البرنامج النووي والصاروخي والتدخل الإقليمي والقدس

د. رائد المصري

بهدوء… فهي ثلاثة عناوين كلُّ واحد يُفضي ويُزخِّم الآخر وصولاً الى القدس، وهذه العناوين المتعلِّقة بالبرنامج النووي الصاروخي الإيراني والتدخُّل الإقليمي وصولاً الى عزل وتهويد القدس، من ضمن مشروع صفقة القرن الذي وضع أوزاره بين مصر الأردن وفلسطين والسعودية، لتجري المقايضة التاريخية المُرَّة على حساب العرب وأرضهم ومقدَّساتهم…

وهذا منطقٌ طبيعيٌّ لأمَّة غير منتجة لم يَثبتْ وعيها الجمعي ولم يستقرّ على بناء منظومة مؤسسات حاكمة متطوِّرة وبعيدة عن الإنتاج الريعي، الذي حوَّل المجاميع البشرية العربية الى جيوش من العاطلين عن العمل. ولهذا تُمرَّر الصَّفقات وتُهدَر الكرامات…

لقد كان الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الـ 5+1 عام 2015 مقدِّمةً لمسار بناء النظام الدولي والإقليمي الجديد، وقطعة وازنة من هذا البناء الذي أُريد منه تثبيت شرعيات الدول، ومنع العَبَث بشؤونها الداخلية وإطاحة أنظمتها، وكذلك تعزيز الشرعيات الأممية وقرارات مجلس الأمن لكونها الضَّامن الوحيد للأمن والسلم الدوليين، إلاَّ أنَّ قواعد الإنتاج العالمي الذي حَكَم النظام الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة تغيَّر من دون أن تتغيَّر معه الأدوات اللازمة لضبط عمليات التوزيع والتنويع في الاقتصاد العالمي، وما كان مطلوباً من قِبَلِ الولايات المتحدة الأميركية في قواعد الإنتاج وعلاقاته من خلال العولمة الاقتصادية أصبح مكروهاً وممجوجاً بنظرها، لأنَّه خلَقَ رأسماليات تنافسية عبر العالم وبدأت تُزاحم منطق أميركا الاستعماري الذي بنته على أنقاض انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، ومن هذه الرأسماليات قوَّة وصعود الصين والدور الروسي وقوَّة إيران الإقليمية وحواملها الإيديولوجية المعادية للغرب ولـ»إسرائيل» لناحية إلغاء هذه الأخيرة وعدم الاعتراف بوجودها أصلاً….

أرادت أميركا عبر التخلُّص والانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وفرض العقوبات الاقتصادية عليها وجرِّ الدول الأوروبية لتأييدها في مواقفها، تأمين سلامة الموقف من أمن «إسرائيل» وضمان تفوُّقها التكنولوجي ومحاولة لجم الاندفاعة الإيرانية بحواملها الإيديولوجية الثورية المعادية للكيان الصهيوني من التمدُّد، لأنَّ أميركا اعتبرت أنَّ تفلُّت إيران بعد الاتفاق وعَتْقها وانفكاك العقوبات الاقتصادية الغربية عنها، سيُعطيها زخماً أكبر في الحضور الإقليمي وستكون مقرِّرة ولاعباً أساسياً إزاء توزيع الأدوار في المنطقة، بما يؤثِّر على منظومتين إثنتين: منظومة «إسرائيل» بعد أن باتَتْ على مرمى نار محور المقاومة والتهديد الدائم والقائم في كلِّ وقت عليها، ومنظومة دول الخليج التي خرج أحد أكبر لاعبيها الى الصفوف الخلفية بعد التطوّرات الميدانية الحاسمة في كلٍّ من لبنان وسورية والعراق واليمن ونقصد بها المملكة العربية السعودية…

فالعودة الى المربَّع الأوَّل وهو ما يعمل عليه الأميركي وحلفاؤه من العرب و»إسرائيل» ويطلب من الأوروبي المساعدة والضغط، في محاولة تطويع إيران وبدء القبول بتقديم تنازلات في إعادة التفاهم على بعض بنود مندرجات اتفاق إيران النووي، والتي تشمل القوة الصاروخية والباليستية كقوة نارية غزيرة أصبحت على مقربة من حدود فلسطين، وكذلك منع تمدُّد ولَجْم الحضور الإيراني الذي بات مقرِّراً وفاعلاً لدى أكثر من دولة عربية أصابتها عدوى التكفير والإجرام والقتل والانفصال، حيث كانت الترجمة الفعلية بالاعتداءات الصهيونية الأخيرة والمتكرِّرة على قواعد عسكرية سورية وإيرانية في الداخل السوري والردِّ على هذه الاعتداءات في الجولان المحتل، في إشارة لجسِّ النَّبض حول مدى وإمكانية توسُّع الحرب فيما لو استمرت «إسرائيل» ومعها أغلب العرب ومن ورائهم أميركا بالدفع للسير بصفقة القرن، حيث كان نقل السفارة الأميركية الى القدس أوَّل غيث المواجهة الجديدة التي بدأت ترسم خطوطها مع موقف عربي ضعيف ورخيص وموقف المؤتمر الإسلامي الأردوغاني لامتصاص حالات الغضب والاحتقان من دون فعل حقيقي، ليأتي الدور الروسي المطالب بخروج كلِّ القوات الأجنبية من سورية حتى قوة حزب الله وإيران والقوات الأميركية وغيرها كمخرج مقبول لمنع التدهور الحاصل.

فيكون السقف المرسوم بحدود الفعل الإيراني على الأرض السورية هو الثمن، والذي ستبقى القوات الروسية مرابضة عليها كضمانة مستقبلية من أيِّ شرٍّ يَمكره الغرب لسورية، ولفترة تكاد تكون كافية لاختبار المسرح السوري عسكرياً في الجنوب، واختباراً للشركات الأوروبية والفترة الممنوحة لها بالاستثمارات في إيران، وبالنسبة لقدرات إيران البالستية لن يتجرَّأ أحد على طرحها لا لدى الغرب ولا في الداخل الإيراني لأنَّها تُعزِّز دور المحافظين والراديكاليين الذين يرفضون أيَّ تسوية مع الغرب أو الجلوس معه، ومعها ستكون الفترة كافية لإبتلاع الموقف العربي لتهويد القدس وتمرير صفقة القرن الإسرائيلية بمشاريع استثمارية تُنعش الاقتصاد الفلسطيني والعمالة المصرية ويبيع ملك الأردن وصايته على الأماكن المقدّسة في فلسطين، ثمناً لبقائه على عرشه المهزوز والذي لا قيمة فعلية له، طالما أنَّ أصحاب الأماكن المقدَّسة الأصليين في مكة والمدينة ونظراءهم في بلاد النيل هم الأكفأ والأوْلى في بناء الجدار الانهزامي العربي من الآن ولخمسين عاماً مقبلة..

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى