مسكينة أحلام العودة… في رواية «الحبّ والخبز»!

محمد سلام جميعان

كنت أتمنّى لو أنّ الكاتبة آسيا عبد الهادي اختارت سواي من جمهرة النقّاد في هذه الاحتفاليّة، فما بيني وبينها من المودّة والتقدير ما يحفّز على رميي بالميل والمجاملة، ومصانعة الكاتبة على حساب الأدب والفنّ. فآسيا عبد الهادي أخت وصديقة في الأدب، غيرُها روائية في مدرستها الواقعية، فقد نزّهت قلمها عمّا جرت فيه كثيرٌ من الروائيات والروائيين من استنفار الجسد والكلمة الرخيصة استجراراً للقرّاء، واستجلاباً لرنين الجوائز والشهرة.

لقد مالأ كثيرون من النقّاد هذا اللون من القصص والروايات وساندهم في ذلك نفرٌ من المهووسين بتحرير المرأة. وشتّان بين أن تتحرّر المرأة، وأن تملك حرّيتها، فالحرّية تعني السموَّ في القلم والشخصية والعفّة المكتسية ببهاء الشمس والثلج في آذار، والتحرّر يعني ـ كما لا يخفى عليكم ـ التحلّل من قيم الكلمة والنفس.

والذي يقرأ الروايات التي قاربت موضوعاتها الكاتبة آسيا عبد الهادي، لا شكّ في أنّه سيدرك كم هي تعيش جرح قضيتها الوطنية/ فلسطين. فهي منغمسة فيها انغماس السمك في الماء، فإذا استغنى عنه بحراً أو حوضاً، فلن ينفصل عنه محصوراً في إناء.

وهي في كتابتها تصدر عن وثبة عاطفية عارمة قوية الارتجاج عالية الأمواج، فتتجاوز الخاصَّ إلى العام، فهي إذ تستثمر ما تواجهه ذاتها المفردة في حلها وترحالها من آثار النكبات العربية، فإنما يصير في الكتابة شعوراً جمعياً، وهذه هي مراتب الإبداع الحقّة، أن تجر من ذاتك ذاتاً أخرى تنقل فاجعة الإنسان بواقعه، وكيف تتكسّر أمواجه وأحلامه على صخرة الحياة في شاطئ مجهول.

والكاتبة في روايتها هذه تجري مع نَفَسِها المديد المترامي الزفرات فَتُطلعنا على أدقّ تفاصيل الشخصيّات وأصغر خلجات شعورها فنراها ماثلةً أمامنا في تألُّمها واستيحاشها، وحزنها وثورتها لكرامتها وتنديدها بظلم الظالم، وتعرية المتآمر، إلى آخر ما تمور به هذه الشخصيات الروائية من مشاعر وانفعالات يتضارب فيها الفرح باليأس، ويحترق الأمل في داخلها احتراق الشمعة في الليل البهيم، حتى إنها لا تنسى ذكر ضعفها وخورها وانهزامها أمام واقعها الاجتماعي، فتبدو شخصيات نابضة بواقعيتها من دون أي تزويق أو تلوين.

والحدث الروائيّ يسير في خطٍّ متنامٍ يرسم كلَّ التحوّلات التي تطرأ في الزمن الروائيّ وانعكاساته على الشخصيات يأساً أو أملاً، فرحاً أو ترحاً، وهو ـ أي الزمن الروائيّ ـ زمنٌ استعاديّ استذكاريّ، تسترجع فيه الشخصيات أحلامها الخاسرة ومرارة واقعها، تسحبنا فيه الروائية نحو الصدمة من النتائج المخيّبة.

وفي ملمح آخر للحدث ربّما يستشعر القارئ تمازح حدثين اثنين من أزمنة النكبة، واحدٌ بعيد يتصل بزمن النكبة الأول عام 1948 والآخر يتّصل بمرجعيات نكبة المقاومة بعد عام 1967.

وقد وُفِّقَت الروائية في هذا المزج حتى إن القارئ يبقى غارقاً في تفاصيل الحدث الأول من دون أن ينتبه الى التحوّل الزمني إلّا إذا دقّق النظر في طبيعة الحدث الجزئيّ الذي جاء التعبير عنه لماماً. وبهذا ظلّ الحدث الأكبر هو المهيمن على البنية السردية لدى الروائية.

وفي هذا السياق أشير إلى تناوب شخصية الأبطال. وبالقدر الذي تكشف فيه الأحداث والشخصيات عن التباينات الطبقية فإنها تكشف عن الروح الخربة للفئات المتعالية بثرائها.

وتكاد تكون البطلة الأبرز في هذه الرواية هي الأمّ. فتماسكها أمام الصدمات العالية عائلياً ووطنياً، شحن مَن حولها بعزيمة حديدية قادرة على الصمود وتخطّي العقبات كلّها، وخلق نموذجاً غير راضخ، ما جعل صورة الأنثى أكثر إيجابيّة، ليس من موقع الانتصار المجاني للمرأة وقضاياها، وإنما هي هكذا بحكم واقعها الممسوخ الذي وجدت فيه ذاتها، فاستقوت عليه بأنوثتها التي أضحت أنوثة متمرّدة لها قدرة على المواجهة والفعل النضاليّ.

ويلمح القارئ آثار الواقعية في السرد من خلال استحضار الموروث الشعبيّ في مستوييه: المفردة الشعبية، والمثل الشعبي وهنا يتداخل توظيف الميثولوجيا الشعبية على مستوى القصة بسرد قصة داخل قصة.. قصة زوجة الأب التي تزوجت، إضافةً إلى الممارسات الشعبية في المناسبات.

مسكينة أنت أيتها الأحلام أحلام العودة .. لقد سقطت سهواً.

كاتب أردنيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى