في «عائد إلى حيفا»… شخصيات متضادّة ومنمّطة!

محمد رستم

المعنون العالي، «عائد إلى حيفا»، هذا الخبر الذي جاء نكرة وعلى صيغة فاعل يضع الزمن في طيّ المجهول. وبشكل موارب يجعل القارئ ينوس في برزخ بين الحاضر والمستقبل ويدع المبتدأ في فضاء التخمين كغائب تقديره هو ليتمدّد بين ضفّتَي القصة وينطبق على أيّ فلسطيني. وشبه الجملة إلى حيفا حدّدت وجهة العودة وانتهاء الغاية. والعنونة تلك كدالّ إخباريّ تشكّل منظومة إشارية تشي بالمحاور الدلالية التالية:

محور «خلدون» الذي أصبح «دوف»، ومقولة الإنسان في النهاية قضية وقد اعتمد اسم «خلدون» أرضيّة للحكي. فكما أنّ جذور الإسم «خلدون» عربية لطخته إضافات جافية عنه بسبب العجمنة، كذلك «خلدون» الابن عربي الدمّ لحقت روحه إضافات شوهاء بعدما وقع تحت زخّ السموم الصهيونيّة يقول: «أنا يهوديّ، أذهب إلى الكنيس، وإلى المدرسة اليهوديّة وأدرس العبريّة». فغدا منفيّاً عن أصله نافراً عن جذوره. ومن هنا جاءت مقولة: الانسان قضية أي تربية وتنشئة. لذا، فقد جاءت لحظة اللقاء تعبيراً عن الارتطام بالواقع لحظة عملاقة وهائلة وهائجة رغم السكون الظاهري ، وإن بدا لقاءً في الطواحين كلّ يغني على ويلاه، فقد أضاع «سعيد س». مفاتيح الحكي غافلته أبجديّة الكلام مع أنّ «دوف» كان ضمن المدى المجدي للحروف.. لكنّ ذلك كان بلا جدوى، فما يجري هو خارج نهر الحياة. فـ«سعيد س.» أمام «دوف» الجندي الصهيوني، لا أمام «خلدون» الابن.. بعد عشرين سنة وأكوام من الحلم وعند مفاز اللهفة وقف «دوف» على ناصية اللقاء مثل مسمار الوقت الصدئ. كدبّ مغسول من المشاعر ليهدم جدران حلم دافئ لـ«سعيد س.» و«صفية»، استدار كقطعة خشب وسأل ماذا تريد يا سيدي ، لقد عصفت بـ«سعيد س.» هالات من الوجع وهو يواجه فكراً بلطجياً منطلقاً من فكرة طفيلية أخطاء الآخرين وضعفهم أساس حقه في الوجود وعلى حساب الآخرين لا كما تزعم بعض الدراسات بأنّ غسان أستذ دوف على حساب سعيد س. فغدا يلقنه دروساً في الوطنيّة والواجبات ، يقول: «كان عليكم ألّا تتركوا أرضكم»، وحوار الطرشان هذا عرّى حقيقة «دوف» فبدا لا يمثّل حالة إنسانيّة بقدر ما يمثّل حالة إيديولوجية زائفة معتمدة القوة العسكريّة حق القوة لا قوة الحق . «دوف» عسكري ومن القصة ليس من تناسب بين القبعة العسكريّة وريش الطاووس والموقف بالتالي يؤكّد استحالة حل القضيّة بالحوار وهذا الذي يجري هو مجرد حوار مستحيل وكل ما يقدّمه الصهاينة من أسباب عرجاء لا تسوغ طرد شعب من أرضه.

ولا تنسى القصّة أن تشير بإصبع اللوم والعتب إلى اللذين خرجوا عام 1948 وأسرة الكاتب منهم، وتؤكّد أنّه كان عليهم أن يتشبثوا بأظافرهم وأسنانهم بتراب الوطن. يقول «سعيد س.»: «كان علينا ألّا نترك شيئاً، خلدون والمنزل وحيفا». أي كان عليهم البقاء.

وتوضح القصة أنّ الخروج جرح تنزّ أخاديده المترعة قيحاً وصديداً. فيظلّ اللاجئ يكرز بمعموديّة الحنين همّه ألّا يصبح نقطة على هامش الحياة لا محلّ له من الإعراب. لكنّها في الوقت ذاته تجد للذين خرجوا المسوغات والذي تؤكّده الوثائق التاريخيّة أنّ الخروج تمّ عنوة وتحت القتل والإرهاب، فالتهجير كان قسرياً بل وفق مخطّط تآمريّ دبّرته الصهيونيّة وحكومة الاستعمار البريطاني إن الكولونيل كاراماتيل يضع يده على ثلاث كتائب يحركها وذلك لتغيير ديموغرافيّة فلسطين: «كان اسمه مرج ابن عامر، إنّه سبت حقيقي ولكن لم يعد ثمة جمعة حقيقيّة ولا أحد حقيقي». وطبعاً الأيام تشير إلى الديانات الثلاث والقصة تحذر عرب الداخل من خطر التدجين الثقافي من خلال عرض «دوف» نموذجاً حيّاً وهذا محور هام من محاور القصة. فـ«دوف» هو الهزيمة الماضي و«خالد» هو المستقبل. وتلمّح القصة إلى أنّ امتلاك الصهاينة الجغرافية، لا يعني أنّهم امتلكوا الزمان وإرادة الآخر: «إذا فتحت بوابة مندلبوم من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال». ورؤية «سعيد س.» أنّ كل شيء ما يزال على حاله يؤكّد ذلك.

ولعلّ تكرار كلمة عشرين سنة هو تذكير بالزمن الممتد بين النكبة والنكسة وهي محاولة لتوثيق الحدث. وريشات الطاووس الخمس تذكّر بنكسة خمسة حزيران. وتؤكد القصّة على حق الفلسطيني في أرضه وترسم درب استعادتها على لسان «فارس اللبدة»: «هذا بيتي ووجودك فيه مهزلة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح». ومن أجل ذلك يغدو كل شيء ثانوياً «فلم يعد يهمّه أيما شيء ليكن خلدون ميتاً أو حياً لا فرق». ولأنّ العودة مرّت من تحت جناح الاحتلال فإنّها بدت خارج حركة التاريخ. طارئة غير مدرجة على رزنامة المواعيد. فجاءت النتيجة مخيّبة للآمال، ورفض «سعيد س.» التحاق ابنه «خالد» بالمقاومة يشي بحالة الضياع وضبابيّة الرؤيا لجيل النكبة، ولكنّه عندما صعق بموقف «دوف» كانت لحظة الوعي وتمنّى أن يلتحق «خالد» بالمقاومة. والريشات السبع ترمز إلى أيام الأسبوع بما يمثله الزمن ، وضياع ريشتين يشير إلى خسارة يومين أي معركتين، والعرب يسمّون المعركة بيوم، والمثل المعروف «ما يوم حليمة بسر»، وغسان كنفاني الذي جسّد التراجيديا الفلسطينية اعتصم بشجرة الأخوة الإنسانيّة وتيمم بالمحبّة التي هي أكثر عشقاً لتكون جواز سفر وتأشيرة دخول إلى أفئدة البشر في كلّ مكان، فيفتح القصة على المدى الإنساني.. فـ«مريام» اليهودية هي أيضاً ضحية، فهي بولونية شرّدتها النازية، المعادل الموضوعي للصهيونية، وشاهدت كيف قتل النازيون أخاها. فتصعق عندما ترى جنوداً صهاينة يلقون بجثّة طفل عربي. وتقرّر العودة إلى إيطاليا لكنّ زوجها رفض ذلك. ويبرّئها الكاتب من جريمة تدجين «خلدون» فلا دور لها في ذلك، وهي تقابل «سعيد» و«صفية» بكل لطف وإنسانية، بينما بدا «دوف» جلفاً وقحاً فظّاً.

ومنجز غسان كنفاني هذا تمدّد على سرير القصة التاريخية وجنح نحو السيرة الذاتيّة. وهنا أشير إلى أنّ تسمية العمل رواية هو من قبيل عدم الدقّة. فالحدوتة صغيرة والقصة فقيرة بشخوصها وعالمها القصصي، ولم تسعف الكاتب قصة «فارس اللبدة» التي جاءت موازية للقصة الأساسية في تحويلها إلى رواية.

وأجاد الكاتب بناء قصته بأصابع خبيرة عرفت كيف تحيك خيوط حبكتها البسيطة بلغة سردية ناست بين الشعرية واللغة البسيطة.

وكان الصراع العمود الفقري في القصة وجاء داخلياً في أعماق «سعيد» عند محاولته العودة لحظة الخروج، وخارجياً بين «سعيد» و«دوف». ما أضفى على الحدث واقعية ودرامية مؤثّرة. وواضح أن شخصية «دوف» جاءت منمّطة لمصلحة الهدف الإشاري. فـ«دوف» يستخدم مصطلحاً سياسياً إذ قال: «دعونا نتفاوض» ولم يقل: «نتناقش».

والهدف الإشاري واضح من خلال انكشاف دلالات الرموز وبلوغ الخطاب السرديّ مرحلة المباشرة. يقول «دوف»: «لو كنت مكانك لحملت السلاح»، ما جعل القصة تفقد بعض ألقها الفنّي.

وغسان كنفاني يمنح تسمياته دلالة ترخي ظلالها على القصة بكاملها. فـ«سعيد» ردّ على واقع التعاسة في اللجوء، و«س.» تضرب في فضاءات المجهول لتنطبق على أيّ فلسطيني، و«صفاء» تتّفق مع روح المرأة الشرقية، و«فارس اللبدة» إشارة إلى القوة والشجاعة. و«بدر» باستشهاده أضحى بدراً ينير الدرب في عتمة ليل الضياع. و«مريام» إشارة إلى مريم العذراء، و«دوف» بالعبرية تعني «دبّ» بما يعني تحوّل «خلدون» إلى دبّ عديم المشاعر بليد الإحساس. بينما «خالد» نقيضه فهو البقاء والاستمرارية.

وتشير الدراسات إلى تأثر غسان برواية «إكسودس» للروائي أوريس وفينديرس أعادها إلى برخت مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية». وبعضهم أشارول إلى تأثر غسان بالشاعر «ت. س. اليوت» في مسرحية «كاتم السرّ».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى