«حرب الكلب الثانية»… بين أوديسا وغرنيكا
نادية عصام حرحش
استقبلت خبر جائزة «بوكر» لهذه السنة ببرود شديد. نظرت إلى كتب إبراهيم نصر الله المجمّعة على أحد رفوف مكتبتي وقلت في نفسي: «كان الأولى أن تبذلي جهداً أكثر في محاولة إتمام ما لديك من كتب مجمّعة». كنت بالطبع أفكّر بمكان للكتاب الفائز في مجموعتي، فالكتب تتزاحم على الرفوف، وتلك التي أحاول قراءتها وأتركها لأوقات مقبلة تكثر.
جائزة «بوكر» السابقة التي حصل فيها عمل كاتب فلسطينيّ على «بوكر»، شكّلت إحباطاً حقيقياً بالنسبة إليّ، جعلني أعزف عن انتظار ما يأتي من قوائم مرشّحة، وصرت بالحقيقة أحزن من فكرة وصول عمل ما إلى «بوكر».
وقلت في نفسي: «عمل آخر، سيتم فرضه على عقولنا للقراءة والتهليل له، ونحدّد من خلاله قيمة الإبداع والأدب، ونخطّ ذائقة عامّة جديدة تفرض علينا التوجّه في القراءة والكتابة نحو أسلوب وفحوى متراكمة باهتة لواقع تشوّهه حقيقة يتمّ زجّنا إليها».
إلا أنّ هناك التزاماً ما، لا أعرف ماذا أسمّيه، ربما يصبح حسّي الوطني في هذا الشأن صبيانياً بعض الشيء، فأجدني في وظيفة مكرّسة لدعم الفلسطينيّ، أيّاً كان. حصل على الجائزة… فلنصفّق وندعم ونفتخر.
هرولت لشراء الكتاب، وبدأت تصفّحه بحذر وبلا اهتمام حقيقيّ. أنا قارئة «شرّيرة» في هذا المجال. مهووسة بعض الشيء أو الكثير ، والقراءة بالنسبة إليّ عالم منفصل أدخل إليه من بوّابة مختلفة، أنفصل فيها عن العالم وأدخل في عالم، أوزّع فيه القواعد وأطلق الأحكام وأبدأ علاقات مع كتّاب وشخصيات إلى حدّ التماهي أو العداوة.
أخذتني العشرات من الصفحات لأترك انطباعي المسبق عن العمل، وأعترف مجدّداً، أنّ حكمي على الكاتب ليس له أيّ سبب أو مبرّر، هناك فقط ما لا يشدّ ذائقتك في القراءة في بعض الأساليب أو اللغة، بكلّ بساطة تختلف عن ذوقك العام، فقد تكون هذه الأعمال عظيمة وتعجب الغالبية بانبهار. وحظّ ابراهيم نصر الله هكذا معي. فلو كان هذا الكتاب في قراءة عادية، لتركته بعد الصفحة العاشرة، وفي قراءة اعتبرها استثنائية كهذه كنت سأتركه بالصفحة الخمسين. عند القراءة أصبح انتقائية لدرجة مرعبة، فما سيدخل كياني من كلمات يجب أن يدخل بعناية شديدة ـ هوس رسمي ـ كنت أقرأ الصفحات الأولى محاوِلةً أن يشدّني الكتاب، أخذني إلى «العربي الأخير» لواسيني الأعرج، ولم يكن ذلك مصادفة، لأنني كنت أقرأها قبل أسابيع قليلة. ولكن هناك في ذائقتي ما يأخذني إلى أعمال أورويل وماركيز وكافكا بصورة مباشرة، ولا أعرف لماذا تتربّع أمامي أغلفة كتبهم عندما أبدأ بقراءات محدّدة.
استغربت لوهلة تربّع «العربي الأخير» أمام المشهد الأورولي في صفحات الكتاب. وبتهكّم قلت في نفسي: «لا بدّ أنّها الموضة اليوم… والعربي الأخير يبدو أكثر إثارة في صفحاته المئة الأولى بكثير». بدأت بإطلاق الأحكام من خلال مقارنات متهكّمة بين الكتابين وقلت إنّ ما يميّز الإثنين محدودية الخيال. أُعجَب بخيال واسيني الذي يعبر بين الكتب المهمّة، ولكن هناك ما يوقفه في مكان لا يصل إلى أورويل أو كافكا.
ابراهيم نصر الله، كان عديم الخيال بالنسبة إليّ. شعرت وكأنني أشاهد فيلماً عربياً مبنيّاً على سيناريوات مركّبة بممثّلين بالكاد يعرفون التمثيل.
إلّا أنّني كنت قد دفعت ثمن التذكرة، ولقد أغلقت بوّابات العرض فكنت مضطرة للاستمرار في المشاهدة… القراءة.
بعد الصفحة الستّين، استسلم تهكّمي، وغادرت الحبكة من «العربي الأخير». بكلّ تأكيد إنها مصادفة، ولكنّني أنصح بقراءة «العربي الأخير» لمن يريد أن يستمتع برحلة «حرب الكلب الثانية».
تناثر «العربي الأخير» تحت ركام الزمن لأشعر بنفسي وكأنّني أحلّق على ركب هومر و«الأوديسا»، ثمّ أتوه في سماوات دانتيه و«كوميديّته الإلهية»، ويمرّ أمامي ماركيز مع غانياته وتختلط الأوبئة بـ«حبّ في زمن الكوليرا» وتتدارك الأحداث في تيه «مئة عام من العزلة».
فنّان مجنون يحمل ريشة ويخلط فيها الألوان وتخرج ملهاة تلهث بها كما يلهث الكلب في الحروب المبرمة بِاسمه.
«حرب الكلب الثانية»، ملهاة إنسانية تأخذك إلى آفاق غير مرئية، تخشاها وتهاب سطوتها على أفقك المحمي بما تظنّه من أوهام. مواجهة مرعبة مع واقع نتحوّل فيه إلى أشباه، فأعداء. تحوّل من قبلية نتجمّع تحت اسمها إلى استنساخ لما نهواه أو يستحسنه أحدهم فيتحوّل إلى عدوّ لدود. مرآة ينظر فيها المرء إلى نفسه فلا يعرف إن كان هو الأصل أم النسخة.
لوحة فنّية بملهاة أدبية، بيكاسو في أعمال متداخلة، تشكّل جدارية أبدع فيها ابراهيم نصر الله، «المرأة الناحبة»، «العري»، الأوراق الخضراء»، «فتاة أمام المرآة»، «رأس امرأة»، وعمل تلو العمل في وجوه بيكاسو العجيبة، لتنتهي بجدارية «غرنيكا!
ما قدّمه ابراهيم نصر الله في «حرب الكلب الثانية» لوحة أدبية تستحق الاحتفاء.
وما قدّمه من خيال يختلط فيه الواقع أكّد لي أنّ خيالي بلا شك محدود… أو بالأحرى معدم.
كاتبة وروائية فلسطينية