إني أعترف: لقد أخطأت حين قلت إنّ ترامب لن ينسحب من الاتفاق النووي… ولكن لماذا!؟
نصار إبراهيم
خلال الأسابيع والأشهر الماضية، وفي غمرة النقاش والتقديرات والتحليلات والتوقعات عن موقف ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، حين كان يسأني أحد الأصدقاء: هل سينسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران أم لا!؟… كنت أجيب: لا أعتقد ذلك.. لن ينسحب!
كنت أرى أنّ أميركا لم تصل بعد إلى هذا الحدّ من الجنون أو الوقاحة، وذلك انطلاقاً من اعتقادي بوجود حدّ أو شحنة معينة من النواظم التي ستكبح ثقافة وسلوك الغطرسة والعنجهية التي يتسم بها سلوك الكاوبوي الأميركي عادة بما يبقي على حدّ من العقلانية ستجبر الدولة على التوقف والتأني أمام قرار بهذا المستوى من الخطورة.
عفواً… إني أعتذر… لقد كنت مخطئاً… مما يستدعي إعادة القراءة بصورة أعمق…
في البداية لا بدّ من التعامل مع السؤال التالي: لماذا كنت أعتقد كما غيري بأنّ ترامب لن يصل إلى حدّ الانسحاب من الاتفاق النووي، وأنه سيجد في النهاية نقطة توازن ما سيقف عندها من أجل المناورة والابتزاز والضغط، بمعنى نقطة تقع ما بين حدّي الانسحاب والبقاء، أو كما يُقال فوق الصفر وتحت التوريط.
السبب يعود إلى أنني راهنت في قراءتي على عقلانية ما ستحكم في اللحظة الحرجة أداء وخيارات الدولة الأميركية من أجل الحفاظ ولو شكلياً على خطابها الأثير على قلبها: احترام القانون الدولي والاتفاقات والمواثيق والأعراف والمعاهدات الدولية، إلى جانب تغنّيها باحترام المؤسسات الشرعية الدولية وقراراتها، بحيث أنها كانت مستعدّة لشنّ الحرب ضدّ «بعض» الدول التي لا تلتزم بتلك القرارات وتصفها بالدول المارقة.
لهذا فإنّ المنطق كان يقول بأنّ الولايات المتحدة ستحافظ في اللحظة الأخيرة على بعض الكياسة واللطافة والديبلوماسية المفيدة لسياساتها وعلاقاتها مع حلفائها بما يعطيها بعض الشرعية والمحترمية.
غير أنّ ما حصل جاء على العكس من كلّ هذا التحليل… لماذا!؟
لنعد إذن صياغة السؤال من جديد: لماذا كان عليّ أن أتوقع انسحاب أميركا من الاتفاق النووي.. أو على الأقلّ لماذا لم أضع هذه الفرضية باعتبارها واقعية الحدوث؟
بعد التفكير وإعادة التقييم لسلوك وأداء ومقاربات الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترامب سندرك أنّ هذا الخيار الذي وصل إليه ترامب كان واقعياً وممكناً جداً.. كيف!؟
حين تبدأ ديناميات التراجع المترتب على فشل وإخفاق القوى الكبرى في سياق المواجهات الشاملة وحالة الاشتباك الاستراتيجي، أيّ حين تبدأ الامبرطوريات والقوى الغاشمة بمراكمة الخسارة وتبدأ موازين القوى والمعادلات بالتغيّر لغير صالحها لأكثر من سبب وسبب… فإنها في مثل هذا الواقع تبدأ بالتخلي عن فائض أو ترف الكياسة واللطافة والديبلوماسية التي تبدو مفيدة ومقبولة في زمن الهيمنة والتفوّق الغاشم، ذلك الترف الذي يأخذ في العادة شكل التغنّي والغزل ومداعبة القانون الدولي والمدنية، والعالم الحر وحقوق الإنسان… وغير ذلك من المفاهيم التي تشبه «عِدّة النَّصب» اللازمة لمداعبة مخيال «الرجل الأبيض السيد المهيمن، القائد والنبي» المقتنع برسالته ودوره في تحضير جميع شعوب وأمم العالم التي ليس من حقها الرفض أو الاحتجاج على هذه الرسالة القهرية.
ما حدث أنّ أميركا وحلفاءها ومنذ أن بدأ مشروعها المسمّى «الربيع العربي»، أو الفوضى الخلاقة بالتعثر، وما ترتب على ذلك من هزائم وإخفاقات لكلّ الأدوات التي تمّ توظيفها من تنظيمات تكفيرية وإرهابية، أنظمة رجعية، مال وسلاح وإعلام وحرب نفسية وقتل وتدمير وغير ذلك، وجميع الدول التي شاركت في هذا المشروع التدميري … فإنّ تراكم الفشل والإخفاقات والهزائم، كان يعني في العمق تغيّر موازين القوى في المنطقة والعالم، كما يعني أنّ هناك قوى عالمية كبرى وقوى إقليمية وازنة تنهض لتحتلّ مكانها ودورها.. بما يعني أنّ العالم لم يعد ساحة خلفية للكاوبوي المتغطرس…
هذه الحقيقة أدركها ترامب وإدارته.. حينها لم يعد هناك أيّ هامش لمواصلة التلهّي بالخطاب الملائم لمخيال الرأي العام الغربي عن القانون والحرية والمعاهدات والمواثيق والأعراف والاتفاقيات…
فالواقع يتغيّر بسرعة مدهشة في سياق المواجهات الطاحنة… بحيث لم يعد أمام أميركا وحلفائها العاجزين خيارات يمكن اللجوء إليها لوقف الهزائم والإخفاقات التي تتراكم في سورية والعراق واليمن.. لقد كشفت المواجهات الضارية منذ عام 2011 أنّ محوراً عملاقاً ينهض وأنّ عالماً مهترئاً قديماً بائساً يتراجع.
أمام هذا الواقع والحقائق كان من الطبيعي أن تتخلى القوى الولايات الأميركية عن أية رصانة أو لغة ديبلوماسية ولو شكلية… كان من الطبيعي أن تكشف عن الوجه القبيح دون مراعاة لأيّ أعراف أو كياسة ديبلوماسية.. فاللحظة ليست مناسبة للانشغال بالمجاملات والكلام الفارغ.
في سياق هذه العملية كان يجب الانتباه لمجموعة من المؤشرات في سلوك وأداء الإدارة الأميركية بما يتناقض مع فرضية العقلانية والمنطق التي يجب أن تحكم سلوك وأداء الدولة الكبرى المحترمة.
كان يجب الانتباه مثلاً إلى طريقة تصرّف ترامب الذي لم يعد يهتمّ بالحدّ الأدنى من اللياقة حتى وهو يخاطب حلفاءه، يضاف لذلك صفاقة نيكي هايلي والعجوز جون بولتون وغيرهما… من الصقور الهرمة للمحافظين الجدد، لنتذكر:
ـ وصف السعودية ودول الخليج بالبقرة الحلوب. ثم وصف تلك الدول بأنها دول لا تستطيع أن تبقى أسبوعاً واحداً بدون الحماية الأمريكية ولهذا عليها أن تدفع مقابل ذلك.
ـ تهديد الدول والشركات التي لن تلتزم بالعقوبات الأميركية على إيران بأنّ أميركا ستعاقبها وليس أمامها سوى فترة زمنية ما بين 90 180 يوماً لترتيب أمورها.
ـ الطلب من الدول الأوروبية العضو في الناتو أن تدفع لقاء وجود أميركا في الناتو.
ـ التهديد بوقف دعم وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين والأونيسكو لأنهما تتخذان سياسات تعارض المواقف الأميركية، هذا بالإضافة إلى قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل» وقرار نقل السفارة الأميركية إليها في أيار 2018.
ـ وقف المساعدات الأميركية المقدّمة للسلطة الفلسطينية لأنها تتجرأ على معارضة مواقف أميركا.
ـ تهديد نيكي هايلي بوضع قوائم بالدول التي تصوّت في مجلس الأمن أو في الجمعية العمومية ضدّ مواقف الولايات المتحدة واتخاذ إجراءات عقابية بحقها.
ـ الطلب من المكسيك دفع 18 مليار دولار كتكاليف لبناء جدار على حدودها مع الولايات المتحدة.
ـ الحديث المتواصل عن فقدان مؤسسات الأمم المتحدة لدورها كونها أصبحت مكاناً لمعارضة مواقف الولايات المتحدة تنسى الولايات المتحدة أنها استخدمت الفيتو منذ قيام الأمم المتحدة بحدود 83 مرة من بينها أكثر من 42 فيتو للدفاع عن إسرائيل .
ـ هذه بالطبع أمثلة ونماذج.. لا أكثر..
لو تأمّلنا قليلاً هذه المواقف وسياقاتها.. لاكتشفنا بسهولة أنّ هذا السلوك الذي لا يقيم وزناً لأيّ اعتبار سياسي أو أخلاقي أو عرف ديبلوماسي، يشير إلى أنّ الإدارة الأميركية وأمام هذه الهزائم والتراجعات هي وحلفاؤها، لم يعد أمامها سوى إلقاء القفازات الناعمة جانباً ورمي الخطابات الإنسانوية والديبلوماسية وأية اتفاقيات لا تناسب غطرسة العمّ ترامب في سلة المهملات والتصرف بما تمليه اللحظة على رجل المافيا أو الكاوبوي!
في سياق هذه العملية المتداخلة والمستمرة كان يجب التوقع أنّ إدارة ترامب ستتجه نحو التصعيد ودفع الأمور للرقص على حافة الهاوية بما في ذلك الانسحاب من الاتفاق النووي في محاولة لممارسة التخويف بحروب مدمّرة عسكرية وتجارية..
بمعنى تبنّي سياسة وعقلية الابتزاز الخطر في محاولة للتعويض عن الإخفاقات في مواجهة المنافسين الجدد الذين يصعدون على منصة الأحداث بما يشير إلى أنّ العالم يمرّ في عملية إعادة ترتيب للعلاقات والتوازنات بعيداً عن الهيمنة الأميركية الغربية الأحادية.
العقل الوازن والاستراتيجي على المستوى العالمي يدرك طبيعة ما جرى في العقد الأخير… لهذا فإنه يحاول التكيّف والاستدارة بما يستجيب للتغيّرات بعيداً عن المواجهات المدمّرة… هذا ما يدركه الاتحاد الأوروبي ومعظم حلفاء أميركا بما في ذلك تركيا ومعظم دول العالم، لهذا فقد وقفوا جميعهم ضدّ «جنون القوة»… ضدّ قرار ترامب الذي يناقض حقائق الواقع وتوازناته الناشئة… فالبلطجة السياسية لم تعد تجدي نفعاً… ذلك لأنّ القوى النقيضة مستعدة للمقاومة الباسلة أبعد مما يتخيل الكاوبوي الأميركي.
هكذا جاءت ردود أفعال الدول العقلانية التي تحترم نفسها حتى لو اختلفنا معها… طبعاً باستثناء بعض عربان الخليج الذين تثير مواقفهم الضحك والرثاء والسخرية.. فما أن أعلن ترامب قراره الانسحاب من الاتفاق النووي حتى رحّبت «إسرائيل» ورقصت كما هو متوقع.. وفوراً انضمّت إليها على حلبة الرقص: السعودية والإمارات ومملكة البحرين «الكبرى» التي لا تغيب عن أراضيها الشمس.
فكرتُ وبصرتُ وفكرتُ طويلاً لأجد ما يفسّر ويبرّر سلوك هؤلاء العربان فلم أجد أكثر من الغباء السياسي وغير السياسي… فتذكرت النكتة التالية:
يُقال إنّ ملك آل سعود سلمان، عندما روسيا سأل الرئيس بوتين:
« ، أ ! : « .. وستعرف..»
بوتين الروسي ، : « ! ً واحداً، فإ إ ، : إ أ !!. «
: «هذا … ».
: « ».
الملك إلى السعودية، مستشار تركي آل شيخ، : « تركي أ لاً، ، : !؟ «
آل شيخ عرقا ى الملك عاً … آل شيخ ّ لكنهم فا ولم يعرفوا أيضاً..
ي تيليرسون، : « …؟ «
ميركي:» .»
تركي وهو يطير من الفرح، : « ،
: «من !؟».
تركي بكل ثقة: «إنه يركا » يا سيدي!..
ا : «جوابك غلط …، إنه ـ ـ ـ ـ ـ ـ !»
المهم… بعد قليل… «ستطير السكرة وتأتي الفكرة» وسينادي ترامب على هؤلاء العربان ليسألهم سؤالاً واحداً هو: إنه ابن أمك ولكنه ليس أخوك أو أختك فمن يكون!!؟»
حينها ومهما ستكون إجابتهم سيكون ردّ ترامب عليهم: غلط يا… إنه وزير الخزينة الأميركي.. اذهبوا وادفعوا!