ماذا بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني الدولي؟

العميد د. أمين محمد حطيط

في اتفاقية دولية عقدت بين إيران ومجموعة 5+1 وأقرّت في مجلس الأمن بقرار صدر تحت الرقم 2231 التزمت إيران بما يطمئن الآخرين بأنها لن تصنع السلاح النووي، مقابل الاعتراف بحقها بالتقنية النووية لأغراض سلمية ورفع العقوبات التي كانت مفروضة عليها من مجلس الأمن أو بقرارات من خارجه. واعتبر جميع الأطراف أنّ الاتفاق متوازن، حيث نال كلّ طرف فيه ما يبتغيه في حدود الممكن. خاصة أنه يؤسّس لمرحلة استقرار وسلام دولي مؤكد في حال الالتزام به.

بيد أنّ دونالد ترامب المرشح للرئاسة الأميركية آنذاك ومحاكاة للموقف الإسرائيلي وجد انّ الاتفاق مستوجَب الهدم، لأنه سيؤدّي إلى فك العزلة الدولية عن إيران ما يمكّنها من السير قدماً في مشروعها الاستقلالي وسياستها الداعمة للمقاومة التي ترى في «إسرائيل» محتلاً غاصباً للأرض والحقوق، لذلك جعل رفض الاتفاق من شعارات حملته الانتخابية ليس لأنه لا يضمن امتناع إيران عن تصنيع السلاح النووي والجميع مقتنع بأنّ إيران صادقة في التزاماتها ومنظمة الطاقة النووية الدولية تؤكد ذلك، بل لأنه يمكّن إيران من استعادة أموالها المحجوزة في أميركا ويحرّرها من القيود التي تعيق تطوّرها المتعدّد الاتجاهات ويمنحها فرص تعزيز قوّتها التي تجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها باقتدار، وكلّ هذا يعرقل السياسة الأميركية الرامية للهيمنة والسيطرة على المنطقة…

واليوم وبعد 17 شهراً من توليه الرئاسة نفّذ ترامب ما وعد به في حملته الانتخابية وانسحب من الاتفاق النووي، في إجراء يعدّ انتهاكاً للقانون الدولي، وفي تصرّف يؤشر على عدم وفاء أميركا بالتزاماتها العقدية الدولية. الأمر الذي يجعل التعاقد معها يفتقر الى صفة الاستقرار والدوام طالما أنها تنكل او تنقلب على الاتفاقية من دون أن تخشى مساءلة أو محاسبة. ومع هذا الانقلاب تتصوّر أميركا أو تتوقع أنّ الأمور ستتجه في اتجاه يعطيها ذريعة شنّ حرب على إيران. ولهذا هدّد ترامب إيران بأنّ «عليها أن تنتظر حدثاً ما» إذا عادت الى تخصيب النووي بعد انسحاب أميركا من الاتفاق.

هدّد ترامب «بشيء ما» وهو يعني ضمناً الحرب، لأنه يظنّ أو يرى أنّ إيران ستقدم بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، على انسحاب مقابل منه يتبعه انسحاب إيراني من الاتفاقية الدولية لمنع انتشار السلاح النووي ثم استئناف التخصيب بعيداً عن المراقبة الدولية بما يمكن أميركا من اتهام إيران بأنها تسعى لامتلاك السلاح النووي ويبرّر لأميركا وفقاً لما تعطيه لنفسها من حقوق خارج القانون الدولي العام، يبرّر لها العدوان على إيران بشكل واسع، أيّ شنّ حرب تدميرية بحجة التخلص من المشروع النووي الإيراني.

سيناريو وضعته أميركا أو لنقل وضعه الصقور من فريق ترامب ولهذا ترافق الانسحاب من الاتفاق مع حركة تحشيد عسكري في البحر المتوسط وفي الخليج وبحر عمان مقابل إيران لتكون أميركا جاهزة في الشهرين المقبلين للذهاب للحرب، إذا سارت الأمور وفقاً لتصوّرها.

اما «إسرائيل» التي تشتهي الحرب على إيران وتعمل لها بشتى الطرق وأساليب الاستدراج تشاركها السعودية في هذا السعي فإنها تدرك أنها عاجزة بمفردها عن الذهاب الى إيران في إقليمها، وترى أنّ حدود القدرة الإسرائيلية هي أدنى من المستوى المطلوب لمواجهة عسكرية مع إيران ومعها محور المقاومة، حيث إنّ «إسرائيل» لا يمكن أن تنسى قوة حزب الله وموقعه ومراكز انتشاره، لذلك ترى أنّ الحرب التي تسعى اليها غير ممكنة الحدوث إنْ لم تكن أميركا الصلب والأساس فيها وتكون «إسرائيل» شريكاً في الصفوف الخلفية فيها. ولهذا فإنّ الخطة الإسرائيلية تتضمّن استهداف مواقع في سورية تدّعي بأنها «إيرانية» من أجل استدراج إيران للردّ على العمق الإسرائيلي بشكل يحمل أميركا على التدخل لحماية «إسرائيل» من دون انتظار مرور وقت إضافي او البقاء أسيرة ما يمكن أن تقوم به إيران رداً على الانسحاب الأميركي من الاتفاق.

في مقابل هاتين الخطتين قامت إيران بما يسفّه أحلام الفريقين الأميركي والإسرائيلي على حدّ سواء. ففي مجال الردّ على النكول الأميركي اتخذت إيران موقفاً ذكياً بعيد النظر محسوباً بدقة، بحيث إنها تمسكت بالاتفاق النووي واستندت الى تمسك أوروبا والصين وروسيا به، فأكدت استمرارها فيه طالما انه يؤمّن مصالحها بالتبادل الاقتصادي خاصة مع أوروبا، رغم التهديد الأميركي للشركات الأوروبية إنْ استمرّت بالتعامل مع إيران.

أما الردّ على الاستدراج والتحرّش الإسرائيلي فقد كان بارعاً ومؤلماً في الآن ذاته، حيث أرسيت قواعد اشتباك جديدة بين «إسرائيل» ومحور المقاومة عبر خط الفصل في الجولان، ورفضت إيران أيّ حديث عن مواجهة ثنائية بينها وبين «إسرائيل» على الأرض السورية احتراماً للسيادة السورية، وأكدت أنّ مَنْ واجه ويواجه «إسرائيل» هناك هي سورية وجيشها العربي السوري، وإذا كان من مساعدة تقدّم له من محور المقاومة وإيران فيه، فإنّ المساعدة تقدّم في إطار عمل معسكر الدفاع عن سورية.

أما في التأثير فإنّ الصواريخ الـ 55 التي انطلقت من الأرض السورية والتي اعترضت «إسرائيل» 11 صاروخاً منها فقط، فقد رسمت معادلات ردع جديدة فيها العمق بالعمق، ولكلّ عدوان ردّ، والقرار بالمواجهة متّخذ. وهو موضوع الآن موضع التنفيذ، أما في الزمان والوسيلة فهما مفتوحان وفقاً للظرف. وهكذا تكون إيران عبر محور المقاومة ورغم استماتة الإعلام الإسرائيلي ومَن معه، تكون قد عطّلت الخطة الإسرائيلية ولم تنجرّ إلى مواجهة ثنائية مع «إسرائيل» على الأرض السورية، بل عملت ضمن محور المقاومة مؤكدة طليعية الدور والقرار السوري في هذا الشأن، وعلى من انتقد الموقف الإيراني هذا أن يرتقي إلى المستوى الاستراتيجي في الفهم والسلوك، فيعرف كم أنّ هذا الموقف كان فطناً ومدروساً.

وفي النتيجة تكون إيران عطلت بخطة المواجهة التي اعتمدتها الخطة الأميركية والخطة الإسرائيلية معاً، ما يطرح السؤال حول ما يمكن لأميركا و«إسرائيل» فعله بعد هذا وكيف يكون الردّ الإيراني عليه. وهنا نرى:

1 ـ أنّ «إسرائيل» باتت في حكم العاجز عن شنّ حرب بمفردها على إيران، فقد تقوم بضربات صاروخية في سورية على أهداف تدّعي أنها إيرانية، لكنها ستخضع لقواعد الاشتباك الجديدة ولن تجازف وتوسّع الدائرة وتستدعي حرباً شاملة باتت إيران وكلّ محور المقاومة جاهزاً لها، رغم انه لا يسعى إليها الآن.

2 ـ إنّ إيران مستمرة في الاتفاق النووي بعد أن تعهّدت الدول الخمس الأخرى الالتزام به رغم الضغوط الأميركية، فإذا نفّذت تلك الدول وبالتحديد الدول الأوروبية الثلاث تعهّداتها واستمرّت العلاقات الاقتصادية بكلّ وجوهها قائمة بينها وبين إيران، فيكون الخاسر في الأمر الولايات المتحدة الأميركية والرابح أوروبا. ويكون القرار الأميركي قد سبّب عزلة أميركا سياسياً واقتصادياً من دون أن تتضرّر إيران منه بعمق.

3 ـ أما أميركا فستكون محرجة حيال التصرف الأوروبي وتصرف إيران. فأوروبا التي رغم وهنها في مواجهة أميركا، ترتفع فيها بين الحين والآخر أصوات تطالب بالقرار الاقتصادي المستقل أو بنوع من السيادة في القرار السياسي. وإذا نفذت أميركا تهديدها بمعاقبة أيّ شركة أوروبية تتعامل مع إيران، فإنها ستضع نفسها في مواجهة مع الاتحاد الأوروبي الذي يتوحّد من أجل حماية مصالح الدول الأعضاء فيه. وعليه فإنّ أوروبا أمام اختبار قاسٍ وفرصة لتتحلّل نوعاً ما من الهيمنة والسيطرة الأميركية، أما إذا خضعت للضغوط الأميركية وأمسكت العصا من الوسط فتظاهرت بالتمسك بالاتفاق والتزمت بالعقوبات الأميركية هنا يكون لإيران أن تقرّر كيف تحمي مصالحها. وهذا ما زالت إيران تؤكد عليه.

4 ـ وأخيراً نرى أنه مهما كانت القرارات التي سيتّخذها الأطراف، فإنّ الحرب لا زالت مستبعَدة، ولن تندلع برأينا إلا إذا كانت أميركا الشريك الرئيسي والأساسي فيها، بيد أنه في ظلّ الانقسام الأميركي القائم بين فريق الأمن الناري بقيادة بومبيو وبولتون وفريق البنتاغون بقيادة ماتيس، وفي ظلّ خشية الجميع من تدحرج الحرب واتساع نطاقها لتشمل المنطقة، ومع الشكّ الجدّي بالعجز عن وقف الحرب في لحظة يريدها مَن أشعلها، ومع القلق حول أمن «إسرائيل» وأمن النفط وأمن القواعد العسكرية الأميركية ومع الموقف الأوروبي الرافض أيّ مواجهة عسكرية تفتح الأبواب لتدفق النازحين إليها وتغلق أبواب الإمدادات النفطية، لكلّ ذلك ووفقاً للمعايير والقواعد التي تطبّق في تقدير الموقف العسكري والاستراتيجي لاتخاذ قرار بحرب، فإننا نستبعد الحرب التي يهوّلون بها الآن ونرى أنّ التهويل هو أقرب للحرب النفسية لليّ الذراع الإيرانية من غير قتال. وهو أمر مستبعَد.

أستاذ جامعي وباحث استراتيجي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى