مؤشر على انتماء أهالي العواصم إلى إطار الاستقرار اللبناني.. وما فعلوه هو خطوة، قد تكون الأولى، لكنها مستمرّة إلى أن تعاود هذه العواصم استرداد موقعها كواجهات للعمل الوطني الذي تتسم به منذ الخمسينيات.

لبنان إلى أين بعد هذه الانتخابات؟ إلى مزيد من الاستقرار على قاعدة أن حزب الله يحتاج إليه من أجل استكمال محاربة الإرهاب في الإقليم.. واللبنانيون بحاجة إليه ليستعيدوا نهضة اقتصادية سلبتها منهم مجموعة من محترفي الوساطات والسرقات العلنية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى