الريشة واللون يبدعان الوجه والمنظر الطبيعيّ والمَعْلم السياحيّ وسمات الإنسان المصريّ

في الذكرى الخمسين لغياب الفنّان التشكيليّ المصريّ الكبير محمود سعيد، كتب جابر بسيوني من القاهرة: محمود سعيد فنان تشكيلي قدَّم في لوحاته تجربةً فنية رائدة تجسّد من خلال الألوان ملامح مصر، وتعدَّدت إبداعاته في رسم الوجوه والشخوص التي تعكس سمات الإنسان المصري مثل لوحاته: «ذات العيون العسلية» 1943 ، «فتاة» 1948 ، «السيدة أمام النيل» 1936 ، «أمومة» 1953 ، «ذات الرداء الأزرق» 1927 … وتجلت في تصوير الأماكن المصرية التي تتميز بالجغرافيا الخلابة وأهليّتها لأن تكون مزاراتٍ سياحية، وعبَّر بريشته وألوانه عن أهم حوادث مصر التاريخية كما في لوحته المشهورة «افتتاح قناة السويس»، فاستحق لقب رائد الفن المصري الحديث.

ولد محمود سعيد في الاسكندرية في 8 نيسان 1897، وتوفّى في اليوم نفسه عام 1964، بعدما تَبَّرع بقصره في شارع محمد سعيد باشا، في حي جناكليس في الإسكندرية لوزارة الثقافة التي حوّلته قصراً ثقافياً يضم مجموعة من المتاحف الفنية وبينها متحف سيف وأدهم وانلي، وأطلق عليه «مركز محمود سعيد للمتاحف في الإسكندرية».

كان لنشأته في أسرة ثرية مثقفة ذات وجاهة اجتماعية أثر كبير في تشكيل شخصيته واتجاهه إلى دراسة القانون، بالإضافة إلى بزوغ موهبته الفذة في الفن التشكيلي، فوالده هو محمد سعيد باشا رئيس وزراء مصر في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني بين عامي 1910 و1914، ولفترة ثانية عام 1919 بين 20 آيار 1919 وتشرين الثاني 1919 .

والد الفنان، محمد سعيد باشا، في الإسكندرية في 18 كانون الثاني 1863 لأسرة ذات أصول تركية. تلقى علومه في المدارس المصرية وتخرّج في كلية الحقوق، ثم عيّن وكيلاً للنيابة أمام المحاكم المختلطة عام 1881 ونقل إلى النيابة الأهلية عام 1889، وتولى رئاسة نيابة الإسكندرية الأهلية، ورقِّي عام 1895 مفتشاً للرقابة القضائية ثم ترقى في وظائف القضاء حتى عُين مستشاراً في محكمة الاستئناف الأهلية عام 1905. ثم تولى منصب رئيس النظارة من 1910 حتى 1914، وتولى فيها منصب ناظر الداخلية. ساهم في الحركة الوطنية، وكان من أنصار الزعيم مصطفى كامل، ورغم ذلك اتخذ موقف المعارض للحزب الوطني لدى وصوله للسلطة. انضم إلى الحزب الوطني أثناء تأليف الوفد الذي يطالب باستقلال مصر عام 1918 وطالب بوفد ثان شكله الأمير عمر طوسون لمواجهة وفد سعد زغلول وزملائه، وأدى الموقف الحازم للسلطان حسين كامل إلى إنهاء طموحهما وانتهى الأمر بتوحيد الوفدين تحت رئاسة سعد زغلول. ثم تولى رئاسة الوزراء للمرة الثانية أثناء ثورة 1919 وتولى فيها منصب وزير الداخلية، وقدّم استقالته في 19 تشرين الثاني 1919 احتجاجاً على إرسال لجنة ملنر إلى مصر، بيد أن بريطانيا أقدمت على ذلك ولم تنتظر توقيع تركيا معاهدة الصلح.

كان لانتماء محمد سعيد باشا إلى أسرة قانونية أثر في توجيه الابن محمود إلى الاتجاه نحو دراسة القانون وحصوله على ليسانس الحقوق عام 1919 وسفره إلى باريس لاستكمال دراسته العليا، وهناك تعرف إلى الفنون الأوروبية لدى التحاقه بالقسم الحر في أكاديمية «غراند شومبير» لسنة، ثم أكاديمية جوليان، وعشق متابعة التجارب الفنية التشكيلية لرواد هذا الفن المعروفين، إلى جانب متابعة أعمال المعاصرين منهم، ومشاهدة المقتنيات الفنية في متاحف باريس ومعارضها والقراءة حول تاريخ الفن في كل من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا. ظهرت موهبته الفنية في سن ناكرة بفضل اهتمام الأسرة بالفنون والآداب وحرصها على تنمية موهبة ابنها، إذ عهدت به إلى فنانة إيطالية لقنته دروساً فنية في منزله. وعندما تخصص في دراسة الحقوق في جامعة القاهرة صقل موهبته الفنية ودرس الفنون في بعض المراسم الخاصة، قبل السفر إلى باريس وانطلاقه في سماء الفن والثقافة هناك.

يعتبر محمود سعيد أحد رواد الفن المصري الحديث ومن وأبرز فناني الحركة التشكيلية المصرية الحديثة بامتلاكه التقنيات الفنية والعناصر المرسومة وتوزيع الضوء والظلال والحركة في لوحاته، ومن أشهر لوحاته التي اتسمت بالتفرد والعذوبة والحيوية:

«بنات بحري» وتجسد فتيات رأس التين المعروف باسم حي الجمرك، وأيضاً حي بحري، وقد رسمهن في ردائهن بالملاءة الاسكندرانية في مشية شعبية أخّاذة تبرز دلالهن وجمالهن.

لوحة «فتاة مصرية على رأسها منديل» وتظهر فيها إحدى بنات مصر البلديات الريفيات وقد غطت رأسها ذا الشعر الأسود بمنديل أزرق تزينه خيوط صفراء بينما كشف عن جزء من صدرها على نحو يوحى حيويتها وصغر سنها وشبابها وابتسامة من شفتين عريضتين مكتظتين وعينين عسليتين تنظران في تأمل، ويقصد بذلك أن نصف الأنوثة لدى الفتيات المصريات، فمن سمات لوحاته حرصه على إظهار المرأة المصرية ذات خصب وحيوية وجمال طبيعي.

لوحة «مراكب الصيادين» ذات الأشرعة على نهر النيل، ولوحته للمصلين راكعين في خشوع وهم يضعون العمامات والعباءات، على نحو يوحي جو السكينة والخشوع.

لوحة «المتصوّفون» بطرابيشهم وثيابهم الفضفاضة، يمارسون طقوس الدوران حول أنفسهم في ساحة مسجد.

تأثر محمود سعيد بفن التصوير الفرعوني والقواعد الكلاسيكية للفنون الأوروبية في عصر النهضة، إلى جانب تأثره بدراسة القانون التي أكسبته الالتزام والنظام والدِّقة، وتتجلى هذه الحقيقة في أعماله الفنية التي توالت منذ منتصف العشرينات وحتى أواخر الثلاثينات، موظفة الأساليب الغربية في التعبير عن الذات الفردية والقومية. وفي الأربعينات اتجه نحو رسم البورتوريه أو الصورة الذاتية، ومن خلالها اهتم بإبراز العمق النفسي للشخصية. ثم اتجه في الخمسينات إلى رسم المناظر الطبيعية والمعالم السياحية على نحو يوحي الهدوء وترك المشاعر المتأججة والاتجاه إلى الطبيعة بأضوائها الهادئة الآمنة، منجزاً عدة لوحات تشبه إبداعات الفنانين العالميين مثل أعمال الفنان الإسباني غوبا. والمرحلة الأخيرة برزت عقب اعتزاله في آخر حياته الحياة العامة وفراغه من العمل في القضاء الذي تدرج في وظائفه حتى أصبح مستشاراً قانونياً.

من الطرائف التي رافقت رسمه إحدى لوحاته المشهورة «بائع العرقسوس» أنه رغم انتقاله للسكن في القاهرة وامتلاكه مسكناً آخر في حين جناكليس في الإسكندرية، إلا أنه كان يحن إلى مسقط رأسه في الحي الشعبي، وكان يجلس في أحد المقاهي الشعبية حيث أعجب ببائع العرقسوس، واتفق معه على رسمه كبائع عرقسوس، وتم ذلك على امتداد ثلاث جلسات فنية في محطة الرمل في الإسكندرية.

حرص محمود سعيد على إقامة المعارض لأعماله والمشاركة في الحياة الفنية المحلية والعالمية، ومنها معرضان في نيويورك عام 1937، ومعرض في الإسكندرية عام 1943، ومعرض لدى جمعية الصداقة المصرية ـ الفرنسية في الإسكندرية عام 1945، ومعرض في متحف الفنون الجميلة في الإسكندرية عام 1960 ضم 120 لوحة من لوحاته. كما أقيم معرض شامل للوحاته في متحف الفنون الجميلة في الإسكندرية عقب وفاته ضم 137 لوحة، علماً أنه شارك عام 1953 في معرض الربيع في القاهرة مع نخبة من الفنانين التشكيليين، كما شارك في المعارض الجماعية الدولية مثل: معرض باريس الدولي عام 1937، وبيينالي البندقية الدولي في أعوام 1938 و1950 و1952 ومعرض اليونسكو للفنانين العرب في بيروت عام 1953، ومعرض الفن المصري في الخرطوم عام 1953، والمعرض المصري في موسكو عام 1958 .

نال ميدالية الشرف الذهبية في معرض باريس الدولي عام 1937 عن الجناح المصري، ثم منحته فرنسا عام 1951 وسام الشرف وعام 1960 كان أول فنان تشكيلي يحصل على جائزة الدولة التقديرية للفنون وتسلمها من الرئيس جمال عبدالناصر.

عام 2010، أي بعد رحيله بـ 46 عاماً، حقّقت لوحته «الدراويش» التي رسمها عام 1935 للوحة في المنطقة العربية، إذ بيعت عن طريق صالة مزادات «كريستيز» العالمية بمبلغ 2.434 مليون دولار، وتعتبر أغلى لوحة رسمها فنان من الشرق في العصر الحديث، ما يؤكد على صدق تجربته الفنية ودوامها الإبداعي وحرص متذوقي الفن التشكيلى على تقديرها واقتنائها، فضلاً عن تعزيز اسمه كرائد للفن المصري الحديث.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى